الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (27)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)} [النمل: 27].
* * *
قوله: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} يقوله سُلَيْمَان، والسينُ -كما تقدَّم- تَدُلّ عَلَى التحقيقِ مَعَ التراخِي، {سَنَنْظُرُ} معناه أنَّ نَظَرَنا هَذَا محقّق لَكِنَّهُ سيَكُونُ له مُقَدِّمات، فهي تدلُّ عَلَى التأكيدِ.
قوله: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} ولم يَقْبَلْ كلامَه من أوَّل الأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ خَشِيَ أن يَكُونَ أتى بذلكَ دفاعًا عن نفسِهِ، ونظيرُ هَذَا ما سَلَكَهُ عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه مَعَ أبي مُوسَى الأشعريِّ حينَ استأذنَ ثلاثًا وانصرفَ ثُمَّ حَدَّثَه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمر بذلكَ، فطلبَ منهم أنْ يَشْهَدُوا له، فالتُّهَم أو عَدَم الثِّقَة بالقَوْل لها أَسْباب، مِن جُمْلَتِها أنْ يَكُونَ المُخْبِر عَلَى هَذَا الوصفِ، يَتَضَمَّن إخْبَارُه دفاعًا عن نفسِه، فهنا مهما كَانَ منَ الثقةِ تجدُ أنَّكَ تَتَرَدَّد فِي قَبُولِ هَذَا الخَبَرِ.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} فيما أَخْبَرْتَنَا به {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} هو أي: منْ هَذَا النوعِ، فَهُوَ أبلغُ مِن: أمْ كَذَبْتَ فيه].
قوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الأوَّل صَريحٌ أَنَّهُ فِعل، وهنا قَالَ رحمه الله:[{أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي من هَذَا النوعِ، فَهُوَ أبلغُ مِن: أمْ كذبتَ)؛ لِأَنَّ قوله: {مِنَ الْكَاذِبِينَ} يَدُلّ عَلَى الوصفِ الدائمِ، فَهُوَ أبلغ من قوله: [أم كذبتَ]؛ لِأَنَّ
[أمْ كَذَبْتَ] فِعلٌ، والفِعْل قد يَكُونُ مرَّة لكِن {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} هَذَا وصفٌ يَدُلّ عَلَى استمرارِ الكذِبِ فيه، هَذَا ما قَرَّرَهُ المُفَسِّر رحمه الله.
وعندي: أن فِي تعبير سُلَيمان للهدهد لَبَاقَة؛ لِأَنَّ مُصارَحَتَه ومقابلته بِقَوْلِهِ: [أمْ كَذَبْتَ] أَشَدُّ وقعًا من قوله: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، يعني أن قوله:{أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أهونُ مِمَّا لو قَالَ: أم كذبت، فهي فِي الحقيقة من جِهَةٍ أشدّ، وهَذَا بالنظر إِلَى أن قوله:{أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وصفٌ لازِمٌ، ومن جهة المخاطبةِ أهونُ من قولِه: أمْ كَذَبْتَ، فهَذَا وجهُ الاختلافِ بين قولِه:{أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، وقول المُفَسِّر:[أم كذبتَ]، وكلُّ قولٍ له وجهٌ، لا تعارضَ بينهما.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل يَحِقُّ لسُلَيْمَان أنْ يَصِفَ الهدهدَ بمجرَّدِ هَذَا الفِعْل وصفًا مُطْلَقًا بالكذِبِ؟
فالجواب: المُرادُ بالكاذبينَ الَّذِينَ مِن دَأْبِهِمُ الكذِبُ، فكون هَذَا من الكاذبينَ إمَّا أَنَّه من دأبِهِ الكذِب أو فِي جُمْلتِهم، وقد يكذِب مرَّةً واحدةً، وسُلَيْمَان أيضًا ما وَصَفَهُ؛ لِأَنَّهُ قال:{أَصَدَقْتَ} مقابل قوله: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فلا يُعلم هل يَكُونُ مُتَّصِفًا بِقَوْلِهِ: {أَصَدَقْتَ} أو بِقَوْلِهِ: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، فما وَصَفَهُ، بل هُوَ مُتَرَدِّدٌ، يُنْظَر، لكِنْ لو ثَبَتَ الكذبُ فهل يَحِقُّ أنْ يُوصَف بأنه من الكاذبينَ؟
الجواب: لا يَحِقّ أنْ يُوصَف بأنه من الكاذبينَ المتَّصِفين بها دائمًا، ولكِن -كما تَقَدَّمَ- هَذَا من بابِ التلطُّف فِي الخِطاب، فكونه من الكاذبينَ هَذَا أشدُّ إذا كَانَ وَصْفه الكَذِب، وكونه لم يُخاطِبْه وقال: أمْ كذبتَ يَكُون أهونَ، مثل قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم للضيوف:{سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25]، لم يقل: أُنْكِرُكُم، لا أَعْرِفكم، بل قَالَ:{سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} وهَذَا من بابِ التلطُّفِ فِي التعبيرِ.