الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
116 - الحمد لله وسألني: الفقيه فخر الدين عثمان المقسي نفع الله به عن القرافة وما فيها من كلام
.
فكتبت ما نصه: الكلام على ذلك، من أوجه، الأول: في السبب في تسميتها بذلك وهو لأن قبيلة من المعافر تسمى كذلك، نزلت بموضعها وكانت محلة فسمى الموضع باسمها.
وقد انتسب إليها من العلماء والمحدثين جماعة، منهم: أبو دجانة أحمد بن إبراهيم بن الحكم بن صالح يروي عن حرملة وغيره، مات في سنة تسع وتسعين ومائة، والشهاب أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي صاحب "التنقيح" وغيره، وأبو شعيرة علقمة بن عاصم المعافري، وابو الحسين علي بن صالح الوزير شيخ لابن ماكولا، وأحد أئمة المالكية في عصرنا الشمس محمد بن أحمد بن عمر بن شرف، ومحمود بن محمد، وأبو الفضل الجوهري، ومن لا ينحصر. وتشتبه هذه النسبة بالقوافي مثلها لكن بواو بدل الراء، وهو عريف القوفي شاعر مشهور، ومثل الأول ولكن بقاف مضمومة بدل الفاء وقبلها موحدة شخص بلخي ذكره الماليني.
وذكر الأمير في ترجمة القرافي العراقي والعرافي، والله أعلم.
الثاني: في اشتهار كونها مقبرة للمصريين حتى قال ابن الأثير وغيره: القرافة مقبرة مصر. فروي ابن عبد الحكم في فتوح
مصر من طريق ابن لهيعة أن المقوقس قال لعمرو رضي الله عنه: إنا نجد في كتابنا أنه ما بين هذا الجبل يعني المقطم وحيث نزلتم نبتت فيه شجرة الجنة، فكتب بقوله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صدق، فاجعلها مقبرة للمسلمين.
ومن طريق الليث رحمه الله قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه المقطم بسبعين ألف دينار فعجب عمرو من ذلك وقال: اكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها فسأله فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب، إن فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: إنا لا نعمل غراس الجنة إلا المؤمنين فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين، ولا تبعه بشيء وكان أول من دفن فيها رجل من المعافر يقال له: عامر فقيل: عمرت، فقال المقوقس لعمرو كما رواه ابن عبد الحكم أيضًا من طريق ابن وهب عن عمارة بن عيسى-: ما عاهدتنا على ذلك فقطع لهم الحد الذي بين المقبرة وبينهم، وقال غير عمارة: فقبر فيها من عرف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي من طريق ابن لهيعة عن من حدثه تسمية خمسة نفر دفنوا بها وهم: عمرو بن العاص وعبد الله بن حذافة السهمي، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وأبو بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني، زاد غيره: ومسلمة بن مخلد الأنصاري. انتهى.
وفي لفظ عند الكندي في فضائل مصر: أن عمرًا كان يسيح في سفح الجبل المقطم ومعه المقوقس فقال له عمرو: ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات كجبال الشام فلو شققنا فس سفحه نهرًا وغرسناه نهرًا؟ فقال المقوقس: وجدنا في الكتب أنه كان أكثر الجبال أشجارًا ونباتًا وفاكهة وكان ينزله المقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح علهي السلام فلما كانت الليلة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام أوحى الله عز وجل إلى الجبال أني مكلم نبيًا من أنبيائي على جبل بيت منكم فشمت الجبال كلها وتشامخت إلا جبل بيت المقدس فإنه هبط وتصاغر، فأوحى الله إليه ـ وهو أعلم به ـ لم تفعل هذا؟ فقال: إعظامًا وإجلالاً لك يا رب فأمر الله الجبال أن يجئه كل جبل بما فيه من النبات فجاد له المقطم بكل ما عليه من النبات حتى بقي كما ترى، فأوحى الله إليه: إني معوضك على فعلك بشجر الجنة أو غراس الجنة، فكتب عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر: إني لا أعلم غراس الجنة إلا المؤمنين، فاجعله لهم مقبرة، فغضب المقوقس من ذلك وقال لعمرو: ما على هذا صالحتني، فلقطع له قطيعًا نحو الحبش يدفن فيه النصارى.
قال: وروي أن موسى عليه السلام سجد فسجدت معه كل شجرة من المقطم إلى طرا. وروي أنه مكتوب في التوراة وادي سفحة مقدس يريد وادي موسى عليه السلام بالمقطم، عند مقطع الحجارة وأن موسى عليه السلام كان يناجي ربه بذلك الوادي.
وروى أسد بن موسى قال: شهدت جنازة مع ابن لهيعة فجلسنا حوله فرفع راسه إلى الجبل فقال: إن عيسى بن مريم عليه السلام مر بسفح
هذا الجبل وعليه جبة صوف وقد شط وسطه بشريط وأمه إلى جانب فالتفت إليها وقال: يا أمه! هذه مقبرة أم محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن لهيعة عن عباس بن عباس أن كعب الأحبار سال رجلاً يريد مصر فلقال له: أهد لي تربة من سفح مقطمها فأتاه منه بجراب فلما حضرت كعبًا الوفاة أمر به فجعل في لحده تحت جنبه.
قلت: والمقطم كما قال ابن لهيعة: هو ما بين القصير إلى مقطع الحجارة وما بعد ذلك فمن اليحموم جبلاً آخر.
وروي كما أورده ابن عبد الحكم عن أبي قبيل المعافري: أن رجلاً سال كعب الأحبار عن جبل مصر فقال: إنه لمقدس ما بني القصير إلى اليحموم. قال ابن لهيعة: وليس هذا بقصير موسى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه موسى الساحر.
وروى ابن عبد الحكم من طريق المفضل بن فضالة عن أبيه قال: دخلنا على كعب الأحبار فقال لنا: ممن أنتم؟ قلنا: من أهل مصر، فقال: ما تقولون في القصير؟ قال: قلنا: قصير موسى، فقال: ليس هو بقصير موسى ولكنه قصير عزيز مصر كان إذا جرى النيل ترفع فيه وعلى ذلك إنه لمقدس من الجبل إلى البحر قال: ويقال: إنهكان موقدًا يوقد فيه لفرعون إذا هو ركب من "منف" إلى عين شمس، وكان على المقطم موقد آخر،
فلما رأوا النار علموا ركوبه له ما يريد، وكذلك إذا ركب منصرفًا من عين شمس، انتهى. و"منف" قيل: إنها كانت دار الملك بمصر في قديم الدهر في غربي النيل على مسافة اثنى عشر ميلاً من الفسطاط.
الثالث: اختلف نظر الأئمة في ذلك هل هو وقف أو إرصاد، ومال إلى الثاني الشيخ شهاب الدين الأنصاري وهو أبو شامة فيما أظن قال: لأن التحبيس كما هو ظاهر الحال لا يستبد به أمير الجيوش بل لابد من إعلام الإمام وإذنه كما فعل في الإسكندرية فإنها فتحت عنوة فطلب الغانمون قسمتها بينهم فشاور عمرو عمر رضي الله عنهما ووقفها وما هي مشتملة، فاستنزل الغانمين عنها وجعلها وقفًا على المسلمين. وهكذا أرض السواد وما جرى مجراها مما يراد تحبيسه قال: ولم ينقل في هذه الواقعة إنه استشار عمر ولا أن عمر حبسها، فيكون من باب الإرصاد لدفن الموتى لمصالح رآها عمرو، وإذا كان كذلك فكل إرصاد بالاجتهاد يجوز لمن بعده من الأئمة تعبيره في المستقبل دون ما مضى لمصلحة مماثلة أو مقارنة بخلاف ما إذا كانت المصلحة المنتقل إليها دونها، هذا بالنسبة إلى الجواز، وأما لو فعل الإمام فعلاً فالوجه تنفيذه ولو خلا عن المصلحة، وكان الأول مشتملاً عليها.
وما ادعاه من عدم استشارة عمر في هذه الكائنة ممنوع بما تقدم، ولكن قد تمسك الشهاب أيضًا لما مال إليه بأن الوقف لا يثبت عند الشافعي وغيره بأخبار الآحاد قال: ويشهد لذلك استشكال مذهب الشافعي في الحكم في خراج السواد بأنع مر وقفها بأنه لابد من مشاهدة العاقد وسماع
كلامه، وإذا لم يكن كذلك لا تسوغ الشهادة بأن فلانًا حبس أو وقف، نعم، يشهد فيه بالاستفاضة قال: ولو لم يعتمد الإرصاد لكان خرقًا لإجماع السلف، لأنهم شاهدوا هذه القرافة الكبرى والصغرى من الزمان المتقدم، وما بني فيها من الترب والدور والمدافن ولم ينكر ذلك أحد من علماء الأعصار لا بقول ولا بفعل بل بنوا قبة الإمام الأعظم الشافعي رضي الله عنه ورحمه، وسائر المزارات، وفي كل هذا دلالة على أنهم رأوا ذلك إرصادًا ولم يروه وقفًا وحبسًا على هذه الجهة المعينة وإلا كان يجب هدم كل بناء ولا يعذر ويمنع المرور للتفرج والاستراحة لأنها مستحقة لمنفعة معينة فلا يجوز في غيرها، قال: والمسألة محتملة جدًا.
وجزم بالثاني أعني كونها وقفًا لا إرصادًا ابن بنت الجميزي والظهير الترمنتي فأفتى كل منهما بهدم ما بني فيها فحكم ابو عبد الله اب نالحاج من المالكية في مدخله عن من يثق به أن الملك الظاهر بيبرس صاحب الظاهرية كان قد عزم على هدم كل ما القرافة من بناء ووافقة الوزير على ذلك في الظاهر وصار يفند واحتال عليه بأن قال له: إن فيها مواضع للأمراء وأخاف من وقوع فتنة بسبب ذلك، واراي أنتستفتي العلماء ليكون ذلك مانعًا لتشويشهم وغيرهم، فاستحسن ذلك وأمر فاستفتي الظهير التزمنتي وابن بنت الجميز ونظراؤهما فاتفقوا على أنه يجب على ولي الأمر هدم ذلككله وإلزام أصحاب البناء بنقل ترابه إلى الكيمان، ولميختلف في ذلك أحد منهم، ولم يلبث أن سافر الظاهر إلى الشام فمات هناك، قال ابن الحاج: فهذا إجماع هؤلاء المتأخرين فكيف يجوز البناء فيها، بل كل من فعل فقد خالفهم.
قلت: وحكى ابن الرفعة عن شيخه الظهير عن ابن بنت الجميزي قال: جاهدت مع الملك الصالح في هدم ما أحدث بقرافة مصر من البناء فقال: أمر فعله والدي ـ يعني الملك الكامل ـ فإنه الذي عمر قبة الإمام الأعظم الشافعي رحمه الله لا أزيله، قال: ودخل الظهير إلى صورة مسجد بناه بعض الناس بقرافة مصر الصغرى فجلس فيه قبل أني صلي له تحية، فقال له بانيه: هلا صليت التحية، فقال: إنه غير مسجد لأن المسجد هو الأرض، والأرض مسبلة لدفن المسلمين أو كما قال. حكاه البدر الزركشي قال: وهذا أمر قد عمت به البلوى، وطمت، ولقد تضاعف البناء حتى انتقل للمباهاة والتنزه بعد أن كان للاعتبار وسلطت المراحيض على أموات المسلمين من الأشراف والأولياء وغيرهم لا حول ولا قوة إلا بالله.
قلت: وظاهر كلام شيخنا رحمه الله التوقف في ثبوت الدليل، ونص قوله جوابًا لسائل سال: قد اشتهر في السفح ما نقل عن عمر رضي الله عنه أنه جعلها مرصدة لدفن المسلمين ولا يلزم من ذلك امتداد السبيل لما لا يطلق عليه اسم السفح بل إذا ثبت ذلك كان ما عدا السفح حكمه حكم الموات، انتهى بحروفه وهو كلام جيد.
وسبقه الولي العراقي رحمه الله فقال جوابًا لمن سأله عن التراب المتخذة بباب النصر كتربة الصوفية وما يحاذيها: هل يجوز لغير من أنشأها أو من أذن له في إنشائها أن يقبر بها ميتًا بغير إذنه أو بغير إذن من هو قائم مقامه كالناظر مثلاً أو لا؟ وإذا لم يجز ذلك فتعرض شخص لموضع منها واساء على القائم بمصالحه بحيث ربما يؤدي لتعطيله فماذا يجب عليه؟ وهل أراضي هذه الترب من الأموات الذي يملك بالإحياء أم لا؟ ما نصه: هذا موت يملك بالإحياء كغيره من الموات ولم يزل الناس على ذلك، يبنون في تلك الموات فيصير الموضع ملكًا للباني فيه، وترفع الأوقاف فيه
إلى القضاة فيحكمون بصحفتها أو موجبها، وما يتخيل من وقف عمر رضي الله عنه لذلك، لم يثبت، ولو ثبت فلا يتحق أن تلك المواضع من جملة الوقف، فلا يجوز لأحد الدفن فيما أحيي من ذلك إلا إن كان مملوكًا أو موقوفًا على الدفن فيه مطلقًا، أو على دفن من طائفة مخصوصة وذلك المدفون منهم. أما الموقوف على جهة غير الدفن أو على دفن طائفة مخصوصة فلا يجوز لغير الموقوف على دفنهم أن يدفنوا فيه فإن فعل فيه ذلك فقد دفن في أرض مغصوبة، فينبش ويخرج منها كالدفن في سائر الأراضي المغصوبة ويزجر المخالف لذلك ويمنع منه، والله أعلم.
الرابع سئل: شيخنا رحمه الله أيضًا: هل يجوز لليهود المرور بها ـ يعني القرافة ـ أو لا؟ ويكون مانعهم مصيبًا؟
فقال ما نصه: أما المرور في الطريق الجواد المشتركة، فلا يمنع منه، وأما المرور بين قبور المسلمين، فيمنع منه اليهود والنصارى لما فيه من الامتهان وقد ورد النهي عن المشي بين القبور بالنعال وذلك في حق المسلم فما الظن بالكفار على الصورة المذكورة؟ فالذي يمنعهم من ذلك مصيب والحالة هذه.
قلت: ولذلك أغلظ فقيه المذهب الشرف المناوي رحمه الله على من رآه من نوابه يماشي يهوديًا هناك، وسارع بعض من لا يعلم إلى إنكاره جريًا على العادة في تحريفهم الحسنات، والأعمال بالنيات، والله الموفق.