الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (48)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)} [النمل: 48].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} مَدِينة ثَمُود {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي: رِجال]، المُفَسِّر قَالَ: أيْ رجال، والرهطُ صحيحٌ هم الرِّجال، لكِنهم قَالُوا: إن الرهطَ ما بينَ الثلاثةِ إِلَى العشَرةِ، وبعضهم قَالَ: ما بينَ السبعةِ إِلَى العشَرةِ، فعلى هَذَا {تِسْعَةُ رَهْطٍ} يَكُون تسعة فِي تسعة؛ بواحد وثمانين، والمُفَسِّر فَسَّر رحمه الله الرهطَ بالرِّجال لا بمعناها الخاصّ؛ لأجل أن تستقيمَ الإضافةُ؛ إذِ الشَّيْء لا يُضاف إِلَى نفسه إِلَا عَلَى تأويلٍ.
وقال بعضهم: إنَّهُ لا حاجة إِلَى هَذَا التأويل؛ لِأَنَّ الإضافةَ هنا بَيَانيَّة، أي أنَّ {رَهْطٍ} تفسير لـ (تسعة)، كأنه قَالَ:(تِسعةٌ رَهْطٌ).
والمَعْنى عَلَى كُلّ حال: هُوَ أن هَذِهِ المَدينَة - مدينة صالح أو مدينة ثمود - كَانَ فيها رجال تسعة، والتسعة هَذِهِ كانت مجالًا للتفاؤلِ والتشاؤم، فالبعض يتشاءم من العددِ تسعة، يَقُول: لِأَنَّ تسعة جاءت بالإفسادِ فِي الْأَرْض {تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} ، والبعض يتفاءل بها، والرافضة يتشاءمون بالعشرةِ ويتفاءلون بالتسعةِ، معَ أنَّ المُبَشَّرِينَ بالجنَّة عَشَرة، لكِن هم يُخْرِجُون عليَّ بنَ أبي طالبٍ منهم، فهم
يتشاءمون بالعشرة، وعَدُوُّهم من العددِ العشرة، وصديقهم التسعة؛ لِأَنَّهُم يَقُولُونَ: هم آل البيت الَّذِين وضع عليهم الرَّسُول الكساء، فقال لهم شيخ الإِسْلام: يَجِب إذا كنتم تتفاءلون أو تتشاءمون بالعدد أنكم تتشاءمون بالتسعة؛ لِأَنَّها هِيَ الَّتِي قَالَ الله فيها: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} ، أَمَّا العشرة فإن الغالبَ أَنَّهَا خير: عشر ذي الحجَّة، وعشر رَمَضَان، والعشرة المبشرون بالجنَّة، وأمثلة كثيرة لا تَحْضُرني الآن
(1)
.
وأنا أقول: إن كلام شيخ الإِسْلام هَذَا للتنزُّل مَعَ الخصمِ، وإلَّا هُوَ رحمه الله لا يتفاءل لا بهَذَا ولا بهَذَا، فالعدد عدد، لَيْسَ فِيهِ أثرٌ لشيءٍ.
قوله: {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} أي: بالمَعاصِي، وكلما ذكر الله تبارك وتعالى الفساد فِي الْأَرْض فالمُراد به المعصية: الشرك فما دونه؛ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أن عمل المَعاصِي نفسه فساد، ثُمَّ هُوَ سببٌ للفسادِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130]، وقال تَعَالَى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، وقال تَعَالَى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]، فالمَعاصِي هِيَ نفسها فسادٌ، وهي سببٌ للفسادِ أيضًا، فلذلك كلَّما ذكر اللهُ سبحانه وتعالى الفسادَ فِي الْأَرْض فالمُرادُ به المَعاصِي.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالمَعاصِي، مِنْهَا قَرْضُهُمُ الدَّنانيرَ والدَّراهِمَ]، أي يُقَطِّعونها ويخرِّبونها وَيقُصُّون من الدراهمِ والدنانيرِ، لكِن هَذِهِ إسرائيليات لا دليلَ عليها، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ أكبر المَعاصِي، صحيح أَنَّهُ غِشّ، لَكِنَّهُ
(1)
انظر: منهاج السنة (1/ 40، 4/ 139، 7/ 417).
لَيْسَ أكبر المَعاصِي.
عَلَى كُلِّ حَالٍ: أهمُّ شيءٍ أَنَّهُم أنكروا الرسالةَ وكفَروا بالخالِق، فهَذِهِ من أعظمِ المَعاصِي الَّتِي يُفْسِدُونَ بها فِي الْأَرْض.
قوله: {وَلَا يُصْلِحُونَ} يُفْسِدون ولا يُصْلِحون، معناه أنَّ فَسَادَهم هَذَا - والعياذُ باللهِ - شاملٌ، لَيْسَ فِيهِ صلاحٌ أبدًا، وهَذه هِيَ الحِكْمَةُ من قولِهِ:{وَلَا يُصْلِحُونَ} ، وفيه فائدة عظيمة، وَهُوَ أَنَّهُ قد يَجتمِع الصلاحُ والفسادُ فِي آنٍ واحدٍ، كما أن الْإِنْسَان يَكُون مؤمنًا وَيكُون فاسقًا، وَيكُون فِيهِ إيمانٌ وفيه كفرٌ، وفِيهِ فسوقٌ وطاعةٌ، وفِيهِ فسادٌ وصلاحٌ، فالأُمُورُ إمَّا خيرٌ مَحضٌ وصلاحٌ مَحضٌ، وَإمَّا شرٌّ محض وفساد محض، وَإمَّا خليطٌ من الأَمْرينِ. وهَؤُلَاءِ القومُ يُفسِدون ولا يُصلِحون، والعياذُ باللهِ، فما يصلحون بالطاعة أبدًا، وهَذَا دليل عَلَى أَنَّهُم لَيْسَ فيهم خير محض، ولَيْسَ فيهم خير أبدًا، لا قليل ولا كثير، لكِن فيهم أُناس خيِّرون، وهم الَّذِينَ آمنوا بصالحٍ واتبعوه، لكِن هَؤُلَاءِ الرهط التسعة يفسدون ولا يصلحون، دائمًا لَيْسَ لهم هَمّ إِلَّا الفساد فِي الْأَرْض بالمَعاصِي، وإلقاء الفِتَن بين النَّاسِ، ومحاولة قتل المُصْلِحِين، ولهَذَا قَالُوا:{تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]، إِلَى آخرِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: التشاؤُمُ هل يُعْتَبرُ شِركًا أصغرَ أو أكبرَ؟
فالإجابة: التشاؤمُ شِركٌ أصغرُ، ما لم يعتقد أَنَّهُ مؤثِّر بنفسِهِ فيَكُون أكبرَ، وأظننا ذكرنا هَذِهِ القاعدة: كُلّ مَن أثبتَ سببًا غيرَ شرعي أو قَدَرِيّ - يعني لا يقتضيه الشرعُ ولا القدرُ - فَهُوَ مُشرِكٌ، لَكِنَّهُ شرك أصغر، لا يؤدِّي إِلَى الأكبرِ، فأمَّا ما اقتضاه الشرع أو اقتضاه القدرُ: فما اقتضاه الشرع بأن يعلم من طريقِ الشرعِ أن هَذَا سبب لهَذَا، كقراءةِ الفاتحةِ عَلَى المريضِ سبب للشفاءِ شَرعًا، يعني جاء بها الشرعُ، والتجارب
الَّتِي تُجرَى عَلَى بعضِ النباتاتِ وبعض الأدوية فيُعرَف تأثيرها، فهَذَا سَبَبٌ قَدَرِيّ جاء به القدرُ، لكِن لَا بُدَّ أنْ يعتقدَ أن النافعَ هُوَ اللهُ وأن هَذَا من أَسْبابِ النفعِ، لكِن لوِ اعتقدَ أَنَّهُ ينفع بنفسِهِ وَلَيْسَ سببًا محضًا صارَ متَّخِذًا مَعَ اللهِ إلهًا. المهمُّ أن الأَشْيَاء الَّتِي لم يَدُلّ عليها الشرعُ ولا القدرُ هَذِهِ لا يجوزُ أنْ نُثْبِتَ أَنَّهَا أَسْباب، مثل: إِنْسَان علَّق خيطًا برقبتِه، قَالَ: هَذَا لدفعِ العينِ، فالذي يعلق هَذَا الخيطَ لا يصابُ بالعينِ، فهَذَا لَيْسَ بسببٍ، ولَيْسَ بصحيحٍ، فأين الشرع الَّذِي دلَّ عليه وأين القدرُ الَّذِي دلَّ عليه؟ ! وكم من إِنْسَانٍ يُصاب بالعينِ وعليه هَذَا الخيطُ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: تقنين القوانين الوضعيَّة يُعتبَرُ شِركًا أصغرَ أو أكبرَ، وهل يدخل فِي مسألة الأَسْبَاب؟
فالإجابة: التقنين لا يدخل فِي هَذِهِ المسألةِ، وهي مسألة الأَسْبَاب الَّتِي أَشرنا إليها، نحن نتكلمُ عنِ الأَسْبَاب، فمن جعل سببًا لمسببات معينة بدون شرع ولا قدر فَهُوَ مشركٌ.
وأمّا مسألة التشريعِ فليستْ داخلةً فِي مسألةِ الأَسْبَاب الَّتِي أشرنا إليها، هَذِهِ من جهةٍ أخرى، فالتشريعُ حُكْم بغير ما أنزلَ اللهُ، أي: إِنْسَان يَشْرَع ما لم يَشْرَعْهُ الله، ويعتقد أن الله لم يشرعْه وَأَنَّهُ أصلح ممَّا شرعَ اللهُ، فَهُوَ كافرٌ كفرًا مُخْرِجًا منَ المِلَّة، سواء حكم به أم لم يحكمْ أم تركَ النَّاس يحكمون به، ولهَذَا يَجِب أن نفرِّق بين مَن لم يحكمْ بما أنزلَ اللهُ تشريعًا، وبين مَن لم يحكمْ بما أنزلَ اللهُ فِعلًا، فالَّذِي يحكمُ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ فِعلًا لا تَشريعًا هَذَا قد يكفر وقد يفسق وقد يظلم، وَالَّذِي يحكم بغيرِ ما أنزلَ اللهُ تَشريعًا، بمعنى أَنَّهُ يجعله هُوَ الشرعَ؛ شرع مُبَدَّل بدل شرع مُنْزَل، هُوَ يرى أن هَذَا الشرع المبدل أصلح للعالمِ من الشرعِ المنزلِ، فهَذَا كافر، ولا ينقسم فعله
إِلَى ظلمٍ وفسقٍ وكفرٍ، بل هُوَ كفرٌ محض.
فالحكَّام الْآنَ الَّذِينَ يُقَنِّنُونَ للناس قوانينَ وَيقُولُونَ: يَجِب أن تمشوا عليها لِأَنَّهَا أصلحُ لكم مما سبقَ، فهَؤُلَاءِ كفارٌ، حَتَّى وإن لم تَنْزِلْ بهم نازلةٌ واحدةٌ فيحكموا بهَذِهِ القوانين، فهم كفار، مثال ذلك إِنْسَان رئيس دولة شَرَع نظامًا وَيعْرِفُ أن هَذَا النظامَ مخالِف للشرعِ، لكِن يعتقد أَنَّهُ أفضلُ منَ الشرعِ وأصلحُ للخلقِ، وهُوَ ما حَكَمَ به لكِن سَنَّه وتركَ النَّاس يحكمون به، نَقُول: هَذَا كافرٌ كفرًا مخرِجًا عنِ المِلَّة، ويجب الخروجُ عليه، إِلَّا إذا كَانَ متأوِّلًا، فقد يَكُون متأولًا، قد يَقُول: لا، هَذَا لا يخالف الشرعَ؛ وذلك لِأَنَّ عندنا بعض العُلَماء - الله يهدينا وإياهم - يفتحون للحكامِ أبوابًا، حَتَّى إنَّهُم يموِّهون عليهم وَيقُولُونَ: مسائل الدُّنْيا ما للشرع فيها دخل، لِأَنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يَقُول:"أنتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ"
(1)
فِي مسألة التلقيح، فيموِّهون عَلَى الحكامِ، يَقُولُونَ مثلًا: تجوز البنوكُ، لِأَنَّ هَذِهِ من النظام الاقتصاديّ الحديث، لَيْسَ للشرع فِيهِ دخل، وتجوز صناديق التنميات وَلَيْسَ فيها شَيْء؛ لِأَنَّ هَذِهِ من الأُمُور الاقتصادية الَّتِي يُرجَع فيها إِلَى ما يقتضيه العصر، لَيْسَ للشرع فيها نظر، وغالب الحكام قد يجهلونَ هَذَا الأَمْر فيظنون أنَّ هَذَا صحيح، فيلتبس عليهم.
لكِنْ إذا علمنا وفَهَّمْناهم وبَيَّنَّا لهم الْحَقّ وقُلْنَا: إن معنى قوله: "أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكمْ" أي: فيما يتعلق بالعَمَل والصناعة، فالصانع يعرف كيف يصنع القِدْرَ، لكِن قد لا يعرفه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، والحَرَّاث يعرف كيف يَبْذُرُ، لكِن الرَّسُول قد لا يعلم ذلك، لكِن أحكام شؤون دنيانا الأعلم بها الشرعُ، ففرق بين الأفعالِ وبينَ الأحكامِ،
(1)
رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي، حديث رقم (2363)، عن عائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهما.
أنا الْآنَ مثلًا أعرف أن هَذَا الشَّيْء محرَّم من الصناعة أو من الزراعة أو مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لكِن هل أعرف كيف أصنعه؟ وأعرِف أن صناعةَ السياراتِ من الأُمُورِ الطيِّبة المطلوبة؛ لمِا فيها من المصلحةِ، لكِن هل أعرِف كيف أصنعُ السيَّارة؟ أقول للكافر المشرك الملحِد الشيوعيّ الخبيث: أنت أعلم بشؤون دنياك، لَكِنَّهُ لَيْسَ أعلم منِّي بحكم هَذَا الشَّيْءِ، وهَذَا واضحٌ، فقول الرَّسُول:"أنتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ" يعني أنتم أعرفُ هل هَذَا التلقيحُ يَنْفَع أو لا يَنْفَع؛ لأنَّكم مجرِّبون وفاهِمون، لكِن أنا أُعطيكم حُكْمًا شرعيًّا بأنَّ كُلّ ما كَانَ صالحًا للخلقِ ولأجلِ مَصْلَحَة الخلقِ فَهُوَ منَ الأُمُورِ المطلوبةِ شرعًا؛ لِأَنَّ أصل الشرائعِ ما نَزَلَتْ إِلَّا لإصلاحِ الخَلْقِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: ما وردَ عن النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام فِي وسائل الطب يُشْكِل عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ طبيبًا؟
فالجواب: نعم لَكِنَّهُ بالوحي يُدْرِك هَذَا الشَّيْء؛ لِأَنَّهُ هُوَ إمَّا أن يَكُون أدركه بالتجاربِ، فإذا أدركه بالتجارب وأخبرَ به عُلِمَ، وَإمَّا أن يَكُونَ قد أدركه بالوحيِ، فمثلًا ذِكره أنَّ الشفاء فِي ثلاثٍ
(1)
، والعَسَل معروف بالوحي:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، وهناك الكَيّ والحِجَامة، فيَحْتَمِل عندي أنا وعند غيري أَنَّهُ تلقَّى ذلك من الوحيِ، ونحن لا نعلم بهَذَا، ويَحتمِل أَنَّهُ عَلِمَه من التجاربِ وثبَت عندَه، ومع ذلك أيضًا نَقُولُ: ما دامَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَثبَتَهُ فإنَّنا نُثبته؛ لِأَنَّهُ ثبت بقولِ الرَّسُول وكذلك التجارِب تَشْهَد له.
فالتَّلْقِيح وغيرُه مثل صناعة الأبوابِ والبناياتِ، وهَذه الأَشْيَاء قد لا يَعْلَمُها
(1)
انظر: صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث، حديث رقم (5356)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام إنْ كَانَ قدْ مَارَسَها، ولهَذَا الرَّسُول عليه الصلاة والسلام لو كَانَ عنده فِي مكَّة نَخْلٌ ومارسَ هَذَا الشَّيْءَ أو مارسه أهل مكَّة وعَلِموا به لَدَرَى عنه الرَّسُولُ، لَكِنَّهُ أتَى للمدينةِ أوَّل ما أتى وقال: واللهِ أنا ما أظنُّ أنَّ هَذَا التلقيحَ يَنْفَعُ شيئًا
(1)
، ولم يقلْ: لا تُلَقِّحوا، لكِن الصحابة لِتَعَبِهِم مِنَ التلقيحِ لمَّا سمِعوا هَذَا الكَلامَ فرِحوا وقَالُوا: إذنْ لا نُلَقِّح وتركوا التلقيحَ.
فما أخبر به الرَّسُولُ قد يَكُونُ بالممارسةِ وقد يَكُونُ بغيرِ الممارسةِ، مثلًا:"الْكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ"
(2)
هل هَذَا وحيٌ أو لا؟
هَذِهِ بالذات قد تكون وحيًا؛ لِأَنَّهَا خَفِيَّة، لكِن مسألة الحِجامة ومسألة الكَيّ هَذَا أمرٌ معلومٌ ومعروفٌ عندَ النَّاسِ، فقد يُغَلِّبُ الْإِنْسَان أن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عَلِمَ ذلكَ بالتجارِب، وقد يقولُ الْإِنْسَان: هَذَا وحي مِنَ الله عز وجل أوحاه إليه.
والمعلوم بالتجارب قطعيّ إذا حَكَمَ به الرَّسُولُ، مَعَ أن الرَّسُول يَقُول:"إِنْ كَانَ الشِّفَاءُ فِي شَيْءٍ فَفِي ثَلَاثٍ" فما جَزَمَ؛ لِأَنَّهُ قد لا يَشفَى الْإِنْسَان بهَذهِ الثلاث.
وكلامه الأوَّل فِي التلقيحِ لَيْسَ عن تجَارِبَ، ولهَذَا أخلفَ الأَمْر؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عنده وَحْيٌ ولا تجَارِبُ عليه الصلاة والسلام.
إِذَنِ: الرَّسُول قالها رأيًا، هُوَ قَالَ: أَرَى أنَّ ذلك لا يَنْفَع شيئًا، لكِن مِثْلَما تقدَّم: أنَّ الصحابة لمَّا سمِعوا هَذَا الكَلام فرِحوا به، قَالُوا: إذن كُفِينا المُؤْنَةَ؛ ما دام هَذَا ظنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وترَكُوه وفَسَدَ النخلُ.
(1)
سبق تخريجه بلفظ: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".
(2)
رواه البخاري، كتاب الطب، باب المن شفاء للعين، حديث رقم (5381)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب فضل الكمأة ومداواة العين بها، حديث رقم (2049)، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قد يُشْكِل عَلَى بعض النَّاس فيقولونَ: كما أَنَّهُ لَيْسَ مُؤَبِّرًا فَهُوَ لَيْسَ أيضًا طبيبًا؟
فالإجابة: ليس بصحيحٍ، نَقُولُ: الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ما جَزَمَ بأنه يفيدُ، وهَذَا أمرٌ معلولم لكلِّ مؤمنٍ، ويستطيع أنْ يُدَافِعَ لمن أوردَ شُبهة فِي هَذَا الأَمْر فيقول: النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ما جَزَمَ، ولو جزمَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بهَذَا الأَمْرِ فَإِنَّمَا جزمَ به عَلَى سبيلِ الظنّ، والْإِنْسَان قد يَجْزِم بالشَّيْءِ عَلَى سبيلِ الظنِّ، وقد أقرَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَن جَزَمَ .. بل قد أقسمَ عَلَى سبيلِ الظنّ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الأطبّاء العَصْرِيُّون يعملون بالكيِّ، فهل يُرَدّ الحديثُ بِسَبَبِ ما ظَهَرَ من أنواعِ التقدُّم فِي الطبِّ أو لا؟
نَقُول: هَذَا لَيْسَ بصحيحٍ، أولًا: هم الْآنَ يؤمنون بالكيّ، لكِن تَخْتَلِف الوسيلة الآن، فالكيُّ بالكهرباء ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ هَذَا معروف لهم، ومُسْتَعْمَل ويؤمنون به.
وكما قَالَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: "أَلا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ" لَيْسَ المُرادُ بالرمي بالقوس الآن، الرمي بالآلة الموجودة، والكي أيضًا بالآلة الموجودة. وهم أيضًا الْآنَ فِي بعض الأَشْيَاء يَلْجَئُون إِلَى الطبِّ العربيّ، وأذكر أنهم دائمًا يَنْصَحُون المريضَ بذاتِ الجَنْبِ ويَقُولُونَ: اذهَبْ تَطَبَّب طِبًّا عربيًّا، ويُكْوَى ويُشْفَى بإذن الله.
وهم فِي الحقيقة قد يُنْكِرون الوسيلةَ أو الآلةَ الَّتِي حَصَلَ بها الكَيّ، أو فِعْل بعض الَّذِينَ يكوون بالحديدِ، ففِعل بعض الَّذِينَ يكوون فظيع والعياذُ باللهِ، أنا أذكُرُ أنّ بعضَ النِّسَاءِ يُؤتَى إليها بالطفلِ وتَعْمَل له فِي رأسه ثمانين كَيَّة، وكذا فِي ظَهْره كُلّ خرزة مِنَ الظَّهر عليها خَمْس. فالأطباء يَقُولُونَ بهَذَا الشَّيْءِ ويُنْكِرونه لِئَلَّا يَحْصُل مثل هَذِهِ الحالاتِ.