الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوَّةٌ عظيمةٌ في البدن حتَّى إنَّ أمرًا واحدًا إذا قيس إلى أبدانٍ مختلفة العادات كان مختلف النِّسبة إليها، وإن كانت تلك الأبدان متَّفقةً في الوجوه الأُخَر.
مثال ذلك أبدانٌ ثلاثةٌ حارَّة المزاج في سنِّ الشَّباب: أحدها عُوِّد تناولَ
(1)
الأشياء الحارَّة، والثَّاني: عُوِّد تناولَ الأشياء الباردة، والثَّالث عُوِّد تناولَ الأشياء المتوسِّطة. فإنَّ الأوَّل متى تناول عسلًا لم يضرَّ به، والثَّاني متى تناوله أضرَّ به، والثَّالث يضرُّ به قليلًا. فالعادة ركنٌ عظيمٌ في حفظ الصِّحَّة ومعالجة الأمراض، ولذلك جاء العلاج النَّبويُّ بإجراء كلِّ بدنٍ على عادته في استعمال الأغذية والأدوية وغير ذلك.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية
(2)
في «الصَّحيحين»
(3)
من حديث عروة عن عائشة أنَّها كانت إذا مات الميِّت من أهلها اجتمع
(4)
لذلك النِّساء، ثمَّ تفرَّقن إلى أهلهنَّ
(5)
أمرَتْ
(1)
في ث، ل:«يتناول» هنا وفيما يأتي. وقد زاد الباء بعضهم في س.
(2)
كتاب الحموي (ص 129 - 131).
(3)
البخاري (5417) ومسلم (2216).
(4)
كذا في النسخ وكتاب الحموي. وفي «الصحيحين» وغيرهما: «فاجتمع» . وفي طبعة الرسالة: «واجتمع» تبعًا للفقي.
(5)
كذا في جميع النسخ الخطية (في س، ث، ل: أهليهن) والمطبوعة. وفي «الصحيحين» وغيرهما: «إلّا أهلها وخاصَّتها» . وفي كتاب الحموي ــ ومنه نقل هذا الحديث وما بعده أيضًا ــ: «إلا أهلها» . وأخشى أن يكون رسم «إلا» وقع في النسخة التي اعتمد عليها المؤلف من كتاب الحموي: «إلى» ، فغيِّر «أهلها» إلى «أهلهن» .
ببُرْمَةِ تلبينةٍ
(1)
، فطُبخت. وصَنعت ثريدًا، ثمَّ صبَّت التَّلبينةَ عليه
(2)
، ثمَّ قالت: كلوا منها، فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«التَّلبينة مَجَمَّةٌ لفؤاد المريض، تَذهب ببعض الحزن» .
وفي «السُّنن»
(3)
من حديث عائشة أيضًا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالبغيض النافع: التَّلبين» . قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى أحدٌ من أهله لم تزل البُرْمة على النَّار حتَّى ينتهي أحد طرفيه. يعني يبرأ أو يموت.
وعنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له إنَّ فلانًا وَجِعٌ لا يطعم الطَّعام قال: «عليكم بالتَّلبينة، فحَسُّوه إيَّاها» . ويقول: «والَّذي نفسي بيده، إنَّها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكنَّ وجهها
(4)
من الوسخ»
(5)
.
(1)
ضبط «ببرمةٍ» بتنوين الكسرة في حط، د، ن. وفي مخطوط كتاب الحموي (31/أ):«ببرمةٍ تلبينةٍ» . وفي ل: «ببرمةِ تلبينةٍ» على الإضافة.
(2)
ل: «عليها» كما في «الصحيحين» .
(3)
«السُّنَن الكبرى» للنَّسائيِّ (7530 - 7532)، و «سنن ابن ماجه» (3446). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (23967)، وابن راهويه (1658، 1659)، وأحمد (25066، 26050)، وغيرهم. وصحَّحه الحاكم (4/ 205، 407)، لكن الرَّاوِية عن عائشة كلثم ــ ويقال لها: أمّ كلثوم ــ لا يعرفُ حالها، وفي سندِه اختلاف، وقال ابن حبَّان في «المجروحين» (1/ 184):«الخبر منكر بمرَّة» ، وقال ابن القيسرانيِّ في «الذَّخيرة» (3/ 1594):«في إسناده انقطاع وجهالة» . وأخرج البخاريُّ (5690) شطرَه الأوَّل من قولها رضي الله عنها.
(4)
وقع في متن ز: «أحدكم وجهه» كما في «المسند» ، فأثبت بعضهم كما جاء في غيرها وكتاب الحموي.
(5)
أخرجه أحمد (24500، 25192) من طريق أمِّ كلثوم، عن عائشة رضي الله عنها به، وقد تقدَّم أنَّ أمَّ كلثوم لا يُعرَف حالها، فالإسناد ضعيف. ويُقوِّيه ما أخرجه التِّرمذيُّ (2039)، والنَّسائي في «الكبرى» (7529)، وابن ماجه (3445)، وأحمد (24035)، من طريق محمَّد بن السَّائب، عن أمِّه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهلَه الوعكُ أمرَ بالحساء فصُنِع، ثمَّ أمرَهم فَحَسوا منه، وكان يقول:«إنَّه ليرتو فؤاد الحزين، ويسرو عن فؤاد السَّقيم، كما تسرو إحداكنَّ الوسخَ بالماء عن وجهها» ، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» .
التَّلبين: هو الحساء الرَّقيق الذي هو في قوام اللَّبن، ومنه اشتقَّ اسمه. قال الهروي
(1)
: سمِّيت تلبينةً لشبهها باللَّبن لبياضها ورقَّتها. وهذا الغذاء هو النَّافع للعليل، وهو الرَّقيق النَّضيج لا الغليظ النِّيء. وإذا شئت أن تعرف فضل التَّلبينة فاعرف فضل ماء الشَّعير. بل هي ماء الشَّعير لهم، فإنَّها حساءٌ متَّخذٌ من دقيق الشَّعير بنخالته. والفرق بينها وبين ماء الشَّعير أنَّه يطبخ صحاحًا، والتَّلبينة تطبخ منه مطحونًا. وهي أنفع منه لخروج خاصِّيَّة الشَّعير بالطَّحن.
وقد تقدَّم أنَّ للعادات تأثيرًا في الانتفاع بالأدوية والأغذية، وكانت عادة القوم أن يتَّخذوا ماء الشَّعير منه مطحونًا لا صحاحًا. وهو أكثر تغذيةً، وأقوى فعلًا، وأعظم جلاءً. وإنَّما اتَّخذه أطبَّاء المدن منه صحاحًا ليكون أرقَّ وألطف، فلا يثقل على طبيعة المريض. وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها، وثقل ماء الشَّعير المطحون عليها. والمقصود: أنَّ ماء الشَّعير مطبوخًا صحاحًا ينفذ سريعًا، ويجلو جلاءً ظاهرًا، ويغذِّي غذاءً لطيفًا. وإذا شُرِب حارًّا كان جلاؤه أقوى، ونفوذه أسرع، وإنماؤه للحرارة الغريزيَّة أكثر،
(1)
لعل المقصود أبو عبيد صاحب «الغريبين» (5/ 1672) وهو صادر عن «التهذيب» (15/ 364) لشيخه الأزهري، وكلاهما هروي.
وتلميسه
(1)
لسطوح المعدة أوفق
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم فيها: «مَجَمَّةٌ لفؤاد المريض» يروى بوجهين. بفتح الميم والجيم، وبضمِّ الميم وكسر الجيم، والأوَّل: أشهر. ومعناه
(3)
: أنَّها مريحةٌ له أي تُريحه وتسكِّنه، من الإجمام وهو الرَّاحة.
وقوله: «تذهب ببعض الحزن» هذا ــ والله أعلم ــ لأنَّ الغمَّ والحزن يبرِّدان المزاج، ويُضْعِفان الحرارة الغريزيَّة، لميل الرُّوح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها. وهذا الحساء يقوِّي الحرارة الغريزيَّة بزيادته في مادَّتها، فيزيل أكثر ما عرض له من الغمِّ والحزن.
وقد يقال ــ وهو أقرب ــ: إنَّها تذهب ببعض الحزن بخاصِّيَّةٍ فيها من جنس خواصِّ الأغذية المفرِّحة، فإنَّ من الأغذية ما يفرِّح بالخاصِّيَّة. والله أعلم.
وقد يقال
(4)
: إنَّ قوى الحزين تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه
(1)
كذا في جميع النسخ ومخطوط كتاب الحموي الذي اعتمد عليه ناشره. ولعل النسخة التي نقل منها ابن القيم كانت شبيهة بهذا المخطوط. وهو تصحيف صوابه: «تمليسه» بالميم قبل اللام كما في المخطوط الذي بين يديَّ من كتاب الحموي (31/ب) ومصدره «الأربعين الطبية» للموفق (ص 104). ومما قاله الموفق في هذا الفصل: «وشُرب الماء الحارِّ وحده يفعل مثل ذلك، ولكن لا يغذِّي ولا يملِّس» .
(2)
في كتاب الحموي: «أوفر» . ونص الموفَّق: «وتمليسه لسطوح المعدة والأمعاء وسائر الأجزاء أحسن» .
(3)
ز: «ومعناها» . وكذا في كتاب الحموي.
(4)
القول السابق للمؤلف. أما هذا القول فهو للموفَّق في «الأربعين الطبية» (ص 104) أورده الحموي دون إشارة إليه، كما فعل المؤلف في النقل من كتاب الحموي.