الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
215 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ، فَانْفِرُوا".
وَقَالَ يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لأِحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ (1) لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولا تُلْتَقَطُ لُقْطَتُهُ، إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ"، فَقَالَ العبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا الإذْخِرَ؛ فَإِنَّهُ لِقَيْيهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فقال:"إِلَّا الإذْخِرَ"(2).
(1) في "ت": "تحل".
(2)
* تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1284)، كتاب: الجنائز، باب: الإذخر والحشيش في القبر، و (1736)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا ينفر صيد الحرم، و (1984)، كتاب: البيوع، باب: ما قيل في الصواغ، و (2301)، كتاب: اللقطة، باب: من شهد الفتح، ومسلم (1353)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام، وأبو داود (2017)، كتاب: المناسك، =
القَيْنُ: الحَدَّادُ.
* * *
* الكلام على الحديث من وجوه:
الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"، قد تقدم ذكرُ الهجرات السِّتّ واشتقاقُها في حديث:"الأعمالُ بِالنياتِ"، ومعنى:"لَا هِجْرَةَ"؛ أي: لا تجب من مكة إلى المدينة؛ لصيرورة مكةَ دارَ إسلام، وأما الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإسلام، فواجبة في كلِّ زمانٍ مع الإمكان؛ إجماعًا.
وفي الحديث: إشارةٌ قوية تكادُ تكونُ نَصًّا إلى أنَّ مكةَ -شَرَّفَهَا اللَّهُ- تكونُ دارَ إسلامٍ إلى يومِ القيامةِ.
= باب: تحريم حرم مكة، والنسائي (2874)، كتاب: الحج، باب: حرمة مكة، و (2875)، باب: تحريم القتال فيه، و (2892)، باب: النهي أن ينفر صيد الحرم، وابن ماجه (3120)، كتاب: المناسك، باب: فضل مكة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (2/ 221)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 468)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 468)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 123)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 29)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 977)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 205)، و"التوضيح" لابن الملقن (12/ 399)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 214)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 161)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306)، و"كشف اللثام" للسفاريني (4/ 181)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 93).
وقوله عليه الصلاة والسلام: "وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ" يحتمل وجهين:
أحدهما: ولكنْ جهادٌ لمن أمكَنَه الجهادُ، ونيةٌ لمن لم يمكنه، ويقويه الحديث:"مَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ" الحديث (1)، وقوله عليه الصلاة والسلام:"مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ"(2).
والثاني: أن يُراد: جهادٌ بنيةٍ خالصةٍ، وهي أن يكون جهادُه لتكون كلمةُ اللَّه هي العليا، لا (3) لصيتٍ وسمعةٍ، ولا اكتسابِ الحطام، "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ" الحديث (4).
الثاني: قوله: عليه الصلاة والسلام: "وإذا استُنْفرتم، فانْفِروا".
فيه: حجةٌ لبقاءِ الجهاد، وكونِه فرضًا، وقد اختلف العلماءُ في هذا، هل سقط فرضُه على الجملة، إلا أن تقدح قادحة، أو يطرق عدوٌّ قومًا، أو هو باقٍ؟ والقولان عندنا، وسنبسطه في الجهاد إن شاء اللَّه تعالى.
الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: "إن هذا البلدَ حَرَّمَه اللَّهُ يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ"، وقد جاء -أيضًا- أن إبراهيمَ -عليه
(1) رواه مسلم (1909)، كتاب: الإمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل اللَّه، من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه.
(2)
سيأتي تخريجه في كتاب: الجهاد.
(3)
في "ت": "إلا".
(4)
تقدم تخريجه.
الصلاة والسلام- حَرَّمَ مكةَ، وأُجيب عن هذا التعارض: بأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أظهرَ حرمتَها بعدَما نسُيت، والحرمةُ ثابتةٌ من يومِ خلقَ اللَّهُ السمواتِ والأرض.
وقيل: إن التحريم في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحرمتُها يومَ خلق السموات والأرض: كتابتُها في اللوحِ المحفوظِ، أو غيره حرامًا، وأما الظهورُ للناس، ففي زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام (1).
الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: "فهي حرامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يومِ القيامة" يشتمل على أمرين: تحريم القتال، والثاني: أن ذلك ثابتٌ لا يدخله نسخ.
وقد تقدم الكلام على اختلافهم في القتال.
الخامس: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يُعْضَد شوكُه": كأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا مُنع من قطع الشوك المؤذي، فأحرى أن يُمنع من قطع ما يُنتفع به، وهو يقارب قولَه تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا} [الإسراء: 23]، وإن كانوا قد اختلفوا في قطع الشوك، فذهب بعضُ الشافعية إلى منعه، كما هو ظاهر الحديث، وأباحه غيره، لأذاه، وخالف ظاهر الحديث (2).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 30).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
السادس: قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يُنَفَّرُ صيدُه": هو -أيضًا- من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأن معنى "لا يُنفر صيده": لا يُزعج من مكانه، فأن لا يُقتل أولى؛ إذ المراد بالصيد هنا: المَصِيدُ.
مسألة: مذهبُ مالكٍ رحمه الله: أن صيدَ الحلالِ في الحرم
يوجِبُ عليه الجزاءَ؛ خلافًا لداود.
وحجةُ مالك رحمه الله قولُه تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، ويعبر عَمَّنْ حَلَّ بالحرم أنه مُحْرِم؛ كما يُقَالُ: مُنْجِد فيمن حَلَّ بنجد، وبتهامةَ: مُتْهِم، ومنه قول الشاعر:[الكامل]
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الخَلِيفَةَ مُحْرِمًا
…
وَدَعَا فَلَمْ يُرَ مِثْلُهُ مَخْذُولَا
يعني: ساكنًا بالحرم.
قيل: ولأن حرمة الحرم متأبدةٌ، والإحرام مؤقتٌ، فكان المؤبَّدُ آكَدَ.
واختُلف -أيضًا- في الحلال إذا صادَ صيدًا في الحِلِّ، ثم أتى به الحرَمَ، فاراد ذَبْحَه به، فأجاز ذلك مالكٌ، ومنعه أبو حنيفةَ، وقال: يرسلُه، وقولُ مالك أظهرُ؛ لأن ما كان في اليد وتحتَ القهر لا يُسمى صيدًا، فلم يكن داخلًا في قوله:"لا يُنَفَّرُ صَيْدُه".
قال المازري: واختلف مالكٌ وأبو حنيفةَ فيمن صادَ في الحرم، هل يدخل في جزائه الصيامُ؟ فأثبته مالك، ونفاه أبو حنيفة، ولمالكٍ
عمومُ الآية، وفيها الصيام (1).
ع: ولا خلافَ أنه إذا نَفَّره، فسلمَ: أنه لا جزاء عليه إلا أن يَهْلِك؛ لكنْ عليه الإثمُ؛ لمخالفة نهيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا شيئًا، رُوي عن عطاء: أنه يُطْعِم (2).
السابع: قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يلتقطُ لُقطته إلا مَنْ عَرَّفها": اللُّقَطَةُ -بإسكان القاف وبفتحها (3)(4) -: الشيءُ الملتَقَط.
ولتعلم: أنه لا فرق عندنا بين لُقطة الحرمِ وغيره.
وذهب الشافعي: إلى أن لقطةَ الحرم لا تؤخذ إلا للتعريف، ولا تُتملك أصلًا بظاهر هذا الحديث.
قال الإمام: وتحتمل اللفظة على أصلها على المبالغة في التعريف بها؛ بخلاف غير مكة (5).
الثامن: قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يُخْتَلَى خَلَاهَا":
(1) انظر: "المعلم" للمازري (2/ 114).
(2)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 471 - 472).
(3)
في "ت": "وفتحها".
(4)
في اللقطة أربع لغات نظمها ابن مالك في قوله:
لُقَاطَةٌ ولُقْطَةٌ ولُقَطَهْ
…
ولَقَطٌ ما لاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ
انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 282).
(5)
انظر: "المعلم" للمازري (2/ 115).
الخَلَى -بالقصر-: الرَّطْبُ من الحشيش، الواحدةُ خلَاةٌ، واخْتلاؤهُ (1): قَطْعُه. وأما الحشيشُ؛ فاليابسُ خاصة، وأظن أن الكَلأَ يُطلق على الرطب واليابس (2).
والإذخِرُ: نبتٌ طيبُ الرائحة، يشبه الحَلْفاء.
وقد فسر القَيْن بأنه الحداد، ومعنى قوله:"فإنه لِقَيْنِهم"؛ أي: إنه يُحتاج لوقوده، ولعمله في تسقيف البيوت وغيرِها.
وقوله: "إلا الإذخر" على الفور تَعَلَّقَ به مَنْ يرى اجتهادَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو تفويضَ الحكمِ إليه من أهل الأصول.
وقيل: يجوز أن يكون بوحي إليه في زمن يسير؛ فإن الوحي إلقاءٌ في خفية، وقد تظهر أمارتُه، وقد لا، قاله ق (3).
فائدة نحوية: إن قلت: الأحسنُ في صناعة العربية في الاستثناء من النفي البدلُ من المستثنى منه، فما بالُه جاء في هذا الحديث منصوبًا على الاستثناء، وكان حقُّه الرفع على البدل من قوله:"لا يُعْضَدُ شوكُه" وما بعدَه؟
(1) في "خ": "واختلاه".
(2)
انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (3/ 394)، (مادة: حشش)، و"الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (1/ 391)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 75).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 31).
قلت: قال بعض المتأخرين: إنما رُجِّحَ الإِتباعُ في غير الإيجاب على النصب؛ لأن معناه ومعنى النصب واحدٌ، وفي الإِتباع تشاكُلُ اللفظين، فإن تباعدا تباعدًا بيِّنًا، رُجِّحَ النصبُ؛ كقولك: ما ثبتَ أحدٌ في الحرب ثباتًا نفعَ الناسَ إلا زيدًا، ولا تنزلْ على أحدٍ من بني تميمٍ إن وافَيْتَهم إلا قَيْسًا؛ لأن سببَ ترجيح الإتباع طلبُ التشاكل، وقد ضعف داعيه بالتباعد، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يُختلى خَلاها، ولا يُعْضَدُ شوكُها"، فذكر الحديث.
* * *