الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (82)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} [النمل: 82].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} حقَّ العذابُ أنْ يَنْزِلَ بهم فِي جملةِ الكفّار، ، وهَذَا تفسير منه عَلَى أنّ الضَّميرَ فِي قولِه:{عَلَيْهِمْ} يعودُ إِلَى كفارِ مكَّة، ولهَذَا احتاج أن يقولَ:[فِي جملة الكفّار]، لأجل التوطِئة لمَا بعدَه {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} ، ويجوز أن يَكُون الضَّمير عائدًا إِلَى جميعِ النَّاسِ، أي {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ} عَلَى النَّاسِ، ولا يَكُون المُرادُ بالقَوْلِ هنا القَوْل بالعذابِ، بل يجوز أن يَكُون المُراد به القَوْل بانتهاء الدُّنْيا، وتُحمَل الإلة عَلَى الدابّة الَّتِي تخرج فِي آخِرِ الزمانِ، وهي من أشراط الساعة.
قوله: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} نكَّرَهَا لِأَنَّهَا غير معروفةٍ، فكأنها دابَّة منفرِدة فِي نوعها.
قوله: {دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} : {مِنَ الْأَرْضِ} : هل هِيَ متعلِّقة ب {دَابَّةً} أو ب {أَخْرَجْنَا} ؟
الظَّاهرُ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ ب {دَابَّةً} ، يَعْنِي: أخرجنا لهم دابَّةً مِنَ الْأَرْض، لا من السَّمَاء.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إذا قُلْنَا: إنَهَا متعلِّقة بـ {أَخْرَجْنَا} أو بـ {دَابَّةً} هل يَخْتَلِف المَعْنى؟
نعم، يختلف المَعْنى، إذا قَالَ:{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً} يمكن أن ينزل مَلَكٌ فِي الْأَرْض، ثُمَّ يخرج مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ ما عُيِّن من أين تكون هَذِهِ الدابَّة، وَأَمَّا إذا قُلْنَا:{دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} فتَتَعَيَّن أن تكون من دوابّ الْأَرْض.
وقوله: {تُكلَّمُهُم} يعني تكلِّم النَّاس، والكَلام هنا بمعنى الحديثِ، قَالَ المُفَسِّر: [أي: تكلِّم الموجودين حينَ خُروجها بالعربيَّة، ، يجوز أن تكون بالعربيّة أو بغيرها.
عَلَى كُلِّ حالٍ: هِي تُكَلِّمُ النَّاسَ بكلامٍ يَعرِفُونَهُ، فهَذَا هُوَ المتبادر من الكَلامِ، ويمكن أن يقال: إنَّهُم إذا لم يُوقِنوا بآياتِ اللهِ يُسَلِّط اللهُ عَليهم السِّباع تأكلهم وتجرحهم، لكِن هَذَا بعيدٌ، وما رأيتُ هَذَا من كلامِ السلفِ، كلُّه من كلام المتأخِّرين.
ويرى بعض المفسِّرين أن المُراد بالكَلامِ هنا الجَرْح، تُكَلِّمُهُمْ يعني تُجَرِّحُهُم، أي: تَخْمِشُهم بأظفارها، قَالُوا: لِأَنَّ الكَلْمَ يأتي بمعنى الجرْحِ؛ كقولِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَثْعَبُ دَمًا"
(1)
.
ولكِنَّ هَذَا القَوْل لَيْسَ بصحيحٍ؛ لِأَنَّ الأَصْل فِي الكَلامِ هُوَ النُّطْقُ، ولا معنى لكونها تُجَرِّح النَّاسَ. لكِن بماذا تكلمهم؟
قَالَ: [مِن جملةِ كلامها عنَّا {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا}]، إِلَى آخرِه، قوله رحمه الله:[من جملة كلامها عَنَّا] أي أَنَّهَا تقول عن اللهِ، عَلَى لِسانِ الدابَّة؛ لِأَنَّ قوله: {إِنَّ النَّاسَ
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله عز وجل، حديث رقم (2649)؛ ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، حديث رقم (1876)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} لا يستقيم أن يَكُونَ مِن كلامِ الدابَّة عن نفسها؛ إذ إنَّ الدابَّة لَيْسَ لها آيَات يَجِب الإيقان بها، وإنما الآياتُ الَّتي يَجِب الإيقانُ بها لله، ولهَذَا يَقُول المُفَسِّر رحمه الله:[عنّا {إِنَّ النَّاسَ} أي كفَّار مَكَّة، وَعَلَى قراءةِ فتحِ همزَةِ "أَنَّ" تُقَدَّر الباءُ بَعْد تكلمهم]
(1)
، أي تكلّمهم بهَذَا الكَلام {كَانُوا بِآيَاتِنَا} .
استفدنا من كلام المُفَسِّر (وَعَلَى قراءة فتح همزة أنَّ) أنَّ الأَصْلَ الَّذِي فسَّره بالكسر (تكلمهم إنَّ النَّاس) فيَكُون هَذَا مبتدأ الكَلام، وَعَلَى قراءة الفتحِ يَكُون عَلَى تقديرِ حرفِ الجرّ، أي: بأن النَّاس {كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} .
وقول المُفَسِّر رحمه الله: إنَّ المُرادَ بالنَّاسِ كفَّار مكَّة، هَذَا فِيهِ نظرٌ ظاهرٌ؛ بل إنَّ المُرادَ بالنَّاس الموجودون فِي ذلك الوقت الَّذِينَ وقعَ عليهم القَوْلُ فَأُخرجت لهم الدابَّة تُنْذِرُهم.
وَأَمَّا كونه يقال: إن كفار مَكَّة لا يُوقِنُونَ فلا حاجةَ إِلَى إخبارها عنهم، فإخبار الْقُرْآن عنهم أوكَدُ من إخبارِ هَذِهِ الدابَّة عنهم، فكلام المُفَسِّر هنا فِيهِ نظرٌ ظاهرٌ، وَلَيْسَ بصوابٍ أبدًا، بل هُوَ خطأ، فهي تكلِّم النَّاس الَّذِينَ وَقَعَ عليهم القَوْلُ حين خُرُوجِها، تُحَذِّرُهُمْ أن النَّاس كانوا بآيَات اللهِ لا يوقنون، هَذَا ما مشى عليه المُفَسِّر وأكثرُ المفسِّرين عَلَى أن كلام هَذِهِ الدابة:{أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} ، ولهَذَا احتاج إِلَى تقدير (عنّا).
لكِنَّ ابن كثير استبعدَ هَذَا القَوْل، وقال
(2)
: إنَّهَا تكلمهم وتُحدِّثُهم بحديثٍ مُسْتَقِلٍّ ما بُيّنَ فِي الْقُرْآن، ويَكُون قوله:{أَنَ النَّاسَ} أو {إِنَّ النَّاسَ} هَذَا تعليلًا لِقَوْلِهِ:
(1)
الحجة في القراءات السبع (ص: 275).
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (3/ 375).
{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً} يَعْنِي: فليست الدابَّة هِيَ الَّتِي تقول للناس: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} ؛ لِأَنَّ هَذَا القَوْل لا يمكن أن تَنْطِقَ به الدابَّة؛ إذ إنَّهُ لا يَصِحُّ أن يَكُون إِلَّا منَ اللهِ. لهَذَا أنكر هَذَا القَوْلَ، مَعَ أنَّ ابنَ جَرير رحمه الله اختاره
(1)
، لَكِنَّهُ هُوَ عَلَى أنه مُخْتَصَر لابنِ جَريرٍ أنكرَ هَذَا، وقال: إنَّهَا تُكَلِّمُهُم بكلامٍ لم يُبَيَّن، وإن قوله:{أَنَّ النَّاسَ} أو {إِنَّ النَّاسَ} بالفتحِ أو بالكسرِ، الجملة تعليل لِقَوْلِهِ:{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} .
وقوله: {بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} ، معنى {لَا يُوقِنُونَ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله:[لا يُؤْمِنُون بالْقُرْآن المشتمِل عَلَى البعثِ والحسابِ والعقابِ]، وتفسير الإيقان بالإِيمانِ فِيهِ قُصُورٌ لَكِنَّهُ تقريبيٌّ؛ لِأَنَّ الإيقانَ أبلغُ منَ الإِيمانِ وأخصُّ منه، فَهُوَ درجةٌ عاليةٌ أعلى منَ الإِيمانِ، ولهَذَا قولُكَ: أيقنتُ بكذا، أبلغُ من قولكَ: آمنتُ به.
وهَذِهِ الدابَّة أوَّلًا: نبحثُ فيها هل هِيَ الدابَّة الَّتِي تخرج فِي آخِرِ الزمانِ والَّتي ذكرها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من علاماتِ الساعةِ أو دابَّة أخرى؟
يرى بعض العُلَماء أَنَّهَا هِيَ الدابة الَّتِي تكون فِي آخِرِ الزمانِ، ويرى آخرونَ أَنَّهَا دابَّة أُخرى، ولهَذَا جاءت فِي الحديثِ مُعَرَّفَة وجاءت هنا منكَّرَةً، فيقال: دابة واللهُ أَعْلَمُ بها هل هِيَ الَّتِي تكون من أشراط الساعة أو أَنَّهَا دابة مستقلَّة؛ لأَنَّنا لو نَعلَمُ أن الحديث بَعْد هَذِهِ الآيَةِ لقُلْنَا: إن الدابَّة فِي الحديث للعهدِ الذِّهْنِيّ، يعني الدابَّة الَّتِي عَرَفْتُمُوهَا وتحَدَّث الله عنها، وحينَئذٍ تكون الدابَّة هنا هِيَ الدابة هناك، ولَكِنَّنَا لا نعلم، ولهَذَا التوقُّف أَولى؛ هل هِيَ هي أو غيرها.
(1)
انظر: تفسير ابن جرير (20/ 14 - 17).
ثانيًا: هَذِهِ الدابَّة مُبْهَمَةٌ من حَيْثُ المكانُ {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} لكِن من أيّ مكان تُخْرَج؟
وَرَدَتْ أحاديثُ لَكِنَّها ضعيفةٌ أَنَّهَا تَخْرُجُ من مكَّة من أَجيادٍ أو منَ الصَّفَا أو من مكان آخرَ
(1)
، المهم أَنَّهَا تخرج من مَكَّة، ولَكِنَّهَا أحاديث ضعيفة لا يُعتمَد عليها فِي العقيدة.
ثم هل هِيَ تُخْرَج حقيقةً من الْأَرْض فتَنْشَقّ عنها الْأَرْض وتخرج، سواء من مكَّة أو غيرها، أو أن المُراد بالإخراج هنا إبرازها وإظهارها، وأنها دابة كغيرها من الدوابّ، ثُمَّ تَتبَيَّن بما يَحْصُلُ لها منَ النُّطق، وَيكُون هَذَا كقول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ"
(2)
؛ لِأَنَّ السباع فِي آخرِ الزمانِ تكلِّم الإنس؟
هَذَا أيضًا مَحَلُّ تَوَقُّفٍ، ولذلك هَذِهِ الدابة بمِرة لفظًا ومعنى، فنحن لا نَعْرِفها تمامًا؛ لِأَنَّهَا ما وُصِفَتْ فِي الْقُرْآنِ أو فِي السنَّة أوصافًا بحيثُ يَجْزِمُ الْإِنْسَان بها.
كذلك هَذِهِ الدابَّة هل هِيَ من جِنْسِ الدوابِّ أو أَنَّهَا دابَّة معيَّنة عَلَى شكل معيَّن؟
تكلَّموا فِي هَذَا كلامًا طويلًا، وكل ما ذَكَرُوا إِنَّمَا هُوَ مأخوذٌ عن بني إسرائيلَ، ولا يمكن أن يُصدَّق، غاية ما هنالك أَنَّهُ يحدَّثُ به ولا يُصَدَّق ولا يُكَذَّب ولا يُعْتَمَد عليه فِي العقيدةِ؛ فذكروا عن آذانِها وذكروا عن عَينها وعن رِجلها أَشْيَاءَ غريبةً جدًّا.
المهم: أننا نُبْهِمُ ما أَبْهَمَهُ اللهُ، ولا نُعَيِّن ما لم يُعَيِّنْه الله ورسولُه، وحَسْبُنا أن نؤمنَ بأنه إذا وقعَ القَوْلُ عَلَى النَّاسِ فسوفَ يُخْرِجُ اللهُ لهم دابَّةً منَ الْأَرْض تُحَدِّثُهُم، وتكون
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة (37286)، الفتن لنعيم بن حماد (2/ 661 - 666).
(2)
رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في كلام السباع، حديث رقم (2181)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
هَذِهِ الدابَّة آيَةً عَلَى أنّ العذاب قد قَرُبَ وُقُوعُه منهم، هَذَا غاية ما يُسْتَدَلُّ عليه من هَذِهِ الآيَةِ.
فإِذَنْ: يَكُون قوله: {أَنَّ النَّاسَ} أو {إِنَّ النَّاسَ} لَيْسَ من قول الدابّة عَلَى هَذَا التَّقْدير، بل هُوَ من قولِ اللهِ تعليلًا لِقَوْلِهِ:{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً} يعني يُخْرِجها؛ لِأَنَّ النَّاس كانوا، وعليه فيَكُون مطابقة هَذَا التعليلُ للشرطِ فِي قوله:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} يَكُون مطابقته مطابقة السَّبَب للمسبّب، إذا كانوا لا يوقنون حينئذٍ وقع عليهم القَوْلُ وحينئذٍ أُخرجتِ الدابَّة.
قوله: {بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} المُراد بالآيَاتِ هنا الكونيَّة والشَّرْعِيَّة، لكِن الكونيَّة ألم يوقن بها الكفار؟ بلى، لَكِنَّهُ إيقانٌ لم يَنْفَعْهُمْ، والشَّيْءُ الَّذِي لا يَنْفَعُ يَصِحُّ أنْ يُنْفَى لعدمِ الانتفاعِ به.
قال: [وبِخُرُوجِها]، بخروج الدابَّة [يَنْقَطِع الأَمْرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكَرِ ولا يؤمن كافرٌ]، لِأَنَّهُ قد وقعَ عليهم القَوْلُ؛ وإذا صحَّ هَذَا التفسير فإنَّ معنى ذلك أن هَذِهِ الدابَّة من أشراط الساعةِ؛ لِأَنَّهُ لا يَكُون الأَمْر كذلك إِلَّا فِي آخِرِ الزمانِ بعدَ أن يَنزِلَ عيسى صلى الله عليه وسلم ويبقى فِي الْأَرْض سبعَ سنينَ، لا يَحْصُل بين اثنينِ عداوةٌ ولا شَحناءُ، ثُمَّ يُرْسِل الله رِيحًا باردةً من قِبَلِ الشامِ فتَقْبِض نفسَ كُلّ مُؤْمِنٍ
(1)
وَيبْقَى شِرارُ النَّاسِ، فِي خِفَّةِ الطيرِ وأحلامِ السِّبَاعِ
(2)
.
(1)
رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، حديث رقم (2937)، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض ونزول عيسى وقتله إياه وذهاب أهل الخير والإيمان وبقاء شرار الناس
…
، حديث رقم (2940)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.