الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكِنَّه لَيْسَ بصحيحٍ، بل {عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} مُتَعَلِّق ب (هادي)، وَيكُون (هادي) بمعنى صارفٍ؛ لِأَنَّ الهدايةَ تَتَضَمَّنُ أمرينِ: الصَّرْف عنِ الضلالِ، والدلالة عَلَى الحقِّ، فيقول: ما أنتَ بصارفٍ هَؤُلَاءِ عن ضلالتهم إِلَى الحقِّ.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{إِنْ} ما {تُسْمِعُ} سماعَ إفهامٍ وقَبُولٍ {إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} مُخْلِصُون للهِ تَعَالَى بِتَوْحِيدهِ].
قوله: [{إِنْ} ما]، أي (إنْ) بمعنى:(ما)، ونحن ذكرنا قَبْلُ أن {إِنْ} تأتي لعدةِ أمورٍ: فتأتي شرطيَّة، وتأتي نافيةً، وللتَّوكيدِ، وهي المخفَّفَةُ مِنَ الثقيلةِ، وتكون زائدةً، فالزائدة فِي قوله
(1)
:
بَنِي غُدَانَةَ مَا إنْ أَنْتُمُ ذَهَبٌ
…
وَلَا صرِيفٌ وَلَكِنْ أنتُمُ الخَزَفُ
فقوله: (ما إنْ أَنْتُمُ) أي: ما أنتم، ولهَذَا قَالَ ابن مالِكٍ
(2)
:
إِعمالَ لَيْسَ أُعْمِلَتْ (مَا) دُونَ (إِنْ)
…
مَعَ بَقَا النَّفْيِ وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ
إعمال (ما) دون (إنْ) يَقْصِد ب (إنِ) الزائدة، ومَثَّلُوا لها بالبيتِ السابقِ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى:
أنَّ الميِّتَ لا يَسْمَع، والمُراد بالميِّت هنا مَيِّت القلب، أو الموتى مَوْتَى الأجسامِ عَلَى سبيلِ التمثيلِ. فإذا كَانَ ميِّتَ القلبِ فالأَمْرُ ظاهرٌ أَنَّهُ لا يَسْمَعُ سماعًا يَنتفِع به، وإلَّا فَهُوَ يَسْمَعُ سماعَ إدراكٍ لَكِنَّهُ لا يَنْتَفِعُ به.
الْفَائِدَة الثَّانِيَةُ:
استدلَّ بهَذ الآيَةِ مَن قَالَ: إنَّ الموتى فِي قُبُورِهِم لا يَسْمَعُون.
(1)
من شواهد الأشباه والنظائر (3/ 340)، وأوضح المسالك (1/ 274)، والأشموني (1/ 254).
(2)
ألفية ابن مالك - فصل في ما ولا ولات وإن المشبهات بليس (ص: 20).
وهَذه المسألةُ اختلفَ فيها أهلُ العلمِ، مِنهم مَن قَالَ: إنَّ الموتى يَسمعون ولكِن لا يُجيبونَ، ومنهم مَن قَالَ: إنَّهُم لا يَسمعون، وَيَقْبَلُ ما وردتْ به السنَّة من سماعهم لكِنّه يَقْصُرُهُ عَلَى ذلك، فيقول: فيما عَدَا ذلك لا يَسْمَعُ الميتُ، والسنَّة وردتْ بأنَّ الميِّتَ إذا دُفِنَ وتولَّى عنه أصحابُه فَإِنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالهِمْ
(1)
، والسنَّة وردتْ بما ثبتَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ وقف عَلَى أصحابِ قَلِيبِ بَدْرٍ من المشركينَ وجعلَ يُؤَنّبهُم:"يَا فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ، يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا؟ ". فقَالُوا: يا رسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُون وأَنَّى يُجِيبُوا وقد جَيَّفُوا؟ قَالَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لمِا أَقُولُ مِنْهُمْ"
(2)
، فهَذَا الكَلامُ الْآنَ والمناداةُ كان عندَ الدفنِ أو عند إلقاءِ الميِّت أو تسليمِهِ للآخرةِ، فلا يَقتضي أن يسمعَ كُلّ وقتٍ.
ومن العُلَماءِ مَن قَالَ: إنَّهُ يَسْمَعُ كُلَّ وقتٍ، كشيخِ الإِسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّة
(3)
، ويَستدِلُّون بالحديثِ الَّذِي رواه ابنُ عبدِ البَرِّ وصَحَّحَهُ، وهو:"مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ فَرَدَّ السَّلامَ"
(4)
، فيُصَحِّحُونَ هَذَا الحديثَ، لكِن بعضهم يُضَعِّفه ويقول: إنَّهُ لا يَصِحّ
(5)
، ولكِنَّ هَذَا الحديثَ لا يَنبغي
(1)
رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يسمع خفق النعال، حديث رقم (1273)؛ ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النَّار عليه
…
، حديث رقم (2870)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (24/ 362 - 365).
(4)
الاستذكار لابن عبد البر (1/ 185) عن ابن عباس رضي الله عنهما. رواه الصيداوي في معجم الشيوخ (334)؛ والخطيب في تاريخ بغداد (6/ 137)؛ وابن عساكر في تاريخ دمشق (27/ 65)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
انظر: العلل المتناهية (2/ 911).
أنْ يَكُونَ هُوَ رَكيزةَ مَن يَقُول: إن الموتى يَسمعونَ، بل إنَّنا إذا قُلنا: الموتَى يَسمعونَ، قد نستدلّ بحديثٍ أصحّ مِن هَذَا، وَهُوَ ما ثبتَ عن النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ يزورُ المقبرةَ ويقول:"السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنيِنَ"
(1)
، وتوجيه السلام إليهم فِي الخطابِ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُم يسمعونَ، وإلَّا لكانَ يَقُول: السلامُ عَلَى أهلِ الديارِ مِنَ المُؤْمِنيِنَ، ولا يَقُول: عليكم.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إن هَذَا من بابِ قوَّة الاستحضار؟
قُلْنَا: قوَّةُ الاستحضارِ لا تَحتاج إِلَى الدُّنُوِّ، ولهَذَا نحن نَقُول:"السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيِّ" وإن كنَّا بَعيدينَ، ولا يُسَنُّ أن نَقُولَ الْآنَ هنا: السلامُ عليكم أهلَ الديارِ منَ المُؤْمِنيِنَ حَتَّى نَحْضُرَ إليهم، فدلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُم يسمعونَ.
يَبقى عندنا: إذا كانوا يَسمعون، فما هُوَ الجوابُ عن هَذِهِ الآيَة {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ؟
نَقُول: المُراد بالسماعِ سماعُ القبولِ إذا كَانَ المقصودُ بالموتى موتى القبورِ، أو السماع الَّذِي تَحْصُلُ به الإجابةُ، وسماعُ الإدراكِ الدنيويِّ هَذَا لا يُمْكِن، يعني لَيْسَ سماعُ الميِّتِ لمِا يَتكلَّم به الْإِنْسَان كإدراكِ الحيِّ؛ بل هُوَ سماعٌ لا نعرف كيفيَّته، إِنَّمَا هُوَ سماع لا يمكِن أنْ يُجِيب معه، إِلَّا إذا أرادَ اللهُ تبارك وتعالى إحياءَهُ وتكلَّم ونطقَ فهَذَا يُمْكِن، مثل صاحب البقرةِ فإنَّ صاحبَ البقرةِ ضَرَبُوه ببعضها فأحياه اللهُ وتكلَّم ومات، ولكِنَّه لم يَتكَلَّمْ ولم يُجِبْ إِلَّا بعدَ أنْ حَيِيَ حَياةً دنيويَّةً ثُمَّ أماته الله.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما وجه الدلالة من حديثِ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا
(1)
رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يُقَال عند دخول القبر والدعاء لأهلها، حديث رقم (974)، عن عائشة رضي الله عنها.
إِلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ فَرَدَّ السَّلَامَ"؟
فالجواب: وجهُ الدلالةِ من الحديثِ قوله: "إِلَّا رَدَّ عَلَيْهِ رُوحَهُ" فكلَّما سلَّم عليه أحدٌ ردَّ الله عليه رُوحه وعرَفه، إذن هُوَ يسمع.
على كُلّ حالٍ: الموتى لا يَسمعونَ كُلّ كلامٍ، فمثلًا لو مررتَ أنتَ وصاحبٌ لكَ بجوارِ قبرٍ وأنتما تتكلمانِ لا يَلْزَم من هَذَا أَنَّهُم يسمعونَ، لا يسمعون إِلَّا الخطابَ الموجَّه إليهم، وإن كَانَ ظاهرُ كلامِ الفقهاءِ أَنَّهُم يَسمعون حَتَّى ما لا يُخاطَبون به.
فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: هم يسمعون سلامنا فقطْ، وإذا كلّمناهم مرةً أخرى لا يسمعون؟
فالجواب: يَسمعون مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ إذا كَانَ السَّبَب فِي هَذَا السماعِ - الخطاب - خاطبناهم، وما دام الخطابُ إذا سَمِعُوه مرةً سمعوه مرةً أخرى فما المانِع.
وَلَوْ قِيلَ: إن الرُّوح تُنْزَع بَعْد السلام؟
نَقُول: الظَّاهرُ أَنَّهَا إذا رُدَّت فإنها إذا انتهى السلام لم تَسْمَعْ، فنحن نَقُول: كلَّما خُوطِبوا ردَّ اللهُ عليهم أرواحَهم فسمِعوا.
بَقيَ أن يُقالَ: هل يَسمعون بدونِ مخاطبةٍ؟
ظاهر كلام الفقهاءِ أيضًا أَنَّهُم يَسمعون، ولهَذَا قَالُوا: إن الميّتَ يتأذَّى بفعل المنكَرِ عندَه من قولٍ أو فعلٍ، وَعَلَى رأيِ الفقهاء - ولا أدري ما مُسْتَنَدُه - يَسمعون حَتَّى ما لم يُخاطَبُوا به، وعليه أيضًا يَكُون الْإِنْسَان إذا شَرَّفَ القبرَ بالأحجارِ الَّتي تُلْقَى عليه أو بالكتاباتِ أو بغير ذلك فإن الميتَ يتأذَّى به؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ المنكَر، فتشريف القبرِ وتمييزه عَلَى غير من القبورِ هَذَا منكَر ولا يجوزُ، فعلى كلامِ الفقهاءِ يتأذَّى الميِّت