المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب حرمة مكة ‌ ‌الحديث الأول (1) 214 - عَنْ أَبِي شُرَيْحِ خُويلِدِ - رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام - جـ ٣

[تاج الدين الفاكهاني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب العيدين

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كِتْابُ الْجَنَائِز

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌كِتْابُ الزَّكَاة

- ‌ باب:

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كِتْابُ الصِّيِامِ

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب الصوم في السفر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌باب أفضل الصيام وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب ليلة القدر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الاعتكاف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌كِتْابُ الْحَجِّ

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب ما يلبس المحرم من الثياب

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الفدية

- ‌باب حرمة مكة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب ما يجوز قتله

الفصل: ‌ ‌باب حرمة مكة ‌ ‌الحديث الأول (1) 214 - عَنْ أَبِي شُرَيْحِ خُويلِدِ

‌باب حرمة مكة

‌الحديث الأول

(1)

214 -

عَنْ أَبِي شُرَيْحِ خُويلِدِ بْنِ عَمرٍو الخُزَاعِيِّ العَدَوِيِّ رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ لِعُمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ العَاص، وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: اِيْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُناَيَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِه: إِنَّهُ حَمِدَ اللَّه، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ (2) رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ؛ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ"، فَقِيلَ لأَبي شُرَيْحِ: مَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ

(1) قوله: "الحديث الأول" ليس في "ت".

(2)

في "ت": "بقتال".

ص: 595

يَا أَبَا شُريَحْ! إِنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ" (1)

الخَرْبَةُ -بِالخَاءَ المُعْجَمَةِ، وَالرَّاءَ المُهْمَلَةِ- قِيلَ: الخِيانَةُ، وَقِيلَ: البَلِيَّةُ، وَقِيلَ: التَّهَمَةُ، وَأَصْلُها في سَرِقَةِ الإبِلِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَالخَارِبُ اللِّصُّ يُحِبُّ الخَارِبَا

* * *

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (104)، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، و (1735)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا يعضد شجر الحرم، و (4044)، كتاب: المغازي، باب: منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ومسلم (1354)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، والنسائي (2876)، كتاب: الحج، باب: تحريم القتال فيه، والترمذي (809)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في حرمة مكة.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 470)، و"المفهم" للقرطصي (3/ 473)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 127)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 23)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 967)، و"التوضيح" لابن الملقن (12/ 389)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 198، 4/ 42)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 139)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (1/ 198، 3/ 304)، و"كشف اللثام" للسفاريني (4/ 165)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 191).

ص: 596

* التعريف:

أبو شُرَيْح الخزاعيُّ: ويقال فيه: العَدَوِيُّ، ويقال: الكَعْبِيُّ، اسمه خُويلد، والأكثر يقولون: خويلدُ بنُ عمرِو بنِ صخرِ بنِ عبدِ العزَّى.

أسلم يوم فتح مكة، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وستين رضي الله عنه (1).

* ثم الكلام على الحديث من وجوه:

الأول: قولُه: "ائْذَنْ لي أَيُّها الأمير"، الأصل: يا أيُّها، فحُذف حرفُ النداء، قال أهل العربية: ولا يُحذف حرفُ النداء إلا في أربعة مواضع:

العَلَم؛ نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29].

والمضاف؛ نحو: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286].

وأي.

ومَنْ؛ نحو: من لا يزالُ محسنًا أحسنْ (2).

(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 295)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 224)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 398)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 110)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1688)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 160)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 524)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 400)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 204).

(2)

انظر: "المفصل" للزمخشري (ص: 68).

ص: 597

فيه: حسنُ الأدبِ في مخاطبةِ الأكابر، لاسيما الملوك، لاسيما فيما يخالف مقصودَهم؛ لأن ذلك يكون أدعى لقبول الحقِ، لاسيما في حقِّ مَنْ يُعرف منه ارتكابُ غرضه، فإن الغِلْظَةَ عليه تكون سببًا لإثارَةِ نفسِه، ومعاندةِ مَنْ يُخاطبه.

وفائدة قوله: "أُحدثكَ قولًا قامَ به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، سمعتْه أُذناي، ووعاه قلبي": التحققُ (1) لما سيخبر (2) به، والنفيُ لوهم أن يكون بواسطة غيره دونَ مشافهة منه، وأن قلبه قد فهم ذلك، وتحققه، وثبت في تعقل معناه.

وقد يؤخذ من قوله: "ووعاه قلبي" دليلٌ لقول الجمهور: إن العقل محلُّه القلبُ، لا الدماغُ؛ إذ لم يقل: وعاه رأسي، ثم أكد ذلك بقوله:"وأبصرتْه عيناي حين تكلم به".

الثاني: قوله: "حَمِدَ اللَّه، وأثنى عليه" إلى قوله: "الناس": فيه: استحبابُ الحمدِ والثناء بين يَدَي تعليم العلم وتبيينِ الأحكام.

وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها اللَّهُ، ولم يُحَرِّمها الناسُ": قيل: سُمِّيَتْ مكة، لأنها كانت تَمُكُّ مَنْ ظلم؛ أي: تستأصِلُه وتُهلكه.

وقال آخرون: إنما سميت مكة؛ لقلة مائها؛ لقولهم: امْتَكَّ

(1) في "ت": "التحقيق".

(2)

في "ت": "يستجيز".

ص: 598

الفَصيلُ ما في ضَرْعِ أُمِّه: إذا شربَه.

وقيل: سُميت مكة؛ لاجتذابها للناس من كلِ أُفُقٍ، لقولهم: امْتَكَّ الفَصِيلُ ما في ضَرْعِ الناقةِ: إذا اسْتَقْصى، فلم يدع فيه شيئًا.

وأما بَكَّة: فقيل: هي اسم لبطنِ مكةَ خاصةً؛ لأنهم كانوا يتباكُّون فيها؛ أي: يَزْدَحمون.

وقيل: بَكَّةُ: اسمٌ لمكان البيت، ومَكَّةُ -بالميم-: سائر البلد، قاله الشيخ أبو بكر العُزَيرِي (1).

ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "ولم يحرِّمْها الناسُ"؛ أي: لم يحرمها الناسُ من قِبَلِ أنفسِهم؛ كما حَرَّمَتِ الجاهليةُ أشياءَ من قِبَلِ أنفسِهم.

الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: "فلا يحلّ لامرىءٍ يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يَسفِكَ بها دمًا": قد تقدم الكلامُ على قوله: "اليوم الآخر" قريبًا، وتقدم أيضًا أنه يقال: امرؤ، ومَرْءٌ في (2) حديث:"الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"(3).

يقال: سَفَكَ يَسْفِكُ وَيَسْفُكُ -بكسر الفاء وضمها- والكسرُ قراءَةُ

(1) انظر: "غريب القرآن" له (ص: 118) وما بعدها.

(2)

في "ت": "وفي".

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 599

السبعة، وفي الشاذ بالضم في قوله تعالى:{وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، والسفك في اللغة: صبُّ الدَّم.

قال ابنُ عطية: هذا عُرْفُه، وقد يقال: سفكَ كلامَه في كذا، وسَرَدَه (1).

وسياق الحديث ولفظه على تحريم القتالِ لأهلِ مكة، وبه قال القَفَّالُ من الشَّافعيَّةِ، قال: حتى لو تحصَّنَ جماعةٌ من الكفارِ فيها، لم يَجز قتالُهم فيها.

وقال الماوردي: من خصائص الحرم: أن لا يُحارَبَ أهلُه إن بَغَوا على أهل العدل.

وقد قال بعض الفقهاء: يحرمُ قتالُهم، بل يُضَيَّقُ عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام أهل العدل.

قال: وقال جمهورُ الفقهاءِ: يقاتَلُون على بَغْيهم إذا (2) لم يكن رَدُّهم عن البغي إلَّا بالقتالِ؛ لأن قتالَ البُغاةِ من حقوقِ اللَّهِ تعالى التي لا يجوزُ إضاعَتُها، فحفظُها في الحَرَم أَوْلى من إضاعَتِها. وربما استدلَّ به أبو حنيفة رحمه الله على أن الملتجىء إلى الحرم لا يُقتل به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"لا يحلُّ لامرىءٍ أن يسفكَ بها دمًا"، وهذا عامٌّ يدخل فيه صورةُ النزاع.

(1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (1/ 117)، ووقع عنده:"إذا سرده" بدل "وسرده".

(2)

في "ت": "إذْ".

ص: 600

قال: بل يُلْجَأُ إلى أن يخرج من الحرم، فيُقتل خارجَه، وذلك بالتضييق عليهم (1).

قلت: وقولُ أبي حنيفة هذا منقولٌ عن ابن عباس، ولفظه: مَنْ أَصَابَ حَدًّا، ثم دخلَ الحرمَ، لم يُجَالَسْ، ولم يُبايَعْ حتى يُضْطَرَّ إلى الخروج، فإذا خرجَ، أُقيم عليه الحَدَّ (2).

قال ابنُ بزيزة: وهو قولُ عمرَ بنِ الخطابِ، وسعيدِ بن المسيب، والحكمِ بنِ عتبة، وابنِ جُريجٍ، وابنِ الزبير.

قال: وقال ابنُ عمر: لو وجدتُ فيه قاتلَ أبي، ما تعرضتُ إليه، وفي لفظ آخر: ما ندهته، قال ابنُ عباس أيضًا: لو وجدتُ فيه قاتلَ أبي، ما عَرَضْتُ له (3).

وقال أبو يوسف، ومالك، وجماعة من العلماء: يُخرج، فيُقامُ عليه الحدُّ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"اقْتُلُوهُمْ وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ".

قلت: وقد أمر عليه الصلاة والسلام بقتل ابن خَطَلٍ بعد أن قِيْلَ لَهُ: هو متعلقٌ بأستار الكعبة؛ كما سيأتي (4).

(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 25)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله.

(2)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(4/ 13).

(3)

انظر: "أخبار مكة" للفاكهي (3/ 364).

(4)

في الحديث الأول من باب: دخول مكة وغيرها.

ص: 601

وإن كان لقائل أن يقول: إن ذلك كان خاصًا به عليه الصلاة والسلام؛ لقوله: "ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي، ولا لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهارٍ"، فيضعف الدليل، أو يبطل.

ولم يخالف أبو حنيفة في إقامة الحدود في الحرم غيرَ حدِّ القتلِ خاصةً.

وقد أخرج ابنُ الزبير قومًا من الحرم إلى الحِلِّ فصلبهم.

وقال حماد بنُ أبي سليمان: مَنْ قَتَلَ، ثم لجأَ إلى الحرمِ، قال: يُخرج منه فيُقتل، وأما مَنْ تُعُدِّيَ عليه في الحرم، فليدفعْ عن نفسه، قال اللَّه تعالى:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] الآية.

الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يُعْضَدُ شجرُه"؛ أي: يُقطع بالمِعْضَد؛ وهو سيفٌ يُمتهن في قطع الشجر، ويقال: المِعْضاد أيضًا، يقال منه: عَضَدَ يَعْضِد، كضَرب يضرِب، ويعضُد -بالضم-: إذا أعان، والمعاضَدَة: المعاونَةَ (1).

فيه: دليل على تحريم قطع شجر الحرم، ولا خلاف فيه أعلمُه.

تكميل: قال ابنُ بزيزةَ: ولا يُخرج شيئًا من تراب الحرم، ولا من حجارته إلى الحِلِّ.

واختلفَ العلماءُ هل يُكره أن يُدخل ترابَ الحل إلى الحرام، أم لا؟

(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 509)، (مادة: عضد).

ص: 602

وأما ماءُ زمزم فإخراجُه جائزٌ، إذ لم يأتِ فيه أثر.

مسألة: اختلف العلماء فيمن احتطبَ في الحرم، هل يحل أخذ سَلَبِه، أم لا؟

فالجمهورُ على أنه لا يحل؛ خلافًا لطائفة من أهل الحديث؛ فإنهم أجازوا تجريده، وأَخْذَ كلِّ ما معه، إلا ما يستر به عورته، محتجين بحديث إسماعيل بن محمد، وسعد بن أبي وقاص، عن عمه عامر بن سعد، قال: إن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا ويَخْبِطُه (1)، فسلَبَه، فجاء أهلُ العبدِ فسألوه أن يردَّ على غلامِهم سَلَبَهُ، فقال: مَعاذ اللَّه! أن أردَّ شيئًا نَفَّلَنِيهِ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يردَّه عليهم، رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه (2).

وعن عمر بن الخطاب: أنه قال لمولى عثمانَ بنِ مظعون: إني استعملتُك على ما هاهنا، فمن رأيته يحطب شجرًا، أو يعضِدُه، فخذ حبلَه وفأسه، قلت: آخذ رداءه؟ قال: لا (3).

قال ابن بزيزة: ولا مخالف له من الصحابة.

وهل هذا الحكم عام في الحشيشِ والاحتطابِ، أم مخصوص بالاحتطابِ؛ لوروده؟ فيه نظر.

(1) في "ت": "ويحتطبه".

(2)

رواه مسلم (1364)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة.

(3)

انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 263).

ص: 603

ولتعلمْ: أنه قد اتُّفِق على ما لا يَسْتَنْبِتُه بنو آدم، دونَ ما يستنبتونه.

قال الخطابي: وسمعتُ أصحابَ أبي حنيفةَ يفرِّقون بين ما ينبتُ من الشجِرِ في الحرمِ، وبين ما يُنبتُهُ الآدميون، ويجعلون النهيَ مصروفًا إلى ما يُنبِتُهُ اللَّهُ عز وجل دونَ غيره.

قلت: وكذلك مذهبُ مالك رحمه الله في التفرقة المذكورة.

قال: والشافعيُّ يرى فيه الفديةَ (1).

قلت: وأما مذهبُنا في ذلك: فإنه لا فديةَ على مَنْ قطعَ شيئًا مما لم يستنبتْه الآدميون في الحرم؛ لكنه مأمورٌ بأن لا يفعلَ، رطبًا كان أو جافًا، فإن فعل، فليستغفر (2) اللَّه، ولا شيء عليه.

قال في "الكتاب": ولا بأس أن يقطع ما أنبته الناسُ في الحرم من الشجرِ؛ مثل: النخل، والرُّمانِ، والفاكهةِ كلِّها، والبقلِ كلِّهِ، والكُرَّاثِ، والحشيشِ، والشجرِ.

قال: وأكَره أن يحتشَّ في الحرم حلالٌ أو حرامٌ؛ خيفةَ قتلِ الدوابِّ، وكذلكَ الحرام في الحِلِّ، فإن سلموا من قتل الدواب، فلا شيء عليهم، وأكره لهم ذلك.

قال: ونهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الخبط، يريد: -بإسكان الباء-، وقال:

(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 220).

(2)

في "ت": "فاستغفر".

ص: 604

"هُشُّوا، وَارْعَوْا"(1)، قال مالك رحمه الله: الهَشُّ: تحريكُ الشجرِ بالمحجَن (2) ليقع الورق، ولا يَخْبِط، ولا يَعْضِد (3).

ودليلُنا على عدم الفدية فيما قُطع من شجر الحرم: أن إتلاف الشجر الذي لا ملكَ عليه لآدميٍّ، لا غرمَ على متلِفه في الأصول، ولأن كونَه من شجر الحرم لا يقتضي ضمانَ الجزاء اعتبارًا بما فيه مَنْفَعة الناسِ، ولأنه نوعٌ من النبت؛ كالخشب، والثمار (4)، ولأنه لم يتلف حيوانًا، ولا شيئًا من الحيوان، فلم يلزمه جزاءٌ كسائر الجامدات (5)، وقياسًا على المحرِم بقطعِ الشجر في الحِلِّ، لأن ما لزم الحلالَ جزاؤه في الحرم لزمَ المحرِمَ مثلُه في الحِلِّ، فلو كان في قطع الشجر جزاءٌ، للزم (6) المحرمَ ذلك في الحل، واللَّه أعلم، ولأن الجزاء لا يجب إلا بالشرع، والأصلُ براءةُ الذمة، ولم يرد شرعٌ بذلك.

الخامس: قوله عليه الصلاة والسلام: "فإنْ أحدٌ ترخَّصَ

(1) ورواه ابن حبان في "صحيحه"(3752)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(3775)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 200)، من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، وفيه:"ولكن هشوا هشًا".

(2)

في "ت": "بالمحجم".

(3)

انظر: "المدونة"(2/ 451 - 452).

(4)

في "ت": "والنبات".

(5)

في "ت": "الجامد".

(6)

في "ت": "لزم".

ص: 605

بقتال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" (أحدٌ): فاعلٌ بفعل مضمَرٍ يفسره ما بعده؛ أي: فإن تَرَخَّصَ أحدٌ تَرَخَّصَ (1).

فيه: دليل على أن مكة -شرفها اللَّه تعالى- فُتحت عَنْوَةً، وهو مذهبُ الأكثرين، وقال الشافعيُّ: فُتحت صلحًا، وقيل في تأويل الحديث: إن القتالَ كان جائزًا له صلى الله عليه وسلم في مكةَ، ولو احتاج إليه: لفعله، ولكن ما احتاج إليه.

ق: وهذا التأويل يضعفه قولهُ صلى الله عليه وسلم: "فإنْ أحدٌ ترخَّص بقتالِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم"، فإنه يقتضي وجودَ قتالٍ منه صلى الله عليه وسلم ظاهرًا، وأيضًا السِّير (2) التي دلَّت على وقوع القتال، وقوله عليه الصلاة والسلام:"مَنْ (3) دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"(4) إلى غيره من الأمان المعلَّقِ على أشياء بخصوصها يُبعد هذا التأويل (5).

قلت: وهذا ظاهرٌ مكشوف.

قال الخطابي: وتأول غيرُهم قولَه عليه الصلاة والسلام: "إِنَّما أُحِلَّتْ لي ساعةً مِنْ نَهارٍ" على معنى دخوله إياها من غير إحرام؛

(1) في "ت": "الترخص".

(2)

"السير" زيادة من "ت".

(3)

في "خ": "فمَنْ".

(4)

رواه مسلم (1780)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 28).

ص: 606

لأنه صلى الله عليه وسلم دخلها وعليه عِمامةٌ سوداءُ.

وقيل: إنما أُحِلَّ له في تلك الساعة إراقةُ الدم، دونَ الصيدِ وقطعِ الشجرِ وسائر ما حرم على الناس منه (1).

فائدة نحوية: قوله عليه الصلاة والسلام: "بالأمس" اعلم أن أَمْسِ إذا أَدخلتَ (2) عليه الألفَ، واللامَ، أو أضفته، أو نَكَّرته، كان معربًا، وسببُ ذلك أن بناء (أَمْسِ) إنما كان لتضمنه معنى الألف واللام، فإذا دخلتْ عليه الألفُ واللام، أو نكَّرته فقد زال التضمُّنُ، وكذلك -أيضًا- إذا أضفتَه، لم يكن متضمِّنًا الألف واللام؛ لامتناع نية الإضافة مع الألف واللام، كما امتنعت الإضافة معهما، فإن عَرِيَ من الألف واللام والإضافة، ولم ينكر، فإما أن تستعمله ظرفًا، أو غير ظرف.

ففي الأول: لا يجوز فيه غيرُ البناء على الكسر، نحو قولك: ذَهَبَ أَمْسِ بما فيه.

وفي الثاني: يجوز فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون مبنيًا على الكسر، نحو قولك -أيضًا-: ذهب أَمْسِ بما فيه (3).

(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 219).

(2)

في "ت": "دخل".

(3)

قوله: "وفي الثاني: يجوز فيه وجهان. . . " إلى هنا ليس في "ت".

ص: 607

والأخرى: أن يُعرب إعرابَ ما لا ينصرف؛ فيقال: ذهبَ أمسُ بما فيه، أنشد سيبويه:

لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا مُذْ أَمْسَا

عَجَائزًا مِثْلَ السَّعَالِي خَمْسَا

يَأْكُلْنَ مَا في رَحْلِهِنَّ هَمْسَا

لَا تَرَكَ اللَّهُ لَهُنَّ ضِرْسَا

لأن (مذ) حرفُ جر، وحروف الجر إذا دخلت على الظروف، تقلبُها عن حكم الظروف (1) إلى حكم الأسماء.

قال سيبويه: ولا يصغَّرُ أَمْس، كما لا يصغر غدًا، والبارحة، وكيف، وأين، ومتى، وأنى (2)، وما، وعندَ، وأسماءُ الشهور كلُّها، والأسبوع غيرَ الجمعة (3).

السادس: قوله عليه الصلاة والسلام: "فليبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ": حَثٌّ وتحريضٌ على نقلِ العلم ونشرِه، وإشاعةِ الأحكامِ والسُّننِ، وفي الحديث الآخر: "رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمعَ مَقَالَتِي، فَبَلَّغَهَا

(1) في "ت": "على حكم" بدل "عن حكم الظروف".

(2)

في "ت": " وأي" بدل "وأنى".

(3)

انظر: "الكتاب" لسيبويه (3/ 285)، و"درة الغواص" للحريري (ص: 257).

ص: 608

كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" (1)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وقد أشبعنا القولَ في فضل العلمِ في أولِ شرح رسالة ابن أبي زيد (2)، أعان اللَّه على إكماله.

ق: وقولُ عمرٍو: أنا أعلمُ بذلك إلى آخره، هو كلامُه، لم يسنده إلى رواية (3).

قلت (4): وذكر ابنُ بزيزة رحمه اللَّه تعالى في تفسيره: أنه حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، عند قوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، واللَّه أعلم (5).

(1) رواه أبو داود (3660)، كتاب: العلم، باب: فضل نشر العلم، والترمذي (2656)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وابن ماجه (230) في المقدمة، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(2)

في "ت": "الرسالة" بدل "رسالة ابن أبي زيد".

(3)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 28).

(4)

"قلت" ساقط من "ت".

(5)

قال الحافظ في "الفتح"(4/ 45): وقد وهم من عَدَّ كلام عمرو بن سعيد هذا حديثًا، واحتج بما تضمنه كلامه، انتهى.

وقد شَنَّعَ ابن حزم في "المحلى"(10/ 498) على عمرو بن سعيد مقالته هذه؛ فقال: ولا كرامة للطيم الشيطان، الشرطي الفاسق، يريد أن يكون أعلم من صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما سمعه ذلك الصاحب رضي الله عنه من رسول صلى الله عليه وسلم، وإنا للَّه وإنا إليه راجعون على عظيم المصاب في الإسلام.

ثم قال: وما العاصي للَّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم إلا الفاسق عمرو بن سعيد ومن ولّاه =

ص: 609

وقوله: "لا يعيذ عاصمًا": الاستعاذةُ: الاستجارةُ بالشيء، والتحصُّنُ، والاعتصامُ به، يقال منه: عاذَ يعوذُ عَوْذًا ومَعاذًا وعِياذًا، وأعاذَه غيرُه يُعيذه (1).

وقوله: "ولا فارًّا بخربة": الفارُّ: الهاربُ، والخربةُ قد فسرها المصنف رحمه الله.

وفيها أيضًا: خُرْبَة، بضم الخاء.

قال (2) ابن بزيزة: ورواه بعضهم: بخزية -بالياء المعجمة باثنتين تحتها-، والأول أصح، وأصلُها سرقةُ الإبل؛ كما قال، وتطلق (3) على كل خيانة.

وقال الخليل: هي الفسادُ في الدين، من الخارِبِ، وهو اللصُّ المفسِدُ في الأرض.

وقيل: هي العيب.

ق: وفي "البخاري": أنها البَلِيَّةُ (4).

= وقلّده، وما حامل الخربة في الدنيا والآخرة إلا هو ومن أمَّره وأيَّده وصوَّب قولَه.

(1)

انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 566)، (مادة: عوذ).

(2)

في "ت": "وقال".

(3)

في "ت": "ويطلق".

(4)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 28). وانظر: "العين"(4/ 256)، و"غريب الحديث" للخطابي (2/ 266)، و"الكامل" للمبرد (2/ 937).

ص: 610