الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الاعتكاف
الحديث الأول
203 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتكِفُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ اعْتكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ (1).
وَفي لَفْظٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الغَدَاةَ، جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتكَفَ فِيهِ (2).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1922)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر، ومسلم (5/ 1172)، كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، وأبو داود (2462)، كتاب: الصوم، باب: الاعتكاف، والترمذي (790)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الاعتكاف.
(2)
رواه البخاري (1936)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في شوال.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (2/ 138)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 2)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 150)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 248)، و"شرح مسلم" للنووي =
* الكلام على الحديث من وجوه:
الأول: في حقيقة الاعتكاف لغةً: وهو الثبوتُ، واللزومُ، والاحتباسُ، والإقامةُ، قال اللَّه تعالى:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97]؛ أي: مقيمًا ملازمًا، وقال تعالى:{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]؛ أي: محبوسًا ملزومًا، وقال تعالى:{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]؛ أي: ثابتون ملازِمون.
وخصَّ الشرعُ هذه الأمةَ بصفاتٍ لا تصحُّ (1) أن تكون اعتكافًا شرعيًا وإقامةَ عبادة إلا بها، ويجمعها أن يقال: الاعتكافُ الشرعي: لزومُ المسلم (2) المميزِ المسجدَ للعبادةِ، صائمًا، كافًّا عن الجِماع ومقدِّماته، يومًا فما فوقه، فيصحُّ من الصبي، والمرأة، والرقيق (3).
= (8/ 67)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 254)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 922)، و"التوضيح" لابن الملقن (13/ 614)، و"طرح التثريب" للعراقي (4/ 165)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 272)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 143)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 446)، و"كشف اللثام" للسفاريني (4/ 52)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 174)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 354).
(1)
في "ت": "لا يصح".
(2)
في "خ" و"ت": "المسجد" بدل "المسلم"، وهو سبق قلم.
(3)
انظر: "جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص: 180).
وخالف الشافعيُّ و (1) أصحابه في اشتراط الصيام فيه، واحتج بوجهين: أحدهما: إيقاعه في رمضان؛ والثاني: بقول عمر: يا رسول اللَّه! إني نذرتُ اعتكافَ ليلةٍ في الجاهلية، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَوْفِ بِنَذْرِكَ"(2).
والجواب عن الأول: أنَّا لم نشترط أن يكون الصومُ للاعتكاف، ولكن (3) نقول: من شرطِ الاعتكاف ألا يصحَّ إلا مع وجود الصوم، كان رمضان، أو غيره من الصيام.
وعن الثاني: أنه قد جاء في الرواية الأخرى: "إني نذرتُ يومًا وليلةً".
وجوابٌ آخَرُ وهو أن العرب تُعبر بالليلة عن اليوم والليلة، ولذلك قالوا: صُمنا معَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تسعًا وعشرين أكثرَ مما صُمْنا معه ثلاثين، فعبروا بالليالي عن الأيام، وقال عليه الصلاة والسلام:"مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ"(4)، وهو كثير، بل باب التاريخ كله كذلك -أعني: الاستغناء بالليالي عن الأيام-، وقال تعالى:{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، قال مالك: فخاطب به الصائمين.
(1) في "خ": "في" بدل "و".
(2)
سيأتي ذكره وتخريجه في الحديث الثالث من هذا الباب.
(3)
في "ت": "ولكنَّا".
(4)
رواه مسلم (1164)، كتاب: الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
ع: ولم يأت أنه عليه الصلاة والسلام اعتكفَ إلا وهو صائمٌ، ولأنه عملُ أهلِ المدينة؛ كما ذَكَرَ مالكٌ في "موطئه"، وهو مذهب جمهور العلماء (1).
ومن جهة المعنى: أن الاعتكافَ هو ملازمةُ المسجد بالنية -على ما تقدم-، والنيةُ تقطعُ قلبَه عن الدنيا وعلائِقِها، والمسجدُ يمنع بدنَه عن الاشتغال بأشغالها؛ لأن المساجد بيوتٌ أذنَ اللَّه أن تُرفع وُيذكر فيها اسمه، ليس فيها عملٌ في غيره، فلا يجوز له أن يعمل من الدنيا إلا ضرورة (2) الآدمية، وهي الطعام والشراب، وما لهما، فيمنع من الأكل نهارًا؛ لأنه أحد الأسباب المنقطعة عن الدنيا، ألا ترى أنه مُنع من الخروج إلا لحاجة الإنسان، أو لتحصيل القوت؟
قال ابن العربي: ومنعَه مالكٌ رحمه الله تفطُّنًا لهذه الدقيقة من قراءة العلم؛ لأنه من أسباب الدنيا، وقَصَرَه على الذكر المجرَّد، وقال غيرهُ من العلماء: يقرأ (3) العلمَ إذا خلصتْ له النيةُ للَّه عز وجل. قال: وبه أقول (4).
وأما النية: فلا خلافَ فيها؛ لكونه عبادة، ومحلُّه المسجد مطلقًا.
(1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 150).
(2)
في "ت": "ضرورته".
(3)
في "ت": "هذا" بدل "يقرأ".
(4)
انظر: "القبس" لابن العربي (9/ 375)، وما بعدها.
وذهب حذيفةُ، وسعيد بن المسيب: إلى أنه لا يصحُّ إلا في أحد المساجد الثلاثة؛ المسجدِ الحرام، ومسجدِ المدينة، ومسجدِ بيت المقدس.
وقال الزهري: لا يكون إلا في الجامع.
قلت: إن كان ممن تلزمه الجمعةُ، ونذرَ اعتكافَ أيام تدخل فيها الجمعةُ، فمشهورُ مذهبِ مالكِ: ما قاله الزهريُّ، وهو قول الشافعي، والكوفيين، وغيرهم.
ع (1): و (2) ذهب جماعةٌ من السلف: إلى أنه لا يعتكف إلا في مسجد تُجمع فيه الجمعةُ، وروي عن (3) مالك، زاد في رواية ابن عبد الحكم: أو في رحابه التي تُجمع فيها الجمعة.
وقال الكوفيون: ولا يعتكف (4) النساء إلا في بيوتهنَّ.
وقال ابنُ لُبابةَ من المتأخرين من أصحابنا: يجوز للجميع في غير مسجد، ولا صومٍ (5).
قلت: وظاهرُ قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]
(1)"ع" ليس في "ت".
(2)
الواو ليست في "ت".
(3)
"عن" ليس في "ت".
(4)
في "ت": "ولا تعتكف".
(5)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 151).
حجةٌ للجمهور في تعميم المساجد، وحجةٌ على ابن لبابة في عدم اشتراط المسجدِ والصومِ، على ما تقدم.
والحديث -أيضًا- يردُّ عليه؛ من حيث إن المسجد قُصِدَ لذلك، مع ما فيه من مخالفة العادة في الاختلاط (1) بالناس في المسجد، وتحمل المشقة في الخروج لعوارض الخِلْقة.
ولا خلاف أنه لا حدَّ لأكثرِه لمن نذره، واستحب أن يكون أقلُّه عشرةُ أيام؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وعن مالك فيمن نذر اعتكافًا مبهمًا روايتان: يوم وليلة، وعشرةُ أيام (2)(3).
الثاني: فيه: استحباب الاعتكاف مطلقًا للرجال والنساء؛ لقولها: "ثم اعتكفَ أزواجُه من بعده"، واستحبابُه في رمضان بخصوصه، وفي العشر (4) الأواخر بخصوصها، ولفظُ الحديث يُشعر بالمداومة، وقد صرح بذلك في رواية:"في كُلِّ رمضانَ"، وعملُ أزواجه من بعده -أيضًا (5) - يؤكده.
(1) في "ت": "بالاختلاط".
(2)
"اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعن مالك فيمن نذر اعتكافًا مبهمًا روايتان: يوم وليلة، وعشرة أيام" ليس في "ت".
(3)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(4)
"العشر" ليس في "ت".
(5)
"أيضًا" ليس في "ت".
الثالث: قولها: "فإذا صلَّى الغداةَ، جاء مكانَه الذي اعتكفَ فيه" لا بد من تأويله، فإن الجمهور على استحباب دخولِ المعتكف قبلَ غروب الشمس لمن أراد اعتكاف العشر، فظاهر هذا يقتضي دخولَه قبل طلوعها، وقد أُوِّلَ على تقدم اعتكافه عليه الصلاة والسلام، وأن دخوله بعد صلاة الغداة للانفراد عن الناس بعدَ الاجتماع بهم (1) في الصلاة، لا أنه كان ابتداء دخول المعتكَف، ويكون المراد بالمعتَكَف هنا: الموضعَ الذي خَصَّه بالاعتكاف، وهيأه له؛ كما جاء: أنه عليه الصلاة والسلام اعتكفَ في وقته، وكما جاء: أن أزواجه رضي الله عنهن ضربن أخبيةً (2).
وأخذ بظاهره الأوزاعي، والثوري، والليثُ في أحد قوليه.
وقال أبو ثور: يفعل هذا مَنْ نذرَ عشرةَ أيام، فإن زاد عليها، فقبلَ غروب الشمس من الليلة.
وقال مالك: لا يدخل اعتكافَه إلا قبل غروب الشمس، وقاله أحمد، ووافقهما الشافعي، وأبو حنيفة، وأبو ثور في الشهر، واختلفوا في الأيام، فقال الشافعي: يدخل فيها قبل طلوع الفجر، وبه (3) قال القاضي أبو محمد عبدُ الوهاب في الأيام، وفي الشهر.
(1)"بهم" ليس في "ت".
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 255).
(3)
"به" ليست في "ت".
وقال عبد الملك: لا يُعتد بذلك اليوم (1).
وسبب هذا الاختلاف: هل أولُ ليلةِ أيامِ الاعتكاف داخلةٌ فيها، أم لا تدخل، وأن اليوم هو المقصودُ بالاعتكاف، والليل تابعٌ له؛ قولان، ومن قال بالأول، تأوله على ما تقدم آنفًا.
مسألة: الاعتكافُ على قسمين: نذر، وتطوُّع.
والنذر قسمان: معين، وغير معين.
فالمعين: يلزمه بتعيينه (2)، فإن كان في رمضان، لزم قضاؤه، وإن كان في غير رمضان، فهل يقضيه، أم لا؟ في المذهب قولان.
وغير المتعين (3): لا يتقيد بالزمان، ويتقيد بالصوم والمكان.
مسألة: اختلف العلماء في العمل الذي يخصُّ الاعتكافَ، فقيل: كلُّ عملٍ من أعمالِ البِرِّ مما يتعلَّق بالآخرة، القاصرةُ والمتعديةُ في ذلك سواء، مع الكَفِّ عن الجِماع ومقدِّماته.
وقال ابن القاسم: قراءة القرآن، وذكر اللَّه تعالى، والصلاة، ونحو ذلك.
وقال غيره: وقراءة العلم، ويجوز له أن يأمر ببعض شؤونه، وما فيه مصلحةُ معاشه، ولا بأس أن يعقد النكاح، وأن يتطيب؛ بخلافِ
(1) المرجع السابق، (4/ 154).
(2)
في "ت": "بعينه".
(3)
في "ت": "المعين".
المحرمِ فيهما، ويخرج لحاجة الإنسان، ولشراء طعامه وشرابه إن احتاج إلى ذلك، ولم يجد مَنْ يكفيه، ولغُسْلِ جُمعته؛ بخلاف عيادة المرضى، وصلاة الجنائز، والحكومة، وأداء الشهادة، فإن كان ذلك في المسجد، وقلَّ الاشتغال به، ففي المذهب قولان:
قال ابن بزيزة: وصح عن سعيد بن جبير، وقتادة والحسن بن حُيَيٍّ، والثوريِّ، وعطاءٍ، والنخعيِّ: أن المعتكف يشهد الجنائز، ويعودُ المرضى إذا اشترط ذلك حين عقد الاعتكاف.
وقال مجاهد، وعطاء -أيضًا-، والزهريُّ، والليثُ، وغيرُهم: لا يعود المرضى، ولا يشهد الجنائز (1).
وقال أبو حنيفة: إن خرج لعيادة المريض، أو للجنازة، بَطَلَ اعتكافُه.
وقال صاحباه محمدٌ وأبو يوسفَ: له أن يخرج لشهود الجنازة، وعيادة المرضى، وغير ذلك، فإن كان مقدارُ لبثِه لذلك نصفَ يوم فأقلَّ، فاعتكافُه صحيح، وإن كان أكثرَ من ذلك، بَطَلَ اعتكافه.
قلت: ليت شعري! من أين أخذ هذا التحديد الذي لا دليلَ عليه، ولا معنًى يرشد إليه؟! (2)
(1) في "ت": "الجنازة".
(2)
جاء على هامش النسخة "ت": "قلت: فالدليل أن اكثر في الأحكام يقوم مقام الكل غالبًا، فمن وجد معتكفًا أكثر اليوم فلا منع لصحة اعتكافه ببعض اليوم. =
قال ابن بزيزة: اختلفوا: هل يخرجُ لرفع شهادةٍ حملها، أم لا؟ والصحيح: أنه إن تَعَيَّنَ وقتُها، واضطرَّ الأمر فيها، وجبَ رفعُها، ورجع إلى اعتكافه.
ومن أهل العلم مَنْ أجاز له الخياطةَ، والعملَ القليل؟ كالنسخِ، والبيع والشراء، والخصام من الحق القريب، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، وداود.
مسألة: هل يبطل الاعتكاف بالقُبلة والمباشَرة؟ اختلف العلماء.
فقال أبو حنيفة: لا يُبطل الاعتكافَ مباشرةٌ ولا قبلةٌ، إلا أن يُنْزِلَ.
وقال مالك: يبطل الاعتكافُ بذلك.
وللشافعيِّ في ذلك قولان.
وقال بعضُ الظاهرية: يبطل الاعتكافُ بمباشرة أحدِ الزوجين صاحبَه، إلا في ترجيل الشعر؛ لقوله -تعالى-:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، واختص ترجيل الشعر بحديث عائشة.
وقال ابن لبابةَ من المالكية، وغيرُه: تحرم المباشرةُ في المسجد،
= ثم قلت: رحم اللَّه الشيخ المؤلف لو ترك الاعتراض على الإمامين الجليلين لكان خيرًا له. المحرر الفقير عفي عنه".
قلت: ولتعلم أن ناسخه الشيخ علي بن سودون الإبراهيمي المصري الحنفي، فاعرفه.
وأما في غير المسجد، فلا.
وهذا دليلٌ على أن المسجدَ ليس بشرطٍ عنده في الاعتكاف شرعًا.
واستيعابُ أحكامِ الاعتكاف في كتب الفقه (1).
* * *
(1) وانظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 156)، و"المجموع في شرح المهذب" للنووي (6/ 500).