الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
180 - وقع السؤال من القاضي الشافعي بمجلس السلطان في مرضان سنة ست وسبعين كما بلغني: هل كان تجميع اسعد بن زرارة للجمعة بأمر منه صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فلم يجبه أحد
؟
والجواب: إنه قد اختلف في وقت فرض الجمعة فالأكثر على أنها فرضت والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو مقتضى ما أشار إليه البخاري من أن فرضيتها بقوله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) هذه الآية مدنية كما رواه ابن مردوديه في تفسيره بسند صحيح، عن ابن عباس وغيره ونازع بعضهم في ذلك وقال: لا يلزم من كون سورة الجمعة مدنية أن لا تكون الجمعة فرضت قبل ذلك، وقد نزل بالمدينة قوله تعالى في سورة النور (واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وذلك بعد فرض الصلاة بمكة ولذلك قال الشيخ أبو حامد الأسفرايني: أنها فرضت بمكة وهو وإن كان غريبًا لكنه قد يستشهد له بتجميع أسعد بن زرارة وغيره من الصحابة بالمدينة قبل هجرته صلى الله عليه وسلم إليها لما عرف من عادة الصحابة رضي الله عنهم كما جزم به شيخنا من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، وسبقه لذلك السهيلي كما سيأتي. والتجميع المشار إليه
هو ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والحاكم وغيرهما من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أن أسعد بن زرارة جمع بهم وهم أربعون في نقيع الخضمات قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ويتأيد هذا بما رواه الدارقطني والخطيب معًا في كتابيهما "الرواة عن مالك" من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أذن النبي صلى الله عليه وسلمب الجمعة قبل أن يهاجر ولم يستيطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب بن عمير ـ يعني الذي كان أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار الذين بايعوه صلى الله عليه وسلم ليفقههم في الدين، ويعلمهم الإسلام، ويقرئهم القرآن ونزل على أسعد بن زرارة ـ:"أما بعد فانظر اليوم الذي يجهر فيه اليهود بالزبور فاجمعوا نساءكم وابناءكم فإذا مال الظهر عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بركعتين" قال: فهو أول من جمع
حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك".
فهذا صريح في أنهم إنما أقاموها بعد فرضها وأن ذلك بإذن منه صلى الله عليه وسلم.
وسنده لا بأس به، وصرح الخطيب بأنه لم يكتبه إلا من هذا الوجه، ولهذا قال ابن كثير: إنه غريب.
قلت: وأعله بعض الفقهاء بما رواه أبو عروبة الحراني في "الأوائل" من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أنه قال: بلغنا أن أول ما جمعت الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع بالمسلمين مصعب بن عمير بن عبد مناف.
ولا يعل حديث مالك بهذا خصوصًا وهو واصل وقد روى أبو عروبة أيضًا من حديث ابن وهب أيضًا فقال عن ابن جريج عن سليمان بن موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب يأمره بذلك. وابن موسى تابعي، فيه مقال.
ولحديث ابن عباس شاهد عند الطبراني في الأوسط من حديث العباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا عبد الغفار بن عبيد الله الكزبري عن صالح بن أبي الأخضر أنه حدثهم عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي مسعود الأنصاري قال: "أول ما قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمعهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم".
وقال عقبه: لم يروه عن الزهري إلا صالح، ولا عنه إلا عبد الغفار، تفرد به عباس. انتهى.
ومن هذا الوجه بهذا اللفظ سواء، أخرجه في معجمه الكبير، لكنه أخرجه في الأوائل من حديث يحيى بن كثير العنبري عن صالح به باختصار، وهي ترد عليه دعوى الفقهاء التفرد.
وأما ما وقع في تخريج الرافعي لشيخنا حيث عزا هذا الحديث لمعجمي الطبراني فزاد فيه: "وهم أي المعجمون اثنا عشر رجلاً" فالظاهر أن شيخنا قلد فيه أصله والذي في المعجمين إنما هو الذي أثته.
وبالجملة فصالح بن أبي الأخضر ضعيف، وعلى تقدير ثوبت روايته فلا تنافى بينها وبين حديث ابن عباس بل يجمع بينهما بأن أسعد كان آمرًا وكان مصعب إمامًا، وقد سبق لهذا الجمع الماوري في الحاوي فقال ردًا على من زعم اضطراب الحديث: من نسبها إلى مصعب فلأجل أمره، ومن نسبها إلى أسعد فلأجل فعله.
وأما ما خدش به بعضهم من كونه لم ينقل إلينا قط أنها صليت بمكة إلا في حديث الصواب خلافه، فليس بجيد لأنه يقال: إنه كما أشار إليه حديث ابن عباس لم يكن يتمكن هو وأصحابه بمكة من الاجتماع حتى يقيموا بها جمعة ذات خطبة وإعلان بموعظة، وما ذاك إلا لشدة مخالفة المشركين لهم وأذيتهم إياهم.
ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأدركه وقت الزوال وهو في دار بني عمرو ابن عوف صلاها هنالك في واد يقال له: وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بل مطلقًا لما قدمناه.
وقد أشار إلى هذا الماوردي أيضًا لكن مع احتمال، بل احتمالين آخرين فإنه قال: يحتمل في كونه لم يصلها هو وأصحابه بمكة، أمرين: أحدهما: قلة أصحابه عن العدد الذي تنعقد به الجمعة لأنهم كانوا دون الأربعين حتى تموا بعمر، والثاني: وكأنه أشبه أن من شأن الجمعة إظهارها وانتشار أمرها، وقد كان صلى الله عليه وسلم خائفًا من قريش لا يقدر على مجاهرتهم بها فلذلك لم يصلها على أنه يجوز أن تكون الجمعة قبل الهجرة لم تفرض على الأعيان، ثم فرضت على الأعيان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لأن جابرًا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره بالمدينة:"إن الله فرض عليكم الجمعة في عامي هذا في شهري هذا، في ساعتي هذه" فدل هذا على أن الجمعة لم تكن فرضًا قبل ذلك اليوم. انتهى.
وحديث ابر المشار إليه قد .... .
على أن السهيلي قد جزم بخلاف هذا فإنه قال: وتجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة وتسميتهم إياها بهذا الاسم كان عن هداية من الله تعالى
لهم قبل أن يؤمروا بها ثم نزلت سورة الجمعة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فاستقر فرضها، واستدل لذلك بما رواه عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرازق كما هو في جامعه بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة فقالت الأنصار: إن لليهود يومًا يجتمعون فيه كل سبعة ايام، وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل يومًا نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي، ونشكره، فجعلوه يوم الجمعة واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغدوا، وتعشوا من شاته ليلتهم فأنزل الله عز وجل في ذلك:(يا أيها الذين آمنوا) الآية.
قال السهيلي: ومع توفيق الله تعالى لهم فيبعد أن يكون فعلهم ذلك عن غير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم لهم فيه، ثم ذكر حديث ابن عباس السابق. ونحوه قول شيخنا رحمه الله في الكلام على ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"إن أول جمعة جمعت بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثي مدينة البحرين".
انتهى ما نصه.
الظاهر أن عبدالقيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي.
قلت: لكن قد قال شيخنا رحمه الله في موضع آخر عقب مرسل ابن سيرين السابق أنه يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يومالجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة كما حكاه ابن إسحاق وغيره.
وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق.
إذا علم هذا ففي الجمعة أوليات ثلاثة، فيقال: أول ما صليت مطلقًا بنقيع الخضومات وبخصوصه صلى الله عليه وسلم بمسجد بني عمرو بن عوف، وبالنسبة لسائر المواضع سوى المدينة بمسجد عبد القيس.
هذا ما تيسر الآن من الكلام على هذه المسئلة والله الموفق.