الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
181
- الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، حادثة وهي: أن الشيخ برهان الدين إبراهيم النعمائي المصري الشافعي نفع الله به، قرأ بين يدي المحبوبي الكافياجي شيخ الشيخونية بها في آخر كتاب الشفاء للقاضي عياض. قوله: ويخصنا بخصيصي زمرة نبينا وجماعته بسكون الياء، بصيغة التثنية المحذوفة النون، فرد عليه جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر الأسيوطي مدرس المحدثين بالمدرسة المذكورة ذلك.
وقال: إن اللفظة خصيصي بألف التأنيث المقصورة فلم يلتفت لقوله وانفصل المجلس. فكتب الجلال المذكور إلى الشيخ برهان الدين ورقة نصها كما قرأت بخطة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي منح العلماء والأشراف، بمعاندة الجهال والأطراف، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أولي الفضل والإنصاف، وبعد، فقد قرأ بعض العوام في آخر كتاب الشفا للقضاي عياض قوله: ويخصنا بخصيصي زمرة نبينا وجماعته، بسكون الياء بصيغة التثنية المحذوفة النون، فقلنا له: إنما هي خصيصي بألف التأنيث المقصورة وأقمنا له العذر في ذلك كونه رآها مرسومة بالياء، فظن أنها ياء فادعى أنها رواية، وكذب في ذلك ثم ارتقى وادعى أن ذلك هو الصواب وأن المراد بالخصيصين أبو بكر وعمر. وأقول: ما ادعاه باطل رواية ولغة ومعنى. أما رواية، فالذي تلقينا من المعتبرين في الضبط، وضبطه من يرجع إليهم في النقل أنه بالألف لا غير، وممن نبه على ذلك الحافظ برهان الدين الحلبي في شرح الشفاء،
وشيخنا الإمام تقي الدين الشمني في حاشيته وكذلك قرأناه عليه وسمعناه على غيره.
وأما لغة، فقال الجوهري في الصحاح: خصه بالشيء خصوصًا، وخصوصية وخصيصي وقال في القاموس: خصه بالشيء خصًا وخصوصًا وخصوصية ويفتح وخصيصي وتمد، وقال في المجمل: خصصه بالشيء خصومة بالفتح والخصيصي مثل الخصوصية، فهؤلاء أئمة اللغة ذكروا خصيصي بالألف المقصورة مصدرًا لخصه ولم يذكروا في المسألة الخصيص لا مصدرًا ولا وصفًا وأصرح من ذلك ما ذكره الفارابي في ديوان الأدب فإنه قال: باب فعيل فيه خمسة ألفاظ: رجل شرير أي صاحب شر جدًا، والقسيس ورجل ضليل ضال جدًا، والتنين ضرب من الحيات، ورجل عنين ثم قال: باب فعيلي فيه ثمانية ألفاظ: الحثيثي الحث على الشيء، الرديدي الرد، المسيسي المس الخصيصي الخصوصية
الحضيضي الحض، الدليلي الدلالة والزليلي الزلل، والمنيني المن.
فهذا صريح في أنه ليس خصيص على وزن فعيل حتى يثنى على خصيصي، وباب فعيل مسموع لا يجوز القياس عليه كما هو مقرر في كتب العربية.
وأما بطلانه من جهة المعنى، فإن المقصود من الكلام المصدر لا الوصف، والمقصود أن يخصنا بهذه الخصوصية وهو أن يكون من جملة الجماعة المنسوبين إلى النبي صلى الله عليه وسلم والزمرة الداخلين تحت لوائه، وليس المراد الاختصاص بالذوات.
هذا أمر لا يخفى إلا على جاهل بليد، وأيضًا ولو كان خصيصي بلفظ التثنية وهو مضاف لوجب أن يضاف إلى اثنين متغايرين، وليس بعده إلا زمرة وجماعة وهما بمعنى واحد، وما قاله من تفسير كلامه غلط صراح، يضحك منه السامع، ويفرح به العدو، ويغتم له الصديق واي معنى لقوله: ويخصنا بأبي بكر وعمر، والاختصاص إنما يكون بالمعاني لا بالذوات، فليتأمل المنصف هذا الكلام، ويعلم أنه رب طويل، عريض، سمين، لا يسوي مقال نملة. والله أعلم. انتهى ما كتبه ابن الأسيوطي وارسل للبرهان المذكور بهذه الورقة المشتملة على الأوهام المتعددة، فأخذ في الاستفتاء عن المصيب منهما. فكتب الأميني الأقصرائي الحنفي بتصويب البرهان وعبارته: نعم يسلم له ذلك، ولا عبرة بمن ينكره بغير موجب له، ومعناه صحيح على ما ذكر دون غيره.
وكذا صوبه الشمس البامي الشافعي وعبارتهت: الذي سمع من
المشايخ قديمًا وحديثًا، وقرئ عليهم: إن هذه اللفظة مثناة، والمعنى عليها فلا يحل لأحد إنكارها، ومن أنكرها وصوب غيرها فهو في الحقيقية مسيء على القاضي عياض رحمه الله، فيؤدب على ِإساءته على العلماء.
وكتب الفخري عثمان الديمي الأزهري الشافعي: الذي سمعناه من ألفاظ مشايخنا المعتمدين: وأن يخصنا بخصيصي زمرة نبينا وجماعته، بباء موحدة وخاء معجمة مكسورتين، ثم صاد مهملة مشددة مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم صاد مهملة أيضًا ثم ياء تحتانية، آخر الحروف ساكنة. والله تعالى أعلم.
وكتب الزيني قاسم الحنفيك وكذلك يقول فقير رحمة ربه الغني قاسم الحنفي، وكذلك ضبطه اليماني في نسخته المعتمدة والمضبوطة على الحفاظ واله سبحانه وتعالى أعلم.
وكتب كاتبه التثنية في ذلك لا يمتنع دراية.
وأما الرواية، فهي التي نعرفها بل هي الثابتة في الأصل المعتمد
المقابل مع حافظ وقته العلامة في التصريف واللغة أبي الحاج المزي، وأثنى على الاصل المشار إليه العلامة التاج أبو محمد عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني مختصر الصحاح بل وصاحب الحاشية على الشفاء التي سماها "الاكتفاء في شرح ألفاظ الشفاء"، وعول عليها جمهور الأئمة ممن بعده، وكذا أثنى عليه العلامة تاج الدين السبكي، وعليه خط الحافظ الشمس السروجي، بل قرئ المجلس الأخير الذي فيه هذه اللفظة منه بخصوصه على شيخنا وأستاذنا شيخ مشايخ الإسلام ابن حجر وناهيك بذلك كله حجة في إثبات الرواية في الأحاديث النبوية فضلاً عن لفظ القاضي عياض رحمه الله، ومن نسب قائل ذلك إلى الكذب، فهو الكذاب لإقادمه على ما لا عهد له به، ويؤدب التأديب اللائق به، وبأمثاله خصوصًا إن كان ذلك يتضمن الطعن على هؤلاء الأئمة الأعلام. وبالله التوفيق.
ثم ورد على السؤال ثانيًا من الفريق الآخر فكتبت بنحو ذلك، ثم ثالثًا فكتبت بما نصه: قد ثبت بالتثنية بدون حكاية غيرها في الأصل المعتمد الذي كتب عليه التاج عبد الباقي اليماني مختصر الصحاح، ومؤلف الاكتفاء في شرح ألفاظ الشفاء بالثناء البالغ الذي من جملته أعرب أي ناسخه تلك الألفاظ وأخذها عن السادة الحفاظ، أبدع فيما رقم وأتقن فيما حكم، وشهد له التاج السبكي بأنه الذي يورى، فيروي كل ظمآن، ويبدي
فرائد تسحر دأب الإنسان. انتهى.
وكيف لا يكون كذلك ومحرره قد اجتهد في جمع أصول صحاح، منها أصل مغربي، قديم، مقابل مع حفيد المؤلف المذكور بالمشاركة في فنون من العلوم العقلية وغيرها وبالشعر والفصحاة، ونحو ذلك على أصل جده القاضي عياض فما حصل الاتفاق عليه في الأصول المشار إليها أثبته بالأصل وما لا، اقتصر على الأكثر أو الأضبط، وبين بالهامش المخالف، وهو في هذا اللفظ بخصوصه لم يبين خلافًا فاقتضى الاتفاق، ومع ذلك كله لم يكتف محرره بهذا بل قرأه مقابلة، وتصحيحًا على حافظ وقته المرجوع إليه في الحديث، ومتعلقاته مع تقدمه في التصريف واللغة أبي الحجاج المزي، وكذا قرأ فيه الحافظ شمس الدين بن أيبك السروجي.
وكتب عليه خطه بذلك، بل وأفاد بهامشه إلى غيرهم من أئمة العلم والحديث، وتداوله الأكابر خلفًا عن سلف إلى هذا الوقت، وكان ممن قرئ عليه منه المجلس الأخير بخصوصه شيخنا وأستاذنا من لم تر عين من رآه في فنون الحديث النبوي مع ما اشتمل عليه من العلوم الجمة مثله.
وكتب بجمد الله ممن قرأ فيه بحضرة الأئمة الأكابر من الشيوخ وغيرهم بل وقرئ علي فيه أيضًا غير مرة، وحرر معي عليه أصل صار عمدة، ولا أعلم إن شاء الله أصح منه، وحينئذٍ فقال: الرواية في هذا اللفظ بالتثنية اعتمادًا على ما بينته كما يقال: رواية الأصيلي والقابسي
والجياني وغيرهم بالنسبة لصحيح البخاري كذا مع كون لا مستند لذلك في هذه الأعصار المتأخرة إلا الأصول المعتمدة، ولا يخدش فيما تقدم أن ألف التأنيث المقصورة ربما تكتب ياء، لأنا نقول: وإن وجد ذلك كله في خط الآحاد فالمتقن لا يسكن الياء إلا في المثنى خوفًا من حصول الالتباس.
وإذا ثبت كذلك وعلم أن القاضي عياض قائل هذا اللفظ أعرف الناس في وقته بعلوم الحديث، وبالنحو، واللغة، وكلام العرب وأيامهم، وأنسابهم وممن كان في الإتقان بمكان كان كافيًا في الرجوع إليه في هذا اللفظ، إن لم يوجد صريحًا ما يخالفه، هذا الحافظ شرف الدين أبو الحسين اليونيني مع كونه لم يجتمع فيه ما اجتمع في القاضي عياض قد عول الناس عليه في ضبط الروايات في صحيح البخاري لكثرة ممارسته له، واعتنائه بمقابلته حتى إن الحافظ الذهبي [حكى أنه سمعه يقول: إنه قابله وأسمعه في سنة واحدة إحدى عشرة مرة، ولكنه ممن وصف بالمعرفة لكثير من اللغة، والحفظ لكثير من المتون والمعرفة بالأسانيد بحيث أن سيبويه وقته الجمال ابن مالك حضر عنده سماع الصحيح
المذكور فكان إذا مرَّ من الألفاظ ما يتراءى مخالفته لقوانين اللسان العربي سأل الشرف عن الرواية فيه، فإن أجاب بأنه كذلك شرع ابن مالك في توجيهه حسب إمكانه، ومن ثم جمع كتابه المسمى:"شواهد التوضيح" مع كونه لم يستوعب ذلك، ومن ذا ينهض بما نهض به ابن مالك أو ما يوازيه علمًا وعملاً، وإتقانًا وورعًا، أو من أحاط علمًا بحفظ اللغة وجمع دواوينها حتى يسوغ له أن يقول: إنه لم يسمع خصيص فدلك كعلم الحديث والفقه بحر لا ساحل له، غاية الماهر مراجعة القاموس ولسان العرب والاقتصار عليهما لا يسوغ إطلاق النفي، بل كل حصر في باب متسع الانتشار منتقد في الغالب، ومن العجيب من استدل باقتصار الفارابي في ديوان الأدب على خمسة ألفاف في باب فعيل، وثمانية في باب فعيلي وزعم صراحته في أنه ليس لنا خصيص على وزن فعيل حتى يثنى على خصيصي مع كون الفارابي لم يدع الحصر، ولو ادعاه لرد عليه في الوزن الأول بخريت وخريج وحديث وحريف وفسيق ومسيك وعريض لمن يتعرض للناس بالشر وسجيل وسجين وغيرها. وفي الثاني بخصيصي وربيبي وهجيري وحجيري وحديثي وخليفي وغيرها، بل من الوزن الأول صديق وهو كل من صدق بكل ما أمر الله به على لسان أنبيائه بغير شك، ولا امتراء وهو دائم الصدق وقد ثبت قطعًا جمعه بقوله تعالى:(والصديقين) وما ثبت جمعه جمع تصحيح ثبتت تثنيته.
وإذا تقرر هذا، فالتثنية في كلام القاضي بالنظر لشيئين، وهما:
الزمرة الشاملة لجميع من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم من الصاحبة وغيرهم إلى يوم القيامة، والجماعة الذين هم أصحابه رضي الله عنهم، وخصهم بعد دخولهم في العموم لشرفهم، فكأنه سأل الله أن يخصه باقتفاء طريق الخواص من أصحاب نبيه، ومن سائر أمته، وهو نحو قول القائل: هب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبائك. ويجوز أن يكون سأل أني خص بخصيصي هذه الأمة وهما: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حسبنما ورد في حيدث سنده ضعيف عند الطبراني فيا لكبير من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل نبي خاصة من أصحابه وإن خاصتي أبو بكر وعمر" رضي الله عنهما وكذا أخرجه البيهقي في الفضائل. ولا يكون من خواصهما إلا بسلوك طريقهما واقتفاء سنتهما، وعلى تقدير التنزل في كون الزمرة والجماعة واحد فليس يمتنع الإتيان بلفظ التثنية مع إضافته لفظًا بواحدٍ].