الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما هُوَ لإنشاءِ الذمِّ، مثل:(حَسُنَ) فِي بعضِ الأحيانِ: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، فهَذَا فعل لإنشاء المدح، و (ساء مطر المنذَرين) هَذَا أيضًا فعل لإنشاءِ الذمِّ.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} بالعذابِ مَطَرُهُم]، وقَالَ:[مَطَرُهُم]، لِأَنَّ (ساء) مثل (بِئس) تريدُ فاعلًا، وتريد مبتدأً ومخصوصًا بالذمِّ، وَهُوَ المبتدأ المحذوف؛ فإذن نَقُول فِي إعرابها:(ساء): فعل ماضٍ، ومَطَر: فاعل، وَهُوَ مضاف إِلَى المنذرينِ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه (مَطَرُهم):(فساءَ مطرُ المنذَرين مَطَرُهُم)، وهَذَا المخصوص أحيانًا يتقدم وأحيانًا يأتي بدله اسم منصوب يُجعَل تمييزًا يَكُونُ بدلَ هَذَا المخصوصِ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كيف الجمع بين قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73]، وقوله فِي سورة هود:{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81]، وقوله:{دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66]، مَعَ أن الصُّبح طلوعُ الفجرِ كما ذكر ابنُ القَيِّم، والإشراق بَعْد طلوع الشَّمْسِ؟
فالجواب: الصبحُ يشملُ من طلوعِ الفجرِ إِلَى الزوالِ، فيُسمَّى ضحًى ويسمى صُبْحًا، وقوله:{مُصْبِحِينَ} أي: العذاب بدأ فِي زمن الإصباح، واستمرَّ العذاب إِلَى الإشراقِ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أن الله سبحانه وتعالى يُعَذِّب كُلّ إِنْسَانٍ بذنبِه، كما قَالَ الله تَعَالَى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، فمنهم مَن فعلنا به كذا ومنهم مَن فعلنا به كذا، فهنا يَقُول:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} ، ووجه مناسبة العقوبة للجريمةِ أن هَذَا المطرَ
جعل عَالِيَ بلادهم سافلَها، كما أن أولئك سَفُلُوا بأخلاقهم حَتَّى كانوا يستعملون هَذِهِ الفاحشةَ وَيذَرُون ما خلق لهم ربُّهم من أزواجهم، وهَذَا بلَا شَكّ انقلابٌ فِي فِطَرِهِم، ولذلك عُوقِبُوا بهَذهِ الجريمة والعياذ باللهِ.
الْفَائِدَة الثَّانِيَةُ: الثَّناء عَلَى الفِعْل بما يسْتَحِقّه من الثَّناء، حَيْثُ قَالَ:{فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} وهنا نُورِدُ إشكالاً، وَهُوَ أن هَذَا المطرَ منَ اللهِ سبحانه وتعالى، والثَّناء عليه بالقُبْح وبالشرّ ألا يُنافي قولَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم:"وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ"
(1)
؟
نَقُول: لا ينافيه، والجمع أن هَذَا السوءَ لَيْسَ فِي فعلِ اللهِ ولكِنه فِي مَفْعُولهِ، فهَذَا المطرُ هُوَ الَّذِي أثنى عليه بالسُّوء {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} ، وَأَمَّا فعل الله فَإِنَّهُ لَيْسَ بشر، بل هُوَ من كمالِ العدلِ والْقُوَّة والسلطانِ، حَيْثُ عاقب المجرمينَ بما يَسْتَحِقّون، وعقوبةُ المجرِمِ بما يَسْتَحِقّ لَا شَكَّ أَنَّهَا ليستْ بظلمٍ وليستْ بسيِّئة ولا يُثنَى عَلَى فاعلها بالسوء. فتبَيَّنَ بهَذَا أَنَّهُ لا ينافي قولَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:"الشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ".
الْفَائِدَة الثَّالِثَةُ: أن هَؤُلَاءِ الَّذِين أَهْلَكَهُمُ اللهُ قد قامتْ عليهم الحُجَّة، لقولِهِ:{الْمُنْذَرِينَ} ، فهؤلاء أُنذروا بالعذابِ، فقامت عليهم الحجَّة، والله سبحانه وتعالى يَقُول فِي الْقُرْآن:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ما عذَّب اللهُ أُمَّة من الأممِ إِلَّا بعدَ قيامِ الحجَّة عليها، ولولا ذلك لكانتِ الحجَّةُ عَلَى اللهِ، قَالَ الله تَعَالَى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فلا أحدَ له حُجَّة عَلَى ربِّه؛ لِأَنَّ الحجّة قد قامت بما رَكَّب الله تبارك وتعالى فِي فِطَر النَّاس من محبَّة الخير وعبادةِ اللهِ سبحانه وتعالى، وأيَّد ذلك الأنْبِياء والرسُلُ الَّذِينَ أتوا بالبيِّناتِ
(1)
رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث رقم (771)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الظَّاهراتِ، فلم يبقَ للإِنْسَانِ حجَّة، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الباطنيّ والدَّليل الظَّاهريّ موجودٌ فيه: الدَّلِيل الباطنيُّ: الفِطْرَة، قَالَ تَعَالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
والدَّلِيل الخارجِيُّ: الرُّسُلُ الَّذِينَ جاءوا بالكتابِ وبالآياتِ البيِّنات، فقد قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أُوتِيَ مَا عَلَى مِثْلِهِ يُؤْمِنُ الْبَشَرُ"
(1)
، فلهَذَا نَقُول: إن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ، وهم قومُ لُوط، كانوا قد أُنْذِرُوا بالعذاب، ولهَذَا قَالَ:{فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} .
ما الفرق بين المُنْذِرِين فِي قوله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]، وبين {الْمُنْذَرِينَ} فِي هَذِهِ الآيَة؟
المُنْذِر: مَن أتَى بالانذارِ، أو مَن أَنْذَرَ، والمُنْذَر: مَن أُقِيمَتْ عليه الحُجَّة.
(1)
رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل، حديث رقم (4696)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم
…
، حديث رقم (152)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.