الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
149 - الحمد لله لا يثبت في دخوله رضي الله عنه الجنة زحفًا أو حبوًا حديث، كما جزم به الحافظ أبو الحسن الهيثمي، وأقره شيخه العراقي
، وانتقد قول الحاكم في بعضها: صحيح الإسناد. بل سبقهما لذكره من بعض طرقه في الموضوعات ابن الجوزي، ونقل عن إمامه المبجل أحمد بن حنبل: إنه حديث منكر مع تخريجه له في مسنده، وقال شيخنا في القول المسدد: الذي أراه عدم التوسع في الكلام عليه، فإنه يكفينا شهادة الإمام أحمد بأنه كذب، وأولى محامله أنه يقول: هو من الأحاديث التي أمر الإمام أن يضرب عليها فإما أن يكون الضرب ترك سهوًا وإما أن يكون بعض من كتبه عن عبد الله كتب الحديث وأخل بالضرب.
قال شيخنا: ثم رأيت بعد للحديث شاهدًا قوي الإسناد وساقه واقتصر على الحكم للإسناد، وأعرض عن المتن لنكارته، ولكن الإجمال في هذا المقام خير من تفصيل المقال وإن كان التفصيل يشهد بلا ارتياب للتزلزل والاضرطراب، لحصول الغرض بدونه. وكيف لا يكون غير صحيح، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ثبت أنه غشي عليه ثم أفاق فأخبر أنه جاءه ملكان فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين، فقال لهما ملك آخر: ارجعا فإنه ممن كتبت لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم. وقال
علي رضي الله عنه كما في صحيح الحاكم وغيره: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه أمين في أهل السماء أمين في أهل الأرض".
ويروى أن رجلاً لين الصوت قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم، فما بقي من الوقم إلا من فاضت عينه غير عبد الرحمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لم يكن عبد الرحمن فاضت عينه فقد فاض قلبه". إلى غير ذلك من مناقبه المستفيضة التي يقصر الوقت عن استيفائها، وقد شهد رضي الله عنه بدرًا والحديبية وشهد له صلى الله عليه وسلم بالجنة وصلى خلفه. وقال لخالد بن الوليد وقد بلغه عند في حقه شيء:"يا خلد! لِمَ تؤذي رجلاً من أهل بدر لو أنفقت مثل أحد أو مثل الجبال ذهبًا لم تدرك عمله"، ومعلوم أن الله عز وجل
قال في أهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فلو ارتكب امرؤ منهم شيئًا وحاشاهم من ذلك فهو مغفور".
هذا مع أن كثرة ماله رضي الله عنه إنما كانت ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم حيث قال له: "بارك الله لك" بحيث كان يقول: إنه لو رفع حجرًا لرجا أن يصيب تحته ذهبًا. ولكن عامة ماله من التجارة، بل ثبت عن عائضة رضي الله عنها وهي ممن أضيف إليها الحديث المسئول عنه أنها قالت ـ وقد بعث إليها عبد الرحمن بمال ـ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون سقى الله ابن عوف سلسبيل الجنة".
ونحوه عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه: "إن الذي يحنو عليكن بعدي هو الصادق البار، اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة". أخرجهما الحاكم في مستدركه، وعنده
أيضًا عن أبي هريرة رفعه: "خيركم خيركم لأهلي من بعدي".
وكذا مع ما كان يصل به أمهات المؤمنين "أوصى لهن بحيدقة يبعت بأربعمائة ألف" إلى غير ذلك من صدقاته الفاشية وعوارف العظيمة حتى إنه أعتق في يوم ثلاثين عبدًا وفي عمره ثلاثين ألف نسمة، وتصدق مرة بعير فيها سبعمائة بعير وردت عليه تحمل من كل شيء فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها، وأحلاسها.
وعن معمر عن الزهري قال: تصدق ابن عوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل
على خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسائة راحلة، وأوصى بعد موته بخمسين ألف دينار، وبألف فرس في سبيل الله، ولمن بقى من البدريين كل رجل بأربعمائة دينار، وكانوا مائة فأخذوها، وكان عثمان رضي الله عنه فيمن أخذ.
ومن تكون الدنيا في يديه ويؤدي الحقوق منها ويتطوع بالأمور المستحبة فيها ولم تكن عاتقة له عن الوصول إلى الله تعالى، ولا لها في قلبه مزية، ولا يفخر بها خصوصًا على من دونه ولا يكون بما في يديه منها أوثق منه بما عند الله بحيث يحسبها عما شرع له صرفها فيه، مع التقتير على نفسه وعياله، وعدم إظهار نعمة الله عز وجل، ولا ينفقها في وجوه الباطل التي لم تشرع، ولا يبذر يكون ذلك زيادة له في الخير، قال صلى الله عليه وسلم:"نعم المال الصالح للمرء الصالح".
وقيل فيما للطبراني في الأوسط عن ابن عباس: يا رسول الله! من السيد؟ قال: "يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام" قالوا: فما في أمتك من سيد؟ قال: "بلى: رجل أعطى مالاً حلالً ورزق سماحة وأدنى الفقير وقلت شكاته في الناس".
وفي حديث مرفوع لأحمد وغيره: "لا بأس بالغني لمن اتقى".
وفي آخر: "من رزق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض".
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "لو كان عندي أحد ذهبًا أعلم عدده وأخرج زكاته، ما كرهت ذلك وما خشيت أن يضرني".
وقال صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" وقال: "ذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء". إلى غيرها مما بينته في "السر المكتوم" وكم في الصحابة ممن اتصف بجميع صفات الخير التي ترغب في الإكثار لها كعثمان بن عفان، وطلحة الفياض، والزبير بن العوام، وثلاثتهم من العشرة المشهود لهم بالجنة أيضًا. وسعد بن الربيع وغيرهم من سادات المسلمين، وترك ابن مسعود سبعين ألف درهم، فيتعين استثناء هؤلاء من عموم "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام" أو
يخص بفقراء طبقتهم، وهو أظهر. والشاهد الذي طويته أولاً مما صرح شيخنا بقوة إسناده إليه، والله الموفق.