الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (65)
* * *
قَالَ اللهُ عز وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من الملائكة]، الَّتِي فِي السَّماوَات [والنَّاسِ]، الَّذِينَ فِي الْأَرْض، وكذلك الجن {الْغَيْبَ} مَفْعُول (يَعْلَم)، و (مَن) فاعل (يَعْلَم)، و (الغيبَ) مَفْعُول، [أي: ما غاب عنهم]، فيَكُون الغيب عَلَى تقدير المُفَسِّر مصدرًا بمعنى اسْم الفاعلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ:[أي ما غاب]، و (غابَ) فِعل ماضٍ له فاعلٌ. والمصدر يأتي بمعنى اسمِ الفاعلِ كما تقول: رجلٌ عَدْلٌ بمعنى عادل، وله أمثلة، كما أن المصدر يأتي بمعنى اسمِ المَفْعُول كثيرًا.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{إِلَّا} لكِن {اللَّهُ} يَعْلَمُه]، جعل (إلا) بمعنى (لكِن) فيَكُون الاستثناءُ منقطِعًا عَلَى رأيِهِ.
ثُمَّ قدَّر المُفَسِّر (يَعْلَمُه) ليَكُونَ إعرابُ {اللَّهُ} مبتدأً و (يعلمه) خبره، وهَذِهِ الآيَة تحتاج إِلَى مناقشةٍ:
أولًا: لماذا عَدَلَ المُفَسِّر رحمه الله عن الاستثناءِ المتَّصل إِلَى الاستثناء المنقطِع؟
لِأَنَّهُ يَرَى أن الله تَعَالَى لا مكانَ له، فقوله:{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} ، {فِي السَّمَاوَاتِ} هَذِهِ متعلقة بمحذوف تقديره:(استقرّ)، كما هُوَ معروف أن صلة الموصول تُقَدَّر
بـ (استقرّ) أو (كَانَ) أو مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فيقول المُفَسِّر: إذا قلتَ: مَنِ استقرَّ فِي السَّماوَات أو مَن كَانَ فِي السَّماوَات والْأَرْض الغيبَ إِلَّا الله؛ لَزِمَ أن يَكُون الله تَعَالَى فِي السَّماوَات، فيَكُون له مكان، وهَذَا عِنْدَهم مُمْتَنِع، أي: عند المُفَسِّر ومن كَانَ عَلَى عَقِيدَتِهِ، هَذِهِ واحدةٌ.
ثانيًا: نَقُول له: إذا كَانَ الاستثناءُ مُنْقَطِعًا، فالمعروف أن الاستثناءَ المنقطِع إذا سُبِقَ بتامٍّ منفيٍّ يَجِب فِيهِ النصبُ، كما قَالَ ابن مالك فِي الألفيَّةِ
(1)
:
…
وَانْصِبْ مَا انْقَطَعْ
…
وَعَنْ تَمِيمٍ فِيهِ إِبْدَالٌ وَقَعْ
فالمشهورُ عندَ العرب أَنَّهُ إذا كَانَ الاستثناءُ منقطعًا وجبَ فِيهِ النصبُ، وهنا لَيْسَ منصوبًا، فقال: نحن نجعلُ الجملةَ لا دخلَ لها بالاستثناءِ، ونجعل {اللَّهُ} مبتدأ والخبر محذوف؛ لأجل أن لا نخالفَ المشهورَ من كلامِ العربِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآن بلسانِ قريشٍ وَلَيْسَ بلسانِ بني تميمٍ.
بعض العُلَماء يَقُول: نحن نتخلَّص ممّا فرّ منه المُفَسِّر رحمه الله مَعَ عدمِ إثباتنا المكان لله بأن نَقُول: لا يعلم مَن يُذْكَر فِي السَّماوَات والْأَرْض الغيبَ إِلَّا الله، لا نَقُول: ما استقرّ؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى مذكور فِي السَّماوَات وَفِي الْأَرْضِ، وحينئذٍ يزول الإشكال الَّذِي من أجلِه قَطَعَ المُفَسِّر الاستثناءَ.
والخلاصة: أن الاستثناء هنا متَّصل، وأن الله تَعَالَى له مكان، وأن مكانه فِي السَّمَاء، وقد سأل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الجاريةَ فقال لها:"أَيْنَ اللهُ؟ " فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ
(2)
،
(1)
ألفية ابن مالك - الاستثناء (ص: 31).
(2)
رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كَانَ من إباحة، حديث رقم (537)، عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
وأشار النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاء حينما أشهدَ ربَّه عَلَى إقرار أُمَّتِهِ بإبلاغ رسالتِه، فقال وَهُوَ يخطب فِي عَرَفَةَ:"أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ مُشِيرًا إِلَى السَّمَاءِ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ"
(1)
.
فهَذَا دليل عَلَى أن الله فِي السَّمَاء، ويَكُون الاستثناء في قولِه:{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} متصلًا، وَيكُون {اللَّهُ} بدلًا من (مَنْ) كما إذا قلتَ: ما قام القوم إِلَّا زيدٌ، فإن الاتباعَ أَولى هنا، وإن كَانَ يجوز النصبُ، فعليه نَقُول: الاستثناء متصل وَلَيْسَ فِيهِ إشكال عَلَى عقيدةِ أهل السنَّة والجماعة، وهَذَا هُوَ الصَّحيحُ ولا إشكال فيه.
ومثل هَذَا قوله تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3]، يعني فِي مجَموعها، وإن كَانَ هُوَ في السماءِ؛ لأنّ قوله:{فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} ظرف لمجموع الاثنينِ، فَهُوَ يقين أَنَّهُ لا يخرج عنْ الِاثنينِ، لَكِنَّهُ تبارك وتعالى فِي واحدٍ منهما، بدليلِ العقلِ والنقلِ، كما تقول: فلان أميرٌ فِي مكَّةَ والمَدينَةِ، وإن كَانَ فِي واحدةٍ منهما، فالمَعْنى أن إمارتَه ثابتةٌ فِي مجموعِهما، وَلَيْسَ المَعْنى أَنَّهُ فِي كلا المكانينِ فِي هَذَا وَفي هَذَا، فلا يُمْكِن أن يَكُون فِي المَدينَةِ وَفي مكَّة، بالنِّسْبَةِ لهَذَا الأميرِ، فهنا الألوهية ثابتةٌ فِي السَّماوَات وَفِي الْأَرْض، وإن كَانَ جَلَّ وَعَلَا فِي السَّمَاءِ، بل فوق السَّمَاء، وَلَيْسَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا فِي السَّمَاء السابعةِ، فهُوَ فوقَها عَلَى العَرْش، وبينَ العَرْش وبينَ السَّمَاءِ مسافات اللهُ أَعْلَمُ بها، فالمَعْنى (في السَّمَاء) أي فِي هَذِهِ الجهةِ، مثل قوله:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16]، أي فِي جهتينِ.
(1)
رواه البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، حديث رقم (1665)، عن ابن عمر رضي الله عنه؛ ومسلم، كتاب الحج، باب حجة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (1218)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
أمّا قول بعض العُلَماء: إن نور القمرِ يَنعكِس أيضًا عَلَى السَّماوَات ويَكُون له نور من جهةِ الْأَرْض ونور من جهة السَّمَاء فليس بصحيحٍ، بل المَعْنى (فيهنَّ) أي: فِي جهتينِ، وإن كَانَ القمر فِي الحقيقةِ ما تخللَ السَّمَاء الدُّنْيا حَتَّى كَانَ فِي جهة السًّماء الثَّانِيَة والثَّالثة والرَّابِعة، لكِن الجهة بينهن واحدة.
وقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} يَعْنِي: من فِي السَّماوَات والْأَرْض لا يَعْلَمُون الغيبَ إِلَّا الله، وأين الله؟
في السَّماوَات، أي فِي جهتها، والسَّمَاء: العُلُوُّ، أو نَقُول:(في) بمعنى (عَلَى)، أي عَلَى السَّمَاء.
يَبقَى عندنا عَلَى رأيِ مَن يقولُ: إنَّهُ لا يجوز للمسلمِ أنْ يعتقدَ أنَّ الله فِي السَّمَاء، لِأَنَّ الله لَيْسَ له مكانٌ، عَلَى زعمهم، كيف نُخَرِّج الآيَة؟
نخرِّج الآيَة عَلَى ثلاثة أوجهٍ: إمَّا أن نجعل {فِي السَّمَاوَاتِ} متعلقًا بفعل مناسبٍ، ويَكُون التَّقْدير:(مَن يُذكَر فِي السَّماوَات والْأَرْض الغيبَ إِلا الله) وَعَلَى هَذَا يَكُون الاستثناء متَّصِلًا، وَهُوَ مرفوعٌ عَلَى البدليَّة، ولا إشكال فيه، يعني لا إشكال فِيهِ من حَيْثُ الإعرابُ، لكِن من حَيْثُ المَعْنى غير مُسَلَّمٍ، هَذَا وجهٌ.
الوجه الثاني: يَقُولُونَ: نجعل الاستثناء منقطعًا، وَيكُون الرفعُ هنا عَلَى لغةِ بني تَميمٍ الَّذِينَ يجوّزون الإبدالَ ولو كَانَ الاستثناء مُنقطِعًا.
الوجه الثَّالث: أن نجعل الاستثناءَ منقطعًا، ولكِنه لَيْسَ تابعًا لما سبق؛ بل هُوَ مبتدأ وخبره محذوفٌ، وَهُوَ الَّذِي مشَى عليه المُفَسِّر حَيْثُ قَالَ:[لَكِن الله يَعلَمه].
وهَذه التفسيراتُ والتَّقْديراتُ ممَّا حذَّر مِنْهَا النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام حَيْثُ قَالَ:
"مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"
(1)
، وَفي روايةٍ:"فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَصَابَ"
(2)
، فالذي يُفَسِّر الْقُرْآن عَلَى حَسَبِ عَقيدتِهِ، هَذَا الحقيقة أَنَّهُ جانٍ عَلَى اللهِ سبحانه وتعالى، ومتقوِّل عَلَى اللهِ بلا علمٍ؛ لِأَنَّ الواجبَ أن تفسّر الْقُرْآن بما دلَّ عليه، ثُمَّ تجعل عقيدتك تابعةً له.
ولهَذَا يَقُول العُلَماء: استدلَّ ثُمَّ اعتقِدْ، ولا تَعْتَقِدْ ثُمَّ تَسْتَدِلّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان الَّذِي يَعتقِد أوَّلًا ثُمَّ يستدلّ الغالب عليه أَنَّهُ يُخضِع الأدلَّة إِلَى مُعْتَقَدِهِ، كما هُوَ معروفٌ الْآنَ تَجِدون هَذَا فيما يَتَكَلَّم النَّاس فِيهِ فِي العقائد، وتجدونه أيضًا حَتَّى فيما يتكلمون فِيهِ فِي الأحكام، فإن مَن يَنتمي إِلَى مَذْهَب إذا جاءت النصوصُ الدالَّة عَلَى خلاف مَذْهَبِه تجده يَسْلُك فيها أحدَ مسلكينِ: إمَّا إبطالها إن أمكنه، فيقول: هَذَا ضعيف ومردود وَلَيْسَ بمقبولٍ، وإن لم يمكنْه الإبطال سعَى بالتحريفِ لأجلِ أن تطابِقَ مذهبَه، وهَذه عِلَّةٌ قَلَّ مَن يَسْلَم مِنْهَا إِلَّا مَن شاء الله؛ وَهُوَ أن يجعل عقيدته وحُكْمه تابعًا للدليلِ، وهَذَا هُوَ الواجبُ عَلَى كُلّ مسلمٍ أن يُجْعَلَ تابعًا للدليل؛ لأجلِ أن يَكُونَ تابعًا، والنصوص تكون متبوعةً، أَمَّا أن يعتقد أولًا - سواء كَانَ هَذَا الاعتقاد فيما يتعلق بالعقائد والأُمُور الخبريَّة، أو مما يَتعلَّق بالأحكام العَمَليَّة - ثُمَّ بَعْد ذلك يحاول أن يحرِّفَ النصوص إليها فهَذَا غير مسلَّم ولا يجوز للمرء.
(1)
رواه النسائي في الكبرى، كتاب كتابة القرآن، باب من قال في القرآن بغير علم، حديث رقم (8085)؛ والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، حديث رقم (2951)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه أبو داود، كتاب العلم، باب الكلام في كتاب الله بغير علم، حديث رقم (3652)؛ والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، حديث رقم (2952)، عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: ماذا يُجاب عَمَّن قَالَ: إن الإِيمانَ أوَّلُ مَرَاتِبِه الحَيْرة والشكّ ثُمَّ الاستدلال، إِلَى آخره؟
نُجِيبُه بأن هَذَا لا دليلَ عليه؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم دعا النَّاس وهم لَيْسَ عندهم شكٌّ ولا حَيرة، بل جُحُود وإنكار، ثُمَّ انتقلوا منَ الجحود والإنكار إِلَى الإقرار والاعترافِ.
ونَقُول أيضًا: هَذَا الكَلامُ الَّذِي لا دليلَ عليه، هُوَ باطلٌ أيضًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان إذا شكَّ فقد لا يَتَخَلَّص من هَذَا الشكِّ، والله تَعَالَى ما دعا عبادَهُ إِلَى الشكِّ والحَيرة؛ بل دعاهم إِلَى الإِيمانِ بعدَ الكفرِ مباشرةً.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إن أوَّل مراتبِ الإِيمانِ الحَيرة يَستدِلّون بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 77]، ففي أوَّل أمرِه قَالَ: هَذَا ربي، وهَذَا ربي؟
الجواب: قوله: {هَذَا رَبِّي} قالَهُ لإقامةِ الحُجَّة، وتَقَدَّم هَذَا كثيرًا، وذكرنا هَذَا المثالَ؛ وهو إلزامُ الخَصْمِ بما يَعْتَرِف به، فالمَعْنى أنتم تَعْبُدُونَ هذه الكواكبَ والشَّمْسَ والقمرَ، فهَذَا ربِّي، فمثلًا: إذا جَلَسْتَ مَعَ أُناسٍ جِلْسَةَ المُقْنِعِ، وكلٌّ منهم يَقُول: هَذَا ربِّي، وهنا {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ، ثُمَّ تَنَقَّلَ بهم. ولهَذَا قَالَ:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]، ولم يقل: وتلك أدِلَّتنا أَقْرَرْنا بها إبراهيمَ، فإبراهيمُ صلى الله عليه وسلم ما كَانَ فِي قلبِه أدنَى شكٍّ فِي هَذَا الأَمْرِ وأنها آلهةٌ باطلةٌ، لكِن لأجلِ إقامةِ الحُجَّة عَلَى هَؤُلَاءِ.
وأمَّا قوله سبحانه وتعالى عن إبراهيمَ: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]،
وحديث: "نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ"
(1)
، فنَقُول: هل إبراهيم صلى الله عليه وسلم شكَّ؟ إبراهيم صلى الله عليه وسلم ما شكَّ، ولو أَجرينا الحديثَ عَلَى فَهم البعض لكانَ يَقتضي أن إبراهيمَ قد شكَّ، ونحنُ أَولى بالشكِّ منه، ولكِن معنى هَذَا نَفْيُ شكِّ إبراهيمَ، والمَعْنى لو كَانَ إبراهيم مَحَلًّا للشكِّ لكِنَّا نحن أولى به، ونحن لم نشكَّ؛ لِأَنَّ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام يَعْلَم علمَ الْيَقينِ بأن الله قادرٌ عَلَى إحياء الموتى، وكذلك الصحابة، فلم يقل للصحابةِ: هل أنتم تَشُكُّون؟
إِذَنْ: لو كَانَ هناك شكّ لكِنَّا نحنُ أَولى به منه، فإبراهيم والنَّبِيّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه ما شَكُّوا، ولكِن المَعْنى أنكم الْآنَ تعلمون ما فِي أنفسكم من الْيَقينِ، فإن إبراهيم كذلك يعلمُ، ولو كَانَ فِي الأَمْرِ مكانٌ للشكِّ لكِنَّا نحن أولى به من إبراهيم، ولو أَجرينا الحديثَ عَلَى فهم السائلِ لكان يَقتضي أن إبراهيم قد شكَّ ونحن أَولى بالشكِّ منه.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَمَا يَشْعُرُونَ} أي كفار مَكَّة كغيرهم {أَيَّانَ} وَقْتَ {يُبْعَثُونَ}]، يعني ما يشعرُ أحدٌ متى يُبعَث النَّاس؛ لِأَنَّ علم الساعة إِلَى اللهِ عز وجل، فلا أحدَ يشعر متى تكونُ الساعةُ، حَتَّى لو جاءتْ علاماتها وأشراطها فإنَّنا لا نستطيعُ أن نُحَدّدها بالتعيينِ ونَقُول: بقِي عليها كذا سنةً، كذا شهرًا، ولو مَعَ وجودِ الأشراطِ، ولهَذَا قَالَ:{أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .
وقول المُفَسِّر: [وقتَ {يُبْعَثُونَ}]، فِيهِ إشكالٌ من جهةِ النحوِ، والإشكالُ
(1)
رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله عز وجل:{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} ، قوله:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، حديث رقم (3192)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، حديث رقم (151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
هُوَ أنَّ {أَيَّانَ} هَذِهِ ظرفٌ لَكِنَّها اسْتِفْهاميَّة، و (وقت) ظَرف مجرَّدة منْ الاسْتِفْهامِ، ولهَذَا تفسير (أيَّان) بـ (وقت) قُصورٌ، ولو قَالَ المُفَسِّر:(متى يُبعثون)، لكان هُوَ المناسِب؛ لِأَنَّ (أيَّان) ظرف وهي متضمِّنة للاسْتِفْهامِ معلِّقة للفعلِ عن العَمَلِ؛ الفِعْل:{يَشْعُرُونَ} ، فالجملة {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فِي محل نصب لـ (يشعرون)، ولو كَانَ التَّقْدير: وقت يبعثون؛ لم يكن فِي الجملةِ تعليقٌ.
فإِذَنِ: المُفَسِّر بتقديرِهِ: [وقت] ضيَّع علينا مسألتينِ:
المسألة الأولى: ما تَضَمَّنَتْهُ {أَيَّانَ} منْ الِاسْتِفْهامِ.
والمسألة الثَّانِيَة: كون الجملة هنا فِي مَحَلّ نصبٍ؛ لِأَنَّهَا معلّقة بـ {أَيَّانَ} ، وَعَلَى تقديره تكون {أَيَّانَ} نفسها هِيَ المَفْعُول، هَذَا ما ينبغي التنبُّه له؛ لِأَنَّهُ ينبغي أن يَكُون التفسيرُ اللفظيُّ خاصَّةً مطابقًا للمفسَّر فِي كُلِّ الأحوالِ.
مسألة: مَنِ ادَّعى أَنَّهُ يعلم متى يُبعَث؛ فما الحكمُ؟
هو كافر، فالَّذِي يَقُول: إن القيامة ستكونُ فِي سنةِ ألفٍ وأربعِمائةٍ وأربعَ عَشْرَة، ونشرَ هَذَا فِي صحف لبنانَ عن كاهن، استنتج أَنَّهَا تكون فِي ألف وأربعمائة وأربعَ عَشْرَةَ، يعني ما بَقِيَ إِلَّا اثنتا عَشْرَة سَنَةً، فهَذَا الَّذِي يصدِّقه أو يشكّ فِي خبره، حَتَّى ولو لم يصدِّق بخبره بل يَكُون عنده تردُّد، يُعتبَر كافرًا؛ لِأَنَّهُ يَجِب الجزمُ بتكذيبِ هَؤُلَاءِ، فيجب أنْ نَجزِم بأن هَؤُلَاءِ كاذبونَ؛ لِأَنَّهُ لا يمكن أن يعلمَ أحدٌ متى تقوم الساعةُ إِلَّا الله.
والنَّبِيّ عليه الصلاة والسلام أعلمُ البشرِ، وجِبريل أعلمُ الملائكةِ، لمَّا سألَهُ قَالَ:"مَا المَسْئُولُ بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"
(1)
، فلا أحد يدري متى تقومُ الساعةُ إِلَّا اللهُ.
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم=