الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (60)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60].
* * *
قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [الآلهة خيرٌ لعابديها {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}].
الجواب: بل من خلق السَّماوَات والْأَرْض، فَهُوَ خبر، وقوله:[الآلهة خيرٌ لعابديها]، نَقُول فيه مثل ما تقدَّم فِي قوله:[{خَيْر} لمِن يَعْبُدُهُ]، فالمُفَسِّر رحمه الله قدَّر مرَّةً ثانية، وهَذَا واضحٌ، وَعَلَى هَذَا فتكون (أم) مُتَّصِلَةً، والخيرَّية هنا مُطْلَقَة إذا صحَّ تقدير المُفَسِّر؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: إن قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ} للإضرابِ وليستْ للمقارنةِ، ويَكُون السؤال اسْتِفْهامًا مُطْلَقًا، يعني يَقُول: من الَّذِي خلق السَّماوَات والْأَرْض أإله مَعَ الله؟
فيَكُون قوله: {أَمَّنْ} : (أم) هَذِهِ للإضرابِ وليستْ متعلِّقةً بما سبقَ، فيَكُون تقدير الآيَة:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} فيَكُون الاسْتِفْهام هنا لَيْسَ للمعادلة، أَمَّا عَلَى رأي المُفَسِّر فجعل الاسْتِفْهام للمعادلة.
قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : (خلق) بمعنى أَوْجَدَ بتقديرٍ؛ لِأَنَّ الخَلْقَ لَا بُدَّ أن يسبقه تقدير، والإيجاد أعمُّ منه، فقد يوجد الشَّيْء بلا تقديرٍ، ولكِن الخلق لَا بُدَّ فِيهِ من تقديرٍ.
قوله: {السَّمَاوَاتِ} ، بعضهم يَقُول: السَّماوَات ليست مَفْعُولا بها؛ لِأَنَّهُ ما وقع عليها فعل الفاعلِ، إذ هِيَ لم توجد إِلَّا بفعلِ الفاعلِ، وإنما يقالُ: مَفْعُول مطلق وليست مَفْعُولا بها؛ لِأَنَّ المَفْعُول به يَقتضي أن يَكُون ما وقع عليه الفِعْل سابقًا عَلَى الفِعْل، وهنا السَّماوَات ليست سابقةً عَلَى خلقه، وَعَلَى هَذَا فقلْ: إنَّهَا مَفْعُول ولا تقلْ: به، فقُلْ: مَفْعُول فقط، لا به ولا فِيهِ ولا معه ولا له؛ لِأَنَّ المفاعيل خمسةٌ كما هُوَ معروفٌ؛ مَفْعُول غير معدّى بحرفٍ، ومَفْعُول معدى بحرف (الباء) أو بـ (في) أو بـ (اللام) أو بـ (مع).
أَمَّا المَفْعُول المطلَق فيَكُون بمعنى الفِعْل، مثل ضربتُ ضَربًا، ولا يعدَّى بالباء أو بـ (فِي)، فهَذِهِ المفاعيل.
لكِن هَذَا فِي الحقيقةِ منَ الفلسفةِ الَّتِي لَيْسَ لها معنى؛ لِأَنَّ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} معناها أوجدَ السَّماوَات، فالمَفْعُول به أو الفِعْل واقع عَلَى الإيجادِ، وإن كانتِ السَّماوَات قبلَ الإيجادِ ليستْ موجودة، فالإيجادُ سابقٌ عَلَى الموجودِ؛ لِأَنَّ به يَحْصُلُ الوجودُ، فلا حاجةَ إِلَى هَذَا التمحُّل، ونَقُول: وأيضًا {السَّمَاوَاتِ} مَفْعُول به، هم يَقُولُونَ: المَفْعُول به لَا بُدَّ أنْ يَكُونَ سابقًا عَلَى الفِعْل: (ضربتُ زيدًا)، فزيدٌ سابِقٌ عَلَى الضربِ، (أكلتُ الطعامَ)، فالطعامُ سابقٌ عَلَى الأكلِ، (صنعتُ الطعامَ) حوّلته من حال إِلَى حال، أيضًا سابق عَلَى الطعام.
قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : {السَّمَاوَاتِ} تُذْكَرُ بلفظ الإفرادِ والجمعِ
كثيرًا فِي الْقُرْآن، والأرض ما ذُكرتْ إِلَّا بلفظِ الإفرادِ، إِلَّا أن الله قَالَ:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، وإلَّا فبقيَّة الآيَات بل حَتَّى فِي هَذِهِ الآيَة ما ذُكرت إِلَّا مفردةً، ولم يقل:(ومنَ الْأَرَضين مثلهنّ)، لَكِنَّها وردتْ فِي السنّة مجموعةً ومبيَّن أَنَّهَا سبع.
قوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : (ماء) هل هِيَ مَفْعُول أو مَفْعُول به؟
مَفْعُول به، لِأَنَّ الماء موجود.
قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ} اللام للتعليل أو للإباحة، ولَكِنَّهَا للتعليل أبلغ؛ لِأَنَّهَا إذا كانت للتعليل شَمِلَتِ الإباحةَ وشَمِلَتْ ما يَكُونُ به النفعُ من هَذَا الماء وإنْ لم يلامِسْها.
قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} المُراد بالسَّمَاء هنا العُلُوّ، والدَّلِيل عَلَى ذلك أنَّ الماءَ هَذَا ينزل منَ السَّحابِ، وقد قَالَ الله تَعَالَى:{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164]، فدلَّ هَذَا عَلَى أن المُرادَ بالسَّمَاءِ هنا العلوُّ.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا} فِيهِ التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إِلَى التكلُّمِ]، الغَيبة فِي قوله:{أَمَّنْ خَلَقَ} وقوله: {وَأَنْزَلَ} ، وهنا قَالَ:{فَأَنْبَتْنَا} ، والالتفاتُ فِيهِ فوائدُ الانتباهِ لِئَلَّا يَنساب معه المخاطَب وَيغْفُلُ عنه، وهو من المحسّنات البديعيَّة.
قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} قَالَ المُفَسِّر: [{حَدَائِقَ} جمع حَدِيقة، وَهُوَ البُستان المَحُوط]، يعني الَّذِي عليه حائطٌ [{ذَاتَ بَهْجَةٍ} حُسْن]، فالبهجة بمعنى الحُسن؛ لِأَنَّ القلب يَبْتَهِجُ بها وَينْشَرِح
بها الصدرُ، وهَذَا أمرٌ معلومٌ، لا سيما لِعُشَّاق الحدائقِ، وإلّا فبعض النَّاس لا يُهِمُّه سواء كَانَ فِي الحديقة ما يُبْهِج أو لا، لكِن عشّاق الحدائق يجدون لذَّة عظيمة فِي مثل هَذِهِ الحدائقِ الَّتِي بها هَذَا النبات العظيم.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} : {مَا كَانَ} بمعنى: مُمتنِع غاية الامتناع، وهي نظيرُ قولِه تَعَالَى:{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، أي: مُمتنِع عليه، فـ {مَا كَانَ لَكُمْ} أي: ما صحَّ لكم، وما أمكن لكم أن تُنْبِتُوا شجرها؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِكُم عَلَى ذلك، لَيْسَ فِي مَقْدُورِكُم أنْ تُنْبِتُوا هَذَا الشجرَ.
فَإِذَا قَالَ مُجادِلٌ: بل فِي مقدوري، فآتي بنوى التمر وآتي بحبّ وأَحْرُث الْأَرْض وأضعه فيها.
قُلْنَا: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64]، نعم أنت فعلتَ السَّبَب، لكِن هل خلقتَ هَذَا، هل فَلَقْتَ الحبَّ والنوى؟ أبدًا.
وإذا جادل مجادِلٌ بمثلِ ذلكَ قُلْنَا له مثل ما قَالَ إبراهيمُ صلى الله عليه وسلم للذي {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، فنَقُول له: إذا كنتَ أنت فعلت هَذَا فهَذِهِ الشَّمْسُ تأتي منَ المَشْرِقِ فأتِ بها من المغربِ.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{أَإِلَهٌ} بتحقيقِ الهمزتينِ وتسهيلِ الثَّانِيَةِ وإدخالِ ألفٍ بينهما عَلَى الوجهينِ فِي مواضعِهِ السبعةِ]، وأين مواضعه السبعة؟
فِي الآيَات الآتية، هَذَا واحد، وننظر هل كلام المُفَسِّر صحيح أم لا.
قَالَ المُفَسّر: [{مَعَ اللَّهِ} أعانه عَلَى ذلك]، يعني أو انفردَ بشيءٍ منه، فالمعية هنا
تَقتضي -كما قَالَ المُفَسِّر - المُعَاوَنَة إذا كَانَ مصاحبًا له، أو الانفراد ببعض الخلق إذا كَانَ غيرَ مصاحب له، هَذِهِ الحديقة مثلًا فيها نخل ورُمّان وعِنَب، هل مَعَ الله إلهٌ شاركه فِي إيجاد النَّخل والرُّمَّان والعِنَب، أو أوجد النَّخلَ واللهُ أوجدَ الرمانَ والعنبَ أو مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؟
إِذَنْ: قول المُفَسِّر: [أعانه]، ينبغي أن يُقال: أوِ انفردَ بشيءٍ منها. وقلت ذلك لِأَنَّ الله يَقُول: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} هَذَا الانفراد، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} هَذِهِ المشاركة عَلَى وجه الشيوع، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]، هَذِهِ المعاونة، وإن لم يكن شريكًا، ما عاوَنُوا الله جَلَّ وَعَلَا. {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} [سبأ: 23]، هَذَا التوسُّط للعابدين إِلَى الله، إذن بأي شَيْء يتعلقون؟ فإذا قَالُوا: إن آلهتهم لا تفعل.
قُلْنَا إِذَنْ: لماذا تعبُدُونها، فكل ما يمكن أن يتعلَّق به المُشْرِكُون بالنِّسبة لأصنامهم نُفِيَ فِي هَذِهِ الآيَة {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} انظر بلاغة الْقُرْآن.
فالحاصل: أن قوله: [{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه} أعانه]، نَقُول أيضًا: أوِ انفردَ بشيءٍ أو شاركَ فِي مُلْكِه، فلا أعان اللهَ ولا شاركَهُ ولا انفردَ بشيءٍ مِن مُلْكِهِ، أي: لَيْسَ مَعَه إله.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل المَعُونَةُ تدخلُ فِي المشاركة؟
فالجواب: لا؛ لأنك قد تُعينني مثلًا عَلَى إصلاح شيءٍ فِي بيتي وَلَيْسَ لك فِيهِ شركة، بل كلُّه لي.
وقَالَ المُفَسِّر رحمه الله أيضًا فِي قوله تَعَالَى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه} : [أي لَيْسَ معه إله]،