الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:
أن مدارَ العَمَلِ عَلَى هذينِ الوصفينِ، وهما: الْقُوَّة والأمانة؛ لِقَوْلِهِ: {لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} لِأَنَّ مَن لَيْسَ بقويٍّ لا يُتْقِن العَمَل؛ لضعفِهِ، ومن لَيْسَ بأمينٍ لا يُتْقِن العَمَلَ أيضًا لخيانتِه، فقد يَكُون الْإِنْسَان قويًّا ويستطيعُ أن يعمل هَذَا العَمَل بكلِّ سهولةٍ ولكِنه لَيْسَ بأمينٍ، فلا يثق الْإِنْسَان به، ثُمَّ إن العَمَلَ لو أَنَّهُ أتقنَهُ يبقى الْإِنْسَان شاكًّا يَقُول: يمكن أَنَّهُ يقدِر أن يفعلَ أحسنَ من هَذَا لَكِنَّهُ ما فعلَ لِأَنَّهُ خائنٌ.
وكذلك أيضًا لو كَانَ الْإِنْسَان أمينًا لَكِنَّهُ عاجز فَإِنَّهُ لن يُتْقِن العَمَلَ لعَجْزِهِ، لكِن أيُّهم أشدُّ لومًا؟
الخائنُ أشدُّ، ومَن لَيْسَ بقويٍّ أيضًا عندَه نوعُ خيانٍة؛ لِأَنَّ كونه يدخل فِي العَمَلِ وَهُوَ لَيْسَ بقادرٍ عليه أو لَيْسَ بقويٍّ عليه فهَذَا لَا شَكَّ أيضًا أَنَّهُ خطأ وخيانةٌ، ولهذَا قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذَرٍّ:"إِنَّكَ رَجُل ضَعِيفٌ؛ فَلَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَين، وَلَا تَتَوَلَّيَنَّ مَالَ يتيمٍ"
(1)
.
فالْإِنْسَانُ الضعيفُ لا يجوز أنْ يتدخَّل فِي شيءٍ يَعْرِف أَنَّهُ لا يستطعُ إتقانَه، لا سِيَّما إذا كَانَ يوجد فِي النَّاس مَن يُحْسِنُه، فهَذه تُعْتَبرُ خيانةً لنفسِه ولغيرِه؛ خيانة لنفسه؛ لِأَنَّهُ فِي الحقيقةِ جَشَّمَهَا مرقًى صَعْبًا يريد أن يظهرَ ضَعفهُ أمامَ النَّاسِ، وخيانة لغيره حَيْثُ تَقَبَّلَ أعمالهم وَهُوَ لا يُحْسِنُها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
إِذَا قَالَ قَائِلٌ: إذا اجتمع عندنا أربعةُ أشخاصٍ أحدهم: قويّ أمين، والثاني: قويّ غير أمين، والثَّالث: أمين غير قويّ، والرَّابع: ضعيف خائِنٌ؟
(1)
رواه مسلم، الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، حديث رقم (1826)، عن أبي ذر رضي الله عنه.
قُلْنَا: القويُّ الأمين مقدَّم، لَيْسَ فِيهِ إشكال، والخائن الضعيف مؤخَّر بلَا شَكّ، هَذَان طرفانِ معلومانِ.
أما القوي الخائن والضعيف الأمين فالصَّحيح أنه يَجِب أن ننظرَ أيُّهما أولَى مراعاةً، فإذا كَانَ فِي عملٍ الْقُوَّة فِيهِ أظهرُ فهنا يُقدَّم القويُّ؛ لِأَنَّ القوي وإن كَانَ عنده خيانة فربما تَحْمِله قوته عَلَى إتقانِ العَمَلِ؛ لأجل أن يَشْتَهِرَ بهَذهِ الْقُوَّة مثلًا، أَمَّا إذا كانت المسألة لا تحتاج إِلَى عملٍ وقوة لَكِنَّها تَتَطَلَّبُ الأمانة فهنا يُقدَّم الأمين، وهَذَا واضح إذا كَانَ فِي عملينِ:
أحدهما: يظهر فِيهِ قصد الأمانة.
والثاني: يظهر فِيهِ قصد الْقُوَّة.
كالأمير مثلًا، الأمير يظهر فِيهِ قَصْد الْقُوَّة، يعني قوة الأمير، وإنْ كَانَ غيرَ أمينٍ، فهو أنفعُ للمجتمعِ من أميرٍ ضعيفٍ أمين، والقاضي بالعكسِ؛ فالأمانةُ فِي حقِّه أظهر؛ لِأَنَّهُ إذا كَانَ أمينًا -وإن كَانَ ضعيفًا؛ لِأَنَّ الَّذِي سَيُنَفِّذ لَيْسَ القاضي، خصوصًا فِي عصرنا، فالْآنَ التنفيذ لجهة الإِمارة، فالقاضي يَحْكُمُ فقط- فإذا كَانَ أمينًا فهنا قصد الأمانة فِي القضاءِ أظهرُ من قصد الْقُوَّة، وَعَلَى هَذَا فَقِسْ.
ولكِن إذا كَانَ العَمَلُ تَتَعَارَضُ فِيهِ الْقُوَّة والأمانةُ فهَذَا مَحَلُّ نظرٍ، ولا يمكن أن نَحْكُمَ بِحُكْمٍ عامٍّ، بل إننا نَنْظُرُ فِي القضيةِ المعيَّنة، وإذا تشاحَّ اثنانِ فِي عملٍ يَتَطَلَّب الْقُوَّة والأمانة معًا ولا يظهر فِيهِ فضل أحدهما عَلَى الآخر، فحينئذٍ لا أستطيعُ أن أحكمَ هنا حكمًا عامًّا، بل إِنَّمَا يُنْظَر فِي كُلّ مسألةٍ بخصوصها، ويُنظَر للقرائنِ وينظر أيضًا للأشخاصِ، ومَن تَظهَر فِيهِ الْقُوَّة أكثر من ظهور الأمانة فِي الثاني، أو الأمانة فِي هَذَا أكثر من ظهور الْقُوَّة فِي الثاني.