الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
119 - [مسألة في التعمير] الحمد لله: وقع الكلام فيما يتداوله التجار ونحوهم من الإخبار بوجود معمر جاز سنة أربعمائة سنة أو نحوها
.
فأنكرت ذلك محتجًا بأن أئمة الحديث وحفاظه المرجوع إليهم أورددوا جمعًا من أهل هذا القبيل على سبيل الإنكار وصرح بعضهم بأنه لا يفرح بما يكون من ذلك من له عقل، ونحوه قول شيخنا رحمه الله: كل ذلك يعني المروي من طريقهم مما لا أعتقد عليه ولا أفرح بعلوه ولا أذكره إلا استطرادًا إذا احتجت إليه للتعريف بحال بعض الرواة، وذكر في اللسان منهم جماعة وكشف حالهم وكذا بين في القسم الرابع من الإصابة الموضوع لمن ذكر فيهم غلطًا أو على سبيل الوهم من ذكر فيهم منهم.
وقال في المشتبه ما نصه: واشتهر بين العوام وغيرهم ممن ليس الحديث صناعته أن في الصحابة رجلاً يقال له المعمر، عاش دهرًا طويلا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مفترى له وجود له في الخارج.
وذكر الذهبي في الميزان منهم عدة.
ويشهد لذلك قول أبي عبد لله الشقاق من الشافعية بعد حكاية التقدير في مدة المفقود بمائة وعشرين سنة، الذي حدد به بعض الحكماء العمر الطبيعي عن رواية اللؤلؤي والجوزجاني عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ما نصه: وهو فاسد.
قلت: وكثيرًا ما كنت أسمع شيخنا يطعن فيمن يدعى التعمير أو يدعى له ولا يلزم من كل ذلك استحالة وقوع هذه المدة أو دونها أو أكثر منها عقلاً فإن العقل لا يستحيله، ولكن إنما النزاع في ثبوته بالسند
الصحيح كما اقتضاه صنيع شيخي رحمه الله فإنه عقب حكاية أكثر الأقوال في تعمير سلمان الفارس رضي الله عنه أزيد من مائتين وخمسين سنة.
وقول الذهبي الحافظ: ظهر لي أنه مازاد على الثمانين قال ما نصه: لم يذكر الذهبي مستنده في ذلك. قال: وأظنه أخذه من شهود سلمان الفتوح بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجه امرأة من كندة وغير ذلك مما يدل على بقاء بعض النشاط قال: لكن إن ثبت ما ذكروه يكون ذلك من خوارق العادات في حقه وما المانع من ذلك! انتهى.
وقد سمع الحافظ الجمال المراكشي ورفيقه شيخنا النور الأبي اليماني رحمهما الله بالإجازة العامة من شخص اسكندري زاد سنه على مائة وعشرين سنة كانت مخايل الصدق عليه ظاهرة باعتبار اشتهار صدقه، ونقل أهل الإسكندرية عن من تقدمهم الاعتراف له بقدم السن وطلوع الشعر الاسود بلحيته ونبات أسنان جدد وغير ذلك.
وامتنع الحافظ التقى الفاسي من اعتماد قول شخص كان في بلد الخليل عليه السلام يقال له: إبراهيم بن حجي يزعم بعد العشرين وثمانمائة أن مولده سنة خمس وعشرين وسبعمائة وقال: إنه امتحنه في ذلك فعرف أنه تجاوز الحد في مولده وإنه يمكن أن يكون في حدود
الأربعين أو قبلها، انتهى.
وكانت وفاته في مستهل ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة.
وكذا أنكر أهل النقد على الشهاب بن الناصح المقدسي ما نسب إليه من الرواية عن شخص يقال له: الحمال عبد الله العجمي، قيل: إنه ولد في سنة ست وأربعين وخمسمائة، وأنه مات في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة عن الشيخ عبد القادر الكيلاني، واغتر بذلك جماعة من المتصوفة في أجائزهم، ولم يوافق عليه من يعتمد، وبلغني عن شيخ من أئمة الفرائض والقراءات كان يقال له الشهاب الشارمساحي ادعي التعمير، وأنه زاد سنه على مائة وسبعين وهرع إليه خلق حتى بعض من ينسب إلى الحديث فسمعوا منه وشاع أمره حتى سمعته بالبلاد الشامية في رحلتي إليها فتطلبت أوراق إجازاته فتحرر لي منها أنه نحو الثمانين فإنه عرض محافيظه على ابن المقلن ومن في طبقته كما بينته في غير هذا المحل.
ثم وجدت الصلاح الصفدي في تذكرته تكلم في تقوية وجود رتن الهندي وأنكر على من ينكر وجوده كشيخه الذهبي، وعول في ذلك على مجرد التجويز العقلي لكن قد تعقبه شيخي بنحو ما قدمته فقال: وليس النزاع فيا لمكان العقلي إنما النزاع في تجويز ذلك من قبل الشرع.
وسبق شيخنا إلى ذلك البرهان ابن جماعة فكتب بخطه في حاشية ما
نصه، تجويز الصفدي الوقوع لا يستلزم الوقوع إذ ليس كل جائز بواقع. انتهى.
ويساعد إنكار هذا من حيث النقل دعوى القاضي شمس الدين ابن خلكان في ترجمته الحافظ أبي طاهر السلفي من تاريخه أنه ما علم أن أحدًا منذ ثلاثمائة سنة إلى الآن بلغ المائة فضلاً عن أنه زاد عليها سوى القاضي أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري فإنه عاش مائة سنة وسنتين، لكن دعوى العمر متعقبة فالذين جازوا المائة جمع أفردهم الذهبي بتأليف رتبه على السنين وزاد عليه شيخنا لكن رتبه على الحروف، واشار الذهبي إلى أن بعض الناس أنكر أن يكون أحد من هذه الأمة يتعدى المائة محتجًا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه ليس من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة" وهو متفق عليه قال
الذهبي: وهو حق فما أتى على أحد ممن كان حيًا وقت مقالته بعد ذلك مائة سنة، وكان آخرهم موتًا أبو الطفيل عامر بن وائلة الليثي وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم موتًا فقال المخالف: فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن بعد المائة لا تبقى عين تطرف، فكذلك يكون القرى الذي يليه، قال الذهبي: وهذا لا ينهض فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقله ولا هو داخل في عموم نصه وقد جزمنا بوجود من جاوز المائة بعد ذلك من أمته. انتهى.
وممن أنكر أنه يعيش مائة سنة أبو أمامة ابن النقاش متمسكًا بما ورد في بعض طرق الحديث المشار إليه بلفظ: "لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف" وتعقبه الزين العراقي وقال: إنه استدلال عجيب لأنه تمسك بالإطلاق وأعرض عن المعنى الذي ورد فيه والمطلق محمول
على المقيد. انتهى.
وكل هذا لا ينافي الحديث الذي حسنه الترمذي وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك". إذ كل من ثبتت زيادته على ذلك يكون من القليل، بل روى أبو حفص بن شاهين من طريق حماد بن عمرو النصيبي ـ وهو متروك ـ عن السري بن خالد عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبد المؤمن إذا أتى عليه أربعون سنة أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون، والجذام، والبرص، فإذا أتت عليه خمسون سنة وهو الدهر خفف الله عليه الحساب، فإذا أتت عليه ستون سنة وهو في إقبال، وبعد الستين في إدبار رزقه الله عز وجل الإنابة إليه فيما يحب، وإذا أتت عليه سبعون سنة أحبه أهل السموات، وصالحوا أهل الأرض، وإذا أتت عليه ثمانون سنة كتبت له حسناته ومحيت عنه سيئاته، فإذا أتت عليه تسعون سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإذا أتت عليه مائة سنة كتب الله عز وجل اسمه أسير الله في أرضه وكان حبيس الله، وحق على الله أن لا يعذب حبيسه".
ولهذا الحديث طرق لكن ليس في شيء منها: "فإذا بلغ مائة" إلا في هذه الطريق، وكذا في طريق أخرى عند ابن شاهين أيضًا من حديث عبد الحميد بن عدي الجهني عن ثابت بن عدي الحمصي عن أبيه عن أنس
بن مالك رضي الله عنه فذكر نحوه، لكن قال في آخره:"فإذا بلغ مائة سنة استحيي الله منه أن يعذبه".
إذا عرف هذا فمن جاز المائة في الجاهلية كثير جدًا، ثم تقاصرت الأعمار فكان من جازها من الصحابة وغيرهم من المخضرمين قليلاً بالنسبة لمن جازها من قبلهم، واقتصر على الاعتناء بأخبار المعمرين من أهل الجاهلية، وصدر الإسلام غير واحد.
قال الذهبي: ومن بديع حكمته سبحانه وتعالى أنه طول في أعمار الأولين فطول آمالهم حتى عمروا المدائن وخددوا الأنهار، وقصر أعمار المتأخرين فقصر آمالهم لكنهم عوضهم عن ذلك بقلة بقائهم تحت التراب بالنسبة إلى الأوائل.
ومن لطائف صنعته أنه لما طول أعمار الصدر الأول قواهم وأحكم بنيتهم ومتعهم بحواسهم يعني بخلاف كثير من المتأخرين (إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب).
قائدة بل نادرة: كان العلامة المحب محمد بن العلامة الثقة الشهير صاحب التصانيف السائرة شهاب الدين أحمد بن محمد بن عماد المقدسي عرف بابن الهائم آية من آيات الله في سرعة الحفظ وجودة القريحة حتى تجرمه شيخنا رحمه الله في تاريخه بأنه أذكى من رآه من البشر قال: ومولده في سنة ثمانين أو إحدى وثمانين.
قلت: وجزم بالأول في القسم الأخير من معجمه وهو الصواب،
وقال في كل من تاريخه ومعجمه: أنه حفظ القرآن وهو صغير جدًا ثم نقل في معجمه عن خط البرهانالمحدث بحلب أنه رآه في سنة خمس وثمانين أو في التي بعدها مع أبيه بمدرسة البلقيني وهو يريد أن يعرض العمدة وقد حفظ القرآن قال ـ يعني البرهان ـ: وأخبرني بعض الفضلاء أنه عرض العمدة إذ ذاك على البلقيني وكان منذ عمره سبع سنين يسأل عن الآية، فيجيب بما قبلها وما قبل قبلها وهلم جرا لشدة حفظه. انتهى.
وما تردد فيه البرهان من وقت العرض قد جزم بالأول منهما شيخه حافظًا الوقت الزين العراقي بل حقق أنه كان ابن خمس سنين، وعبارته كما نقلته من خطه بعد أن ذكر خطبة لكتابه "العرض": وكان من مواهب الله الجسمية، وعجائب مخلوقاته العظيمة، الولد النجيب وسماه ثم قال: فرزقه الله ذكاءً ونباهة وحفظًا وفهمًا، وجعله مقدامًا على عساكر العلوم، وشهمًا فحفظ كتاب الله العزيز حاظًا متينًا وقد استكمل من العمر خمسًا سنينًا، وحفظ أيضًا في هذا السن كتاب العمدة في الأحكام، وجملة صالحة من الكافية الشافية لابن مالك وهو في هذا السن، تذكر له آية من الكتاب العزيز ويسال عما قبلها فيجيب بجواب صحيح وجيز، وقد جربته في ذلك أنا وغيري في مرات عديدة، والمرجو من الله أن يرزقه فوق ذلك ويزيده، وقد عرض علي مواضع متفرقة من العمدة للحفاظ عبد الغني المقدسي عرضًا حسنًا متقنًا أجاد حفظها، وسرد لفظها، اقرأ الله به عين أبيه، وبارك له وللمسلمين فيه. وكان عرضه لذلك في يوم الثلاثاء، الثالث والعشرين من شهر رجب الفرد سنة خمس وثمانين وسبعمائة بجامع القلعة، وأجزت له ثم ذكر سنده بالعمدة. وقنلت كل ذلك من خطه بلا
واسطة، ومما ترجم به شيخنا المحب المذكور سوى وصفه له بما تقدم قوله إنه حفظ الكثير من لامختصرات واشتغل بالفقه والعربية والقراءات والحيدث ومهر في الجميع في أسرع مدة. وحبب إليه طلب الحديث فسمع الكثير وتخرج في أسرع مدة ورحل إلى دمشق فسمع من ابن الذهبي وغيره ثم صنف وخرج لنفسه ولغيره، رافقني في سماع الحديث كثيرًا وسمعت بقراءته المنهاج على شيخنا برهان الدين وكتب لي تقريظًا على بعض تخاريجي مع الدين والتواضع والبشاشة ولطف الذات وحسن الخلق والصيانة وكانت وفاته في رمضان سنة ثمان وتسعين وأصيب به أبوه واسف عليه كثيرًا عوضه الله الجنة.
قلت: وذكر النووي رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات" ما نصه: روينا عن سعدان بن نصر قال: قال سفيان بن عيينة: قرأت القرآن وأنا ابن أربع سنين وكتبت الحديث وأنا ابن سبع سنين. انتهى.
وروى الخطيب أنه سمع القاضي أبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن اللبان الأصبهاني يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين، وذكر حكاية أوردها العراقي في سماع الصغير من شرح الألفية.
وحكى لي الشيخ عز الدين السنباطي أن الشيخ شمس الدين ابن المصري توفي له ولد في سنة سبع وعشرين كان حفظ القرآن وهو ابن ست، ورام الصلاة به على العادة في تلك السنة، فحصل له صرع في ليلة ومات ففجع به أبوه ولم ينفك عن ملازمة قبره حتى سافر لبيت المقدس على مشيخة الباسطية، وكان قد عمل له خطبة افتتحها بقوله: الحمد لله الذي أهلني لحفظ كتابه في السادسة من عمري، وأشار الصغير المشار إليه
على أبيه أن يجعل بدل السادسة السابعة خوفًا من العين، فكان ذلك أيضًا من ذكائه.
وقد روينا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله أستأذن على جعفر بن محمد فبينا هو جالس في دهليزه ينتظر الإذن إذ خرج عليه صبي خماسي من الدار، قال أبو حنيفة: فأردت أن أسبر عقله، فقلت: أين يضع الغريب الغائط من بلدكم يا غلام؟ قال: فالتفت إليَّ مسرعًا فقال: توق شطوط الأنهار ومساقط الثمار، وأفنية المساجد، وقوارع الطرق، وتوار خلف جدار وأشل ثيابك، وسم بسم الله وضعه أين شئت، قال أبو حنيفة رحمه الله فقلت: له: من أنت؟ فقال: أنا موسى بن جعفر. والله الموفق.