الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (42)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ} لها {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} أي: أمِثلُ هَذَا عرشك؟ {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} فعَرَفَتْه].
قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْ} يَعْنِي: إِلَى سُلَيْمَان ونظرتْ إِلَى العَرْش قيل لها: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} ؟ والقائل إمَّا سُلَيْمَان أو أحدُ جُنُودِهِ، ولم يُبَيَّنْ؛ لِأَنَّ المقصودَ معنى هَذَا القَوْل دون قائله.
وقوله: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} الاسْتِفْهام هنا عَلَى حقيقتِه، والمُراد به الاستخبار، والهاء للتنبيه، والكاف حرف جرٍّ، حالتْ بين هاء التنبيه واسم الإشارةِ، مَعَ أن هاء التنبيهِ تَقْتَرِنُ باسمِ الإشارةِ، لكِن الكاف تَحُول بينها وبينَ اسمِ الإشارةِ لمباشرةِ حرفِ الجرِّ للمجرور، ولكِن أيضًا هُوَ خَاصّ بالكافِ، لو أَنَّك أتيتَ بحرفِ جرٍّ سِوَى كافٍ ما جازَ أنْ تَفْصِلَ بينه وبينَ اسمِ الإشارةِ، لو قلت مثلًا:(أهلذا) حضرتَ؟ لا يصحُّ، يعني ما يُفصَل بين اسمِ الإشارةِ وبينَ هاءِ التنبيهِ بأيِّ حرفٍ من حروفِ الجرِّ إِلَّا بالكاف فقط.
إِذَنْ نَقُول: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدَّمٌ، وعرشك مبتدأ مؤخَّر،
وتقديم الخبر هنا جائز وليس بواجبٍ؛ لأجل الاسْتِفْهامِ؛ لِأَنَّ له الصَّدارَةَ.
وهنا ما قَالُوا: أهَذَا عرشك؟ بلْ قَالُوا: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} يعني هل عَرْشُكِ مثل هَذَا؟ هِيَ أجابت بمثل ما سُئِلَتْ عنه، فقالت:{كَأَنَّهُ هُوَ} و (كأنَّ) للتشبيهِ، ولم تقل: إنَّهُ هُوَ، ولم تنفِ السَّبَب لأَنَّهُ مشابِهٌ لعرشها من حَيْثُ الأَصْلُ، ومخالِف له من حَيْثُ الصِّفةُ؛ لِأَنَّهُ غُيِّر، وهَذَا أيضًا من ذكائها أَنَّهَا لمّا وقع فِي نفسها أَنَّهُ عرشها لكِن تغيَّرتْ صِفته قالت:{كَأَنَّهُ هُوَ} والجوابُ مطابِقٌ للسؤالِ، والمُفَسِّر سَلَكَ فِي هَذَا مَسْلَكًا غريبًا؛ قَالَ رحمه الله:[فَعَرَفَتْه وشَبَّهَتْ عليهم كما شَبَّهُوا عليها، إذْ لم يَقُلْ: أهَذَا عَرْشُكِ؟ ولو قيل: هَذَا لقالتْ: نعمْ]، قوله: شَبَّهَتْ عليهم، أي: لَبَّسَت عليهم، وَلَيْسَ المُرادُ التشبيه، وجوابها مطابِق للسؤالِ ومطابِقٌ لِمُقْتَضَى الحالِ، أَمَّا مطابقته للسؤالِ فلأنه قيل لها:{أَهَكَذَا} يعني أهو مثل هَذَا؟ فَكَانَ الجواب: {كَأَنَّهُ هُوَ} ، وَأَمَّا مطابقته لمقتضى الحال فلأن المَرْأَةَ رأتْ أنَّ العَرْش قد غُيِّر، فلم تَجْزِمْ بِنَفْيِهِ ولم تَجْزِمْ بإثباتِه، فإن نُظِر إِلَى أصلِ العَرْش فَهُوَ هو، وإن نُظِرَ إِلَى صِفَتِهِ فليسَ إيَّاه، لذلك كَانَ جوابها جيدًا جدًّا، وَلَيْسَ فِيهِ تشبيه كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله، ولو قَالُوا: أهَذَا عَرْشُكِ، لا ندري هل تقول: نعم أو تقول: {كَأَنَّهُ هُوَ} ؟
وجَزْمُ المُفَسِّر بأنها تقول: نعم، لَيْسَ بصحيحٍ؛ لِأَنَّ المَرْأَة ذكيَّة جدًّا، والْإِنْسَان إذا حصلَ له مثل هَذِهِ الحالِ فإنه لا يَجْزِم بأن ما شاهده هُوَ ما كَانَ يعرفه من قبل، بل إنَّ مُقْتَضَى الحزمِ والتحرُّز أن يقولَ:{كَأَنَّهُ هُو} ، هَذَا مُقْتَضَى الحزمِ، لا سيما مَعَ القرائنِ الَّتِي تُبْعِدُ أنْ يَكُونَ إيَّاه كما فِي هَذِهِ القصةِ، فَإِنَّهُ عرش مَحُوط مَحْرُوس من مكانٍ بعيدٍ، فيَبْعُد أن يَمْثُلَ أمامها فِي هَذهِ الحالِ.
المهمُّ الْآنَ أننا نأخذ من جوابها هَذَا ذكاءها من وجهينِ:
أولًا: أَنَّهَا أجابتْ بجوابٍ مطابِقٍ للسؤال.
وثانيًا: أَنَّهَا أجابتْ بجوابٍ مطابِقٍ لمقتضَى الحالِ؛ إذ الجزمُ بهَذَا تسرُّع، ونفيه تباطُؤٌ أيضًا لاحتمالِ أنْ يَكُونَ إيَّاه.
ثم قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [قال سُلَيْمَان لمَّا رأى لها معرفةً وعِلمًا: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}]، ووجهُ ارتباطِ هَذِهِ الجملةِ بما سبقَ أن سُلَيْمَان أرادَ أنْ يَتَحَدَّثَ بما أنعمَ اللهُ به عليه منَ العلمِ، والعلمُ يشملُ العلمَ الشَّرْعِيَّ ويشملُ العلمَ بقواعدِ المُلْكِ ومُثبِّتاته، ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، يَعْنِي: كَأنَّ الملأ من قومه لمّا رأَوْا ما رأوا من ذكائها ومعرفتها وتحرُّزها وتثبُّتها رأوا أمرًا عظيمًا، فأراد سُلَيْمَان صلى الله عليه وسلم أن يُذَكِّرَهُمْ بما هُوَ أعظمُ من ذلك، وَهُوَ ما آتاهم الله تَعَالَى منَ العلمِ السابقِ والإِسْلامِ {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} .
ويرى بعضُ المفسِّرين أن قوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} من قول المَرْأَة وأن المسألةَ متَّصِلة، وَيكُون قوله:{مِنْ قَبْلِهَا} أي: من قبل هَذِهِ القضية، أي أننا عندنا علم من قبلِ هذه القضيةِ، فلا تعجبوا من عِلْمِنَا بهَذَا فإنَّ لنا عِلمًا سابقًا، ولكِن هَذَا الاحتمال وإن ذُكِرَ بعيدٌ، والصَّوابُ أنَّ هَذَا من قول سُلَيْمان عليه الصلاة والسلام يتحدث فِيهِ بنعمةِ اللهِ سبحانه وتعالى عليه وَعَلَى قومه السابقة لمعرفة هَذِهِ المَرْأَة.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إن قوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} يَدُلّ عَلَى أن قائل: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} هُوَ سُلَيْمَان صلى الله عليه وسلم لا أحد جنوده؟
فالجواب: محُتْمَل، لكِن لا يَتَعَيَّن من قوله:{وَأُوتِينَا} ؛ لِأَنَّهُ قد يقوله أحد جنوده، ثُمَّ يتكلم سُلَيْمَان بَعْد ذلك بعدَما تَحْصُل هَذِهِ المشاهدةُ، فيقول:{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} .