الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن النِّقْرِس
(1)
والبواسير والفيل
(2)
وحِكَّة الظَّهر.
فصل
في هديه في أوقات الحجامة
روى الترمذي في «جامعه»
(3)
من حديث ابن عبَّاسٍ يرفعه: «إنَّ خير ما تحتجمون فيه يومُ سابعَ عشرةَ، أو تاسعَ عشرةَ، ويوم إحدى وعشرين» .
وفيه
(4)
عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل وكان يحتجم لسبعة عشر وتسعة عشر وفي واحد وعشرين
(5)
.
وفي «سنن ابن ماجه»
(6)
عن أنس مرفوعًا: «من أراد الحجامة فليتحرَّ
(1)
هو وجع شديد في مفاصل القدم ولاسيما في الإبهام. انظر: «التنوير» للقمري (ص 60) و «بحر الجواهر» للهروي (ص 290).
(2)
يعني: داء الفيل، «وهو زيادة ورمية سمجة في الساق والقدم مع غلظ وتغيُّر لون» كما في «حقائق أسرار الطب» للسجزي (ص 150). وانظر:«التنوير» (ص 60).
(3)
برقم (2053). وقد تقدَّم تخريجه، وأنَّ إسناده ضعيف جدًّا.
(4)
برقم (2051)، وقال:«هذا حديث حسن غريب» . وقد تقدَّم تخريجه.
(5)
كذا في الأصل. وفي ز: «أحد وعشرين» ، وفي غيرهما:«إحدى وعشرين» . وحرف «في» ساقط من س، ث، ل.
(6)
برقم (3486) من طريق عثمان بن مطر، عن زكريَّا بن مَيسرة، عن النَّهَّاس بن قهم، عن أنس رضي الله عنه به. وهذا إسناد ضعيف؛ زكريَّا مستور، وعثمان والنَّهَّاس ضعيفان، وقد ضعَّفه العراقيُّ في «المغني» (4107)، والبوصيريُّ في «المصباح» (4/ 63)، وابن حجر في «الفتح» (10/ 150)، وهو في «السلسلة الضعيفة» (1864). وفي الباب عن ابن عبَّاس وأبي هريرة رضي الله عنهما.
سبعة عشر أو تسعة عشر أو إحدى وعشرين لا يتبيَّغْ
(1)
بأحدكم الدَّمُ فيقتلَه».
وفي «سنن أبي داود»
(2)
من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من احتجم لسبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين كانت شفاءً من كلِّ داءٍ» . وهذا معناه: من كلِّ داءٍ سببُه غلبةُ الدَّم
(3)
.
وهذه الأحاديث موافقةٌ لما اجتمع عليه الأطبَّاء أنَّ الحجامة في النِّصف الثَّاني وما يليه من الرُّبع الثَّالث من أرباعه أنفع من أوَّله وآخره. وإذا استُعملت عند الحاجة إليها نفعَت، أيَّ وقتٍ كان من أوَّل الشَّهر وآخره.
قال الخلال: أخبرني عِصمة بن عِصام قال: ثنا حنبل قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبلٍ يحتجم أيَّ وقتٍ هاج به الدَّم، وأيَّ ساعةٍ كانت
(4)
.
وقال صاحب «القانون»
(5)
: أوقاتها في النَّهار السَّاعة الثَّانية أو الثَّالثة. ويجب توقِّيها بعد الحمَّام، إلا فيمن دمه غليظٌ فيجب أن يستحمَّ، ثمَّ يُجِمَّ ساعةً، ثمَّ يحتجم. انتهى.
(1)
هكذا في «السنن» ومخطوطة كتاب الحموي، وعلى هذا سيأتي تفسيره. وفي النسخ الخطية:«ولا يتبيَّغ» .
(2)
برقم (3861) وسكت عنه. وأخرجه أيضًا الطَّبراني في «الأوسط» (6622) بنحوه. وصحَّحه الحاكم (4/ 210) والبوصيري في «فيما ورد عن شفيع الخلق يوم القيامة أنَّه احتجم وأمر بالحجامة» (ص 76)، وحسنه النووي في «المجموع» (9/ 62)، وهو في «السلسلة الصحيحة» (622).
(3)
هذا تفسير الحموي (ص 177).
(4)
كتاب الحموي (ص 172).
(5)
في «القانون» (1/ 300) والنقل من الكتاب السابق، وفيهما:«أفضل أوقاتها» .
وتُكرَه عندهم الحجامة على الشِّبَع، فإنِّها ربَّما أورثت سُدَدًا وأمراضًا رديَّةً، لا سيَّما إذا كان الغذاء رديًّا غليظًا. وفي أثرٍ:«الحجامة على الرِّيق دواءٌ وعلى الشِّبع داءٌ، وفي سبعة عشر من الشَّهر شفاءٌ»
(1)
.
واختيار هذه الأوقات للحجامة فيما إذا كانت على سبيل الاحتياط والتَّحرُّز من الأذى وحفظًا للصِّحَّة. وأمَّا في مداواة الأمراض فحيثما وُجِد الاحتياجُ إليها وجَب استعمالُها. وفي قوله: «لا يتبيَّغ
(2)
بأحدكم الدَّم فيقتله» دلالةٌ على ذلك يعني: لئلَّا يتبيَّغَ، فحُذِف حرف الجرِّ مع (أن)، ثمَّ حُذفت (أن)
(3)
. والتَّبيُّغ: الهَيْج. وهو مقلوب البغي، وهو بمعناه فإنَّه بغي الدَّم وهيجانه. وقد تقدَّم أنَّ الإمام أحمد كان يحتجم أيَّ وقتٍ احتاج من الشَّهر.
فصل
(4)
وأمَّا اختيار أيَّام الأسبوع للحجامة، فقال الخلال في «جامعه»: أخبرنا حرب بن إسماعيل قال: قلت لأحمد: تُكرَه الحِجامةُ في شيءٍ من الأيَّام؟ قال: قد جاء في الأربعاء والسَّبت.
(1)
أخرجه الدَّيلميُّ (2/ق 99 - زهرة الفردوس) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا بإسنادٍ تالف. والنقل من كتاب الحموي (ص 173).
(2)
هكذا في ث، حط، ل، ن. وفي غيرها:«ولا يتبيَّغ» .
(3)
لفظ الحموي: «والدليل عليه قوله لهم: «لا يتبيَّغْ بأحدكم الدم فيقتله» ، فلفظة لا هنا بمعنى لئلا، فيخلص المعنى للاستقبال». وتفسيره هذا تفسير معنًى، لا تفسير إعراب كما ظن المؤلف، ثم شرحه بأن لام الجر مع (أن) حذفتْ ثم حذفت (أن)، وهذا عجيب من مثله.
(4)
كتاب الحموي (ص 177 - 179).
وفيه عن الحسين بن حسان أنَّه سأل أبا عبد الله عن الحجامة: أيَّ يومٍ تُكرَه؟ فقال: يوم السَّبت ويوم الأربعاء، ويقولون: يوم الجمعة.
وروى الخلَّال عن أبي سلمة وسعيد المَقْبُري عن أبي هريرة مرفوعًا: «من احتجم يوم الأربعاء ويوم السَّبت، فأصابه بياضٌ أو برصٌ، فلا يلومنَّ إلا نفسَه»
(1)
.
وقال الخلال: أخبرني محمد بن علي بن جعفر أنَّ يعقوب بن بَخْتان حدَّثهم قال: سئل أحمد عن النُّورة والحِجامة يوم السَّبت ويوم الأربعاء، فكرهها، وقال: بلغني عن رجلٍ أنَّه تنوَّر واحتجَم ــ يعني: في يوم الأربعاء ــ فأصابه البرص. قلت له: كأنَّه تهاوَن بالحديث؟ قال: نعم.
وفي كتاب «الأفراد» للدَّارقطنيِّ
(2)
من حديث نافع قال: قال لي
(1)
أخرجه ابن عديٍّ في «الكامل» (5/ 204) من طريق ابن سمعان، عن الزُّهري، عن أبي سلمة وسعيد ــ غير منسوب ــ به، وابن سمعان متَّهم. وأخرجه البزَّار (7800، 7807) والبيهقي في «الكبرى» (9/ 340) من طريق سُليمان بن أرقم، عن الزُّهرِيِّ، عن سَعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال البزَّار:«سليمان ليِّن الحديث، وإنَّما أتى منه، ورواه غيره عن الزُّهرِي مرسلًا» . وأخرجه الحاكم (4/ 409) من طريق سليمان بن أرقم، عن السُّدِّي ــ كذا ــ، عن ابن المسيَّب به، قال الذَّهبي:«سليمان متروك» . وأخرج المرسَلَ أبو داود في «المراسيل» (451) وقال: «وقد أُسنِد ولم يصحَّ» . ورجَّح إرسالَه الدَّارقطنيُّ في «العلل» (1812)، والبيهقيُّ، وغيرهما. والحديث ضعَّفه النَّووي في «المجموع» (9/ 62)، وابن مفلح في «الآداب الشَّرعيَّة» (3/ 75)، وغيرهما، وهو في «السلسلة الضعيفة» (1524).
(2)
ينظر: «أطراف الغرائب والأفراد» (3387)، وقد أخرجه هو والبزَّار ــ مختصرًا ــ (5968) من طريق زياد بن يحيى، عن عذال بن محمَّد، عن محمَّد بن جحادة، عن نافع به. وأخرجه ابن ماجه (3487، 3488) من طريق الحسن بن أبي جعفر، عن ابن جحادة، ومن طريق سعيد بن ميمون، عن نافع به نحوه. قال ابن حجر في «الفتح» (10/ 149):«أخرجه ابن ماجه من طريقين ضعيفين، وله طريق ثالثة ضعيفة أيضًا عند الدَّارقطني في الأفراد، وأخرجه بسندٍ جيِّد عن ابن عمر موقوفًا» . وله طرقٌ أخرى لا تخلو من ضعفٍ، وقد أنكره غير واحدٍ من الأئمَّة، وقوَّاه الألبانيُّ في «السِّلسلة الصَّحيحة» (766). وينظر:«المطالب العالية» (11/ 253 - 257 ــ نشرة الشّثريِّ).
عبد الله بن عمر: تبيَّغَ بي الدَّم، فابغِني حجَّامًا، ولا يكن صبيًّا ولا شيخًا كبيرًا فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«الحجامة تزيد الحافظَ حفظًا، والعاقلَ عقلًا، فاحتجِمُوا على اسم الله. ولا تحتجموا الخميس والجمعة والسَّبت والأحد، واحتجموا الاثنين. وما كان من جذامٍ ولا برصٍ إلا نزل يوم الأربعاء» . قال الدَّارقطنيُّ: تفرَّد به زياد بن يحيى. وقد رواه أيوب عن نافع وقال فيه: «واحتجِموا يوم الاثنين والثُّلاثاء، ولا تحتجموا يوم الأربعاء»
(1)
.
وقد روى أبو داود في «سننه»
(2)
من حديث أبي بكرة أنَّه كان يكره
(1)
رواية أيُّوب أخرجها الدَّارقطنيُّ في «الأفراد» كما في «اللَّآلئ المصنوعة» (2/ 342)، والحاكم (4/ 211)، من طريق عبد الله بن هشام الدَّستوائي، عن أبيه، عن أيُّوب به موقوفًا. قال الحاكم:«قد صحَّ الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما - من قوله، من غير مسند ولا متَّصل» ، وتعقَّبه الذَّهبي فقال:«عبد الله متروك» .
(2)
برقم (3862) وسكت عنه. وضعَّفه العُقيلي في «الضُّعفاء» (1/ 150)، والبيهقي في «الكبرى» (9/ 340)، والنَّووي في «المجموع» (9/ 63)، وابن مُفلح في «الآداب الشَّرعيَّة» (3/ 76)، والبوصيري في «فيما ورد عن شفيع الخلق يوم القيامة أنَّه احتجم وأمر بالحجامة» (ص 84)، وابن حجر في «الفتح» (10/ 150)، وهو في «السِّلسلة الضَّعيفة» (2251).
الحجامة يوم الثُّلاثاء، وقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الثُّلاثاء يوم الدَّم وفيه ساعةٌ لا يرقأ» .
فصل
وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدِّمة:
- استحبابُ التَّداوي.
- واستحبابُ الحِجامة، وأنَّها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال.
- وجوازُ احتجام المحرِم وإن آل إلى قطع شيءٍ من الشَّعر فإنَّ ذلك جائزٌ. وفي وجوب الفدية عليه نظرٌ، ولا يقوى الوجوب.
- وجوازُ احتجام الصَّائم فإنَّ في «صحيح البخاريِّ»
(1)
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجَم وهو صائمٌ. ولكن هل يفطر بذلك أم لا؟ مسألةٌ أخرى، الصَّواب: الفطر بالحجامة لصحَّته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارضٍ.
وأصحُّ ما يعارَضُ به: حديثُ حجامته وهو صائمٌ، ولكن لا يدلُّ على عدم الفطر إلا بعد أربعة أمورٍ. أحدها: أنَّ الصَّوم كان فرضًا. الثَّاني: أنَّه كان مقيمًا. الثَّالث: أنَّه لم يكن به مرضٌ احتاج معه إلى الحجامة. الرَّابع: أنَّ هذا الحديث متأخِّرٌ عن قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»
(2)
.
(1)
برقم (1938) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
حديثٌ متواتر، رواه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قرابةُ ثلاثين صحابيًّا. ولذا قال ابن حزم كما في «الفتح» (4/ 178):«صحَّ حديثُ (أفطر الحاجم والمحجوم) بلا ريبٍ» . ومِن أصحِّ طرقه حديثُ ثوبان رضي الله عنه، أخرجه أبو داود (2367، 2370، 2371)، والنَّسائيُّ في «الكبرى» (3133 - 3137، 3140، 3157 - 3160)، وابنُ ماجه (1680)، وأحمد (22371، 22382، 22410، 22429 - 22432، 22450). وصحَّحه ابن الجارود (386)، وابن خزيمة (1962، 1963، 1983، 1984)، وابن حبَّان (3532)، والحاكم (1/ 427)، ونقل عن أحمد أنَّه قال:«هو أصحُّ ما رُوِي في هذا الباب» . وينظر: «تهذيب سنن أبي داود» للمصنِّف (2/ 33 - 38).
فإذا ثبتت
(1)
هذه المقدِّمات الأربع أمكن الاستدلال بفعله على بقاء الصَّوم مع الحجامة، وإلَّا فما المانع أن يكون الصَّوم نفلًا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان لكنَّه في السَّفر، أو من رمضان في الحضر لكن دعت الحاجة إليها كما تدعو حاجةُ مَن به مرضٌ إلى الفطر، أو يكون فرضًا من رمضان في الحضر من غير حاجةٍ إليها، لكنَّه مُبْقٍ على الأصل، وقولُه:«أفطر الحاجم والمحجوم» ناقلٌ ومتأخِّرٌ، فيتعيَّن المصير إليه. ولا سبيل إلى إثبات واحدةٍ من هذه المقدِّمات
(2)
الأربع، فكيف بإثباتها كلِّها!
- وفيها دليلٌ على استئجار الطَّبيب وغيره من غير عقد إجارةٍ، بل يعطيه أجرة المثل أو ما يرضيه.
- وفيها دليلٌ على جواز التَّكسُّب بصناعة الحجامة وإن كان لا يطيب للحُرِّ أكلُ أجرته، من غير تحريمٍ عليه؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أعطاه أجره ولم يمنعه من أكله. وتسميته إيَّاه خبيثًا كتسميته للثَّوم والبصل خبيثين، ولم يلزم من ذلك تحريمهما.
- وفيها دليلٌ على جواز ضرب الرَّجل الخراجَ على عبده كلَّ يومٍ شيئًا معلومًا بقدر طاقته وأنَّ للعبد أن يتصرَّف فيما زاد على خراجه. ولو مُنِع من التَّصرُّف فيه لكان كسبُه كلُّه خراجًا، ولم يكن لتقديره فائدةٌ؛ بل ما زاد على
(1)
ف: «تثبتت» .
(2)
ف، ز، حط، ن:«المقامات» .
خراجه فهو تمليكٌ من سيِّده له يتصرَّف فيه كما أراد. والله أعلم.
فصل
في هديه في قطع العروق والكيِّ
(1)
ثبت في «الصَّحيح»
(2)
من حديث جابر بن عبد الله أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبيِّ بن كعبٍ طبيبًا، فقطع له عِرقًا، وكواه عليه.
ولمَّا رُميَ سعد بن معاذٍ في أكحَله حسَمه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ ورِمَتْ، فحسمه ثانيةً
(3)
. والحسم هو الكيُّ.
وفي طريقٍ أخرى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذٍ في أكحله بمِشْقَصٍ
(4)
، ثمَّ حَسَمه، سعدَ بن معاذٍ أو غيرَه من أصحابه
(5)
.
وفي لفظٍ آخر: أنَّ رجلًا من الأنصار رُمِي في أكحله بمشقَصٍ، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فكُوِي
(6)
.
(1)
كتاب الحموي (ص 105 - 108).
(2)
أخرجه مسلم (2207).
(3)
أخرجه مسلم (2208) من حديث جابر.
(4)
المشقص: النصل الطويل.
(5)
كذا في النسخ وفي مصدر النقل (ص 106). لم أقف عليه بهذا اللَّفظ، وأقربُ الألفاظ إليه ما ذكره أبو عُبيد في «غريبه» (2/ 92) أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ أو سعد بن زرارة في أكحله بمشقص. والذي في حديث مسلم السابق وغيره أن الحسم كان بمشقص لا الكيّ.
(6)
لم أقف عليه بهذا اللَّفظ، وأقربُ الألفاظ إليه لفظُ أحمد (14252):«رُمِي أبيُّ بن كعبٍ يومَ أحدٍ بسهمٍ، فأصاب أكحله، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فكُوِي على أكحله» . وقد تقدَّم لفظ مسلم (2207).
وقال أبو عبيد
(1)
: وُفِد إلى النَّبيِّ
(2)
صلى الله عليه وسلم برجلٍ نُعِتَ له الكيُّ، فقال: «اكوُوه وارضِفُوه
(3)
»
(4)
. قال أبو عبيد: الرَّضْف: الحجارة تسخَّن ثمَّ يُكمَد بها.
وقال الفضل بن دُكَينٍ: حدَّثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كواه في أكحَله
(5)
.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(6)
من حديث أنس أنَّه كُوِيَ من ذات الجنب والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حيٌّ.
وفي الترمذي
(7)
عن أنس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كوى أسعدَ بن زرارة من الشَّوكة.
(1)
في «غريب الحديث» (3/ 19).
(2)
كذا في جميع النسخ الخطية مضبوطًا في غير نسخة منها، وكذا في مصدر النقل. ولا يبعد أن يكون تصحيف «وقد أُتي النبيُّ» كما في طبعة الرسالة. وفي «غريب الحديث»:«أُتي النبيُّ» ، وكذا في «المصنَّف» (23617) و «مسند أحمد» (3852).
(3)
الرواية: «أو ارضفوه» .
(4)
أخرجه النَّسائي في «الكبرى» (7601)، والطَّيالسي (300)، وعبد الرَّزَّاق (19517)، وابن أبي شيبة (23617)، وأحمد (3701، 3852، 4021، 4054)، وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وصحَّحه الحاكم (4/ 214، 416)، وابن حبَّان (6082)، والنَّوويُّ في «المجموع» (9/ 61).
(5)
أخرجه عن الفضل بن دُكينٍ ابنُ سعد في «الطَّبقات» (3/ 610) في ترجمة أسعد بن زرارة رضي الله عنه. والضَّمير في الخبر يعود عليه، لا على جابر كما يوهمه السِّياق، وقد تابع المؤلف في إيراده هكذا مصدرَه كتاب الحموي.
(6)
برقم (5719).
(7)
برقم (2050). وأخرجه أيضًا أبو يعلى (3582)، وأبو نعيم في «الطِّب النَّبوي» (312)، والبيهقيُّ في «الكبرى» (9/ 342). قال التِّرمذي:«هذا حديث حسن غريب» ، وصحَّحه ابن حبَّان (6080)، والحاكم (3/ 187، 4/ 417). وقد أبان بعضُ الأئمَّة النُّقَّاد فيه عن علَّةٍ، ورجَّحوا إرسالَه، ينظر:«المسند» للبزَّار (6306)، و «العلل» لابن أبي حاتم (2277، 2489)، وللدَّارقطني (2619)، و «التَّمهيد» (24/ 60)، و «تاريخ دمشق» (59/ 392)، و «شرح علل التِّرمذي» (2/ 766). والشوكة: حمرة تعلو الوجه والجسد. انظر: «النهاية في غريب الحديث» (2/ 510).
وقد تقدَّم الحديث المتَّفق عليه، وفيه:«وما أحبُّ أن أكتوي» . وفي لفظٍ آخر: «وأنا أنهى أمَّتي عن الكيِّ» .
وفي «جامع الترمذي»
(1)
وغيره عن عمران بن حُصَينٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الكيِّ. قال: فابتُلِينا، فاكتوينا، فما أفلحنا ولا أنجحنا. وفي لفظٍ:«نُهينا عن الكيِّ» ، وقال:«فما أفلحن ولا أنجحن»
(2)
.
قال الخطابي
(3)
: إنَّما كوى سعدا ليرقأ الدَّم من جُرحه، وخاف عليه أن يُنزَف، فيهلك. والكيُّ مستعملٌ
(4)
في هذا الباب كما يكوى من تُقطَع يدُه أو رجلُه. وأمَّا النَّهي عن الكيِّ فهو أن يكتوي طلبًا للشِّفاء. وكانوا يعتقدون أنَّه
(1)
برقم (2049). وأخرجه أيضًا أبو داود (3865)، والنَّسائي في «الكبرى» (7602)، وابن ماجه (3490)، وأحمد (19831، 19864، 19989، 20004). قال التِّرمذي: «هذا حديث حسن صحيح» ، وصحَّحه ابن حبَّان (6081)، والحاكم (4/ 213، 417)، وابن عبد البر في «الاستذكار» (8/ 416)، وصحَّح إسناد أبي داود النَّوويُّ في «المجموع» (9/ 63)، وحسَّنه ابن مفلح في «الآداب الشَّرعيَّة» (3/ 89)، وقال ابن حجر في «الفتح» (10/ 155):«سنده قويٌّ» .
(2)
يعني: الكيَّات.
(3)
في «معالم السنن» (4/ 219). والنقل من كتاب الحموي (ص 108) وفيه تصرُّف وزيادة لا أدري أمن الحموي أم من مصدره الناقل من «المعالم» .
(4)
ز: «يستعمل» .
متى لم يكتوِ هلَكَ، فنهاهم عنه لأجل هذه النِّيَّة. وقيل: إنَّما نهى عنه
(1)
عمرانَ بن حُصَينٍ خاصَّةً، لأنَّه كان به ناصورٌ
(2)
، وكان موضعه خطرًا، فنهاه عن كيِّه. فيشبه أن يكون النَّهي منصرفًا إلى الموضع المخوف منه. والله
(3)
أعلم.
وقال ابن قتيبة
(4)
: الكيُّ جنسان: كيُّ الصَّحيح لئلَّا يعتلَّ. فهذا الذي قيل فيه: «لم يتوكَّل مَن اكتوى» ، لأنَّه يريد أن يدفع القدر عن نفسه. والثَّاني: كيُّ الجُرح إذا نَغِل، والعضوِ إذا قُطِع؛ ففي هذا الشِّفاءُ. وأمَّا إذا كان الكيُّ للتَّداوي الذي يجوز أن ينجح، ويجوز أن لا ينجح؛ فإنَّه إلى الكراهة أقرب. انتهى
(5)
.
وثبت في الصَّحيح من حديث السَّبعين ألفًا الذين يدخلون الجنَّة بغير حسابٍ: أنَّهم «الَّذين لا يسترقُون، ولا يكتوون، ولا يتطيَّرون، وعلى ربِّهم
(1)
«عنه» ساقط من د.
(2)
أخرج أبو داود (952)، وابن ماجه (1223)، وأحمد (19819)، عن عمران رضي الله عنه قال: كان بي النَّاصور، فسألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «صلِّ قائمًا
…
» الحديث. وصحَّحه ابن الجارود (231)، وابن خزيمة (979، 1250)، والحاكم (1/ 314). وهو في البخاريِّ (1115، 1116، 1117) بلفظ: «وكان مَبسورًا» ، ولفظ:«كانت بي بواسير» .
(3)
ز، س، ن:«فالله» .
(4)
في «تأويل مختلف الحديث» (ص 462 - 464). والنقل عن الحموي (ص 105 - 106).
(5)
قول المؤلف: «انتهى» يفيد أن هذا كله من كلام ابن قتيبة، ولكن قوله: «وأما إذا كان الكيُّ
…
أقرب» لم يرد في كتابه، فأخشى أن يكون من كلام الحموي، وقد انتهى النقل عن ابن قتيبة ملخَّصًا بقوله:«ففي هذا الشفاء» .
يتوكَّلون»
(1)
.
فقد تضمَّنت أحاديث الكيِّ أربعة أنواعٍ. أحدها: فعله. والثَّاني: عدم محبَّته له. والثَّالث: الثَّناء على من تركه. والرَّابع: النَّهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله، فإنَّ فعله يدلُّ على جوازه، وعدم محبَّته له لا يدلُّ على المنع منه. وأمَّا الثَّناء على تاركيه
(2)
فيدلُّ على أنَّ تركه أولى وأفضل. وأمَّا النَّهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النَّوع الذي لا يَحتاج إليه بل يفعله خوفًا من حدوث الدَّاء. والله أعلم.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصَّرع
أخرجا في «الصَّحيحين»
(3)
من حديث عطاء بن أبي رباحٍ قال: قال ابن عبَّاسٍ: ألا أُريك امرأةً من أهل الجنَّة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السَّوداء، أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنِّي أُصْرَع، وإنِّي أنكشِفُ
(4)
، فادعُ الله لي. فقال:«إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنَّة، وإن شئتِ دعوتُ الله لكِ أن يعافيكِ» . فقالت: أصبِرُ. قالت: فإنِّي أنكشِفُ، فادعُ الله أن لا أنكشِفَ. فدعا لها.
(1)
أخرجه البخاري (5705) ومسلم (374) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
ث، ل:«تاركه» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
البخاري (5652) ومسلم (2576). والنقل من كتاب الحموي (ص 98).
(4)
هكذا في ف، د ومخطوطة كتاب الحموي (19/ب) في المواضع الثلاثة. والدليل على عدم تصحيفه فيها قوله:«وكانت المرأة المذكورة تجد من ألم المرض المذكور المشقة والانكشاف» (20/أ). وفي س، ث، حط:«أتكشف» كما في «الصحيحين» . وفي سائر النسخ أهمل ثانيه.
قلت: الصَّرع صرعان: صرعٌ من الأرواح الخبيثة الأرضيَّة، وصرعٌ من الأخلاط الرَّديَّة. والثَّاني: هو الذي يتكلَّم فيه الأطبَّاء وفي سببه وعلاجه.
وأمَّا صرع الأرواح، فأئمَّتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأنَّ علاجه بمقابلة الأرواح الخيِّرة الشَّريفة
(1)
العلويَّة لتلك الأرواح الشِّرِّيرة الخبيثة، فتدفع آثارَها، وتعارض أفعالَها وتُبطِلها. وقد نصَّ على ذلك بُقْراط
(2)
في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصَّرع وقال: هذا إنَّما ينفع في
(3)
الصَّرع الذي سببه الأخلاط والمادَّة. وأمَّا الصَّرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج
(4)
.
وأمَّا جهلة الأطبَّاء وسَقَطهم وسَفِلتهم ومن يعتدُّ
(5)
بالزَّندقة فضيلةً، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرُّون بأنَّها تؤثِّر في بدن المصروع. وليس معهم إلا الجهل، وإلَّا فليس في الصِّناعة الطِّبِّيَّة ما يدفع ذلك. والحسُّ والوجود شاهدٌ به. وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو
(6)
صادقٌ في بعض أقسامه لا في كلِّها
(7)
.
(1)
ن: «الشريفة الخيرة» .
(2)
س، ث، حط، ل:«أبقراط» .
(3)
د، ن:«من» .
(4)
انظر: «الرَّدّ على المنطقيين» (471)، و «مجموع الفتاوى» (19/ 32).
(5)
ز، ث، ل:«تعبَّد» . وفي النسخ المطبوعة: «يعتقد» .
(6)
د، ث، ل:«وهو» ، ولعل صوابه:«فهو» .
(7)
د: «كله» .
وقِدْمًا
(1)
الأطبَّاءُ كانوا يسمُّون هذا الصَّرع: «المرض الإلهيَّ» ، وقالوا: إنَّه من الأرواح. وأمَّا جالينوس وغيره فتأوَّلوا عليهم هذه التَّسمية، وقالوا: إنَّما سمَّوها
(2)
بالمرض الإلهيِّ لكون هذه العلَّة تحدُث في الرَّأس، فتضرُّ بالجزء الإلهيِّ الطَّاهر
(3)
الذي مسكنه الدِّماغ
(4)
. وهذا التَّأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها. وجاءت زنادقة الأطبَّاء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده. ومن له عقلٌ ومعرفةٌ بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم.
وعلاج هذا النَّوع يكون بأمرين: أمرٍ من جهة المصروع، وأمرٍ من جهة المعالج. فالَّذي من جهة المصروع يكون بقوَّةِ نفسه، وصدق توجُّهِه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتَّعوُّذِ الصَّحيحِ الذي قد تواطأ عليه القلب واللِّسان. فإنَّ
(5)
هذا نوعُ
(6)
محاربةٍ، والمحارِبُ لا يتمُّ له الانتصاف من
(1)
كذا ضبط في الأصل (ف) بتنوين الميم، يعني: قديمًا. وفي بعض النسخ مدّة على الألف ليقرأ «قدماء» كما في النسخ المطبوعة.
(2)
يعني: علَّة الصرع.
(3)
ما عدا ف، ز:«الظاهر» بالمعجمة، تصحيف.
(4)
السياق في مصدر النقل (ص 99): «والقدماء كانوا يسمون الصرع: «المرض الإلهي» ، فبعضهم سمَّاه كذلك لأنه رأى أن هذه العلَّة من الجن. وأفلاطون يجعل علة هذه التسمية لكون
…
الدماغ. ذكر ذلك جالينوس في المقالة الرابعة من شرحه لطيماوس».
(5)
«فإن» تصحف في د إلى «قال» ، وبينه وبين «هذا» بياض فيها وفي ف يسع كلمتين أو ثلاثًا. ولا بياض في غيرهما.
(6)
س: «النوع» .
عدوِّه بالسِّلاح إلا بأمرين: أن يكون السِّلاح صحيحًا في نفسه جيِّدًا، وأن يكون السَّاعد قويًّا. فمتى تخلَّف أحدهما لم يُغْنِ السِّلاحُ كبيرَ
(1)
طائلٍ، فكيف إذا عُدِم الأمران جميعًا: يكون القلب خرابًا من التَّوحيد والتَّوكُّل والتَّقوى والتَّوجُّه، ولا سلاح له؟
والثَّاني: من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا، حتَّى إنَّ من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرُجْ منه، أو يقول: بسم الله، أو يقول: لا حول ولا قوَّة إلا باللَّه. والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اخرج عدوَّ الله، أنا رسول اللَّه»
(2)
.
وشاهدت شيخنا يُرسِل إلى المصروع مَن يخاطب الرُّوحَ الَّتي فيه ويقول: قال لكِ الشَّيخ: اخرجي، فإنَّ هذا لا يحلُّ
(3)
. فيفيق المصروع،
(1)
هكذا في ف، س. وفي ز بالثاء والباء معًا. وفي غيرها:«كثير» كما في النسخ المطبوعة.
(2)
أخرجه وكيع في «الزُّهد» (508) عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن يعلى بن مُرَّة رضي الله عنه به في حديثٍ طويل. وعنه رواه أحمد (17563) مختصرًا، وهنَّاد في «الزُّهد» (1341). وصحَّحه الحاكم (2/ 617)، وتُعُقِّب بأنَّ المنهال لم يسمع من يعلى. وأخرجه أحمد (17565) وعبد بن حميد (405) من طريق عطاء بن السائب ــ وهو مختلط ــ، عن عبد الله بن حفص ــ وهو مجهول ــ، عن يعلى. وأخرجه ابن أبي شيبة (24031، 24055، 32412) وأحمد (17548) من طريق عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن يعلى بنحوه. قال ابن كثير في «البداية والنِّهاية» (9/ 15):«فهذه طرق جيِّدة متعدِّدة تفيد غلبةَ الظَّنِّ أو القطع عند المتبحِّر أنَّ يعلى حدَّث بهذه القصَّة في الجملة» ، وهو في «السِّلسلة الصَّحيحة» (485). وفي الباب عن عثمان بن أبي العاص والوازع بن الزَّارع وأسامة بن زيد وجابر بن عبد الله وغيلان بن سلمة وابن عبَّاس رضي الله عنهم.
(3)
بعده في ن زيادة: «لك» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
وربَّما خاطبه بنفسه. وربَّما كانت الرُّوح ماردةً فيُخْرِجها بالضَّرب، فيفيق المصروع ولا يحسُّ بألمٍ. وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارًا.
وكان كثيرًا ما يقرأ في أذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
وحدَّثني أنَّه قرأها مرَّةً في أذن مصروعٍ
(1)
، فقالت الرُّوح: نعم، ومدَّ بها صوته. قال: فأخذتُ له عصًا، وضربتُه بها في عروق عنقه حتَّى مَجِلَتْ
(2)
يداي من الضَّرب، ولم يشكَّ الحاضرون أنَّه يموت بذلك. ففي أثناء الضَّرب قالت: أنا أحبُّه، فقلت لها: هو لا يحبُّك. قالت: أنا أريد أن أحجَّ به، فقلت لها: هو لا يريد أن يحجَّ معك. فقالت
(3)
: أنا أدعه كرامةً لك. قال
(4)
: لا، ولكن طاعةً لله ولرسوله. قالت: فأنا أخرج منه. قال: فقعد المصروع يلتفت يمينًا وشمالًا، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشَّيخ؟ قالوا له: وهذا الضَّرب كلُّه
(5)
؟ فقال: وعلى أيِّ شيءٍ يضربني الشَّيخ ولم أُذنِبْ؟ ولم يشعر بأنَّه وقع به ضربٌ البتَّة.
وكان يعالج بآية الكرسيِّ، ويأمر بكثرة قراءة المصروع ومَن يعالجه
(1)
د: «المصروع» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
كذا مجوَّدًا مضبوطًا في ث. يعني: ثخن جلدها وتقرَّحت وصار بين الجلد واللحم ماء. وفي النسخ الأخرى: «نحلت» و «تخلَّت» ، تصحيف.
(3)
بعده في حط: «له» .
(4)
في ن: «قلت» مكان «قال» . وفي النسخ المطبوعة جمع بينهما.
(5)
«كله» ساقط من د.
لها
(1)
، وبقراءة المعوِّذتين.
وبالجملة، فهذا النَّوع من الصَّرع وعلاجه لا ينكره إلا قليلُ الحظِّ
(2)
من العلم والعقل والمعرفة. وأكثر تسلُّط الأرواح الخبيثة على أهله يكون من جهة قلَّة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذِّكر والتَّعاويذ والتَّحصُّنات النَّبويَّة والإيمانيَّة، فتلقى الرُّوحُ الخبيثةُ الرَّجلَ أعزلَ لا سلاح معه، وربَّما كان عريانًا، فتؤثِّر فيه.
هذا
(3)
، ولو كُشِف الغطاء لرأيت أكثر النُّفوس البشريَّة صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة. وهي في أسرها وقبضتها
(4)
، تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها. وبها الصَّرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة
(5)
، فهناك يتحقَّق أنَّه كان هو المصروع حقيقةً. وباللَّه المستعان
(6)
.
وعلاج هذا الصَّرع باقتران العقل الصَّحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرُّسل، وأن تكون الجنَّة والنَّار نُصْبَ عينيه وقبلةَ قلبِه، ويستحضر أهلَ الدُّنيا
(1)
في ث، ل، ن:«بها» ، وهو تصحيف. ولإصلاح السياق أثبت الفقي «بكثرة قراءتها المصروعَ» وتابعتها طبعة الرسالة.
(2)
س: «هذا النوع
…
القليل الحظ».
(3)
في النسخ المطبوعة جعل «هذا» مع الفقرة السابقة، وذكّر الفعل «يؤثر» من أجله، فانحرف الكلام عن وجهه.
(4)
ف، د، حط، ن:«قبضها» .
(5)
ف، د، س:«المعاتبة» ، تصحيف.
(6)
س، ث، ل:«التوفيق» .
وحلولَ المَثُلات
(1)
والآفات بهم ووقوعَها خلال ديارهم كمواقع القَطْر، وهم صرعى لا يفيقون. وما أشدَّ إعداءَ
(2)
هذا الصَّرع! ولكن لمَّا عمَّت
(3)
البليَّة به بحيث لا يرى إلا مصروعًا لم يصر مستغربًا ولا مستنكرًا، بل صار لكثرة المصروعين المستنكَر المستغرَب خلافه.
فإذا أراد الله بعبد خيرًا أفاق من هذه الصَّرعة، ونظَر إلى أبناء الدُّنيا مطرَّحين
(4)
حوله يمينًا وشمالًا، على اختلاف طبقاتهم. فمنهم من قد أطبق به الجنونُ، ومنهم من يفيق أحيانًا قليلةً ويعود إلى جنونه، ومنهم من يُجَنُّ مرَّةً ويُفيق أخرى؛ فإذا أفاق عمِلَ عملَ أهل الإفاقة والعقل، ثمَّ يعاوده الصَّرع، فيقع التخبيط
(5)
.
فصل
(6)
وأمَّا صَرْع الأخلاط، فهو علَّةٌ تمنع الأعضاء النفيسة
(7)
عن الأفعال
(1)
س: «التلاف» .
(2)
هكذا ضبط في ث من أعداه المرضُ. وقد غيَّره الفقي إلى «داء» وتابعته نشرة الرسالة.
(3)
ث: «دلت» ، وفي ل:«دعت» ، ولعل كليهما تحريف.
(4)
ويجوز: «مطَّرَحين» . وفي النسخ المطبوعة: «مصروعين» .
(5)
هكذا في جميع النسخ. وفي ن غيَّره بعضهم إلى «التخبُّط» ، وكذا في الطبعة الهندية وغيرها.
(6)
كتاب الحموي (ص 98 - 99).
(7)
تقابله الأعضاء الخسيسة. انظر: «الحاوي» (4/ 10، 528)، (7/ 420). وفي ث، ل، ن:«النفسية» ، وكذا في النسخ المطبوعة وفي كتاب الحموي (ص 98) ومصدره «القانون» (2/ 118)، ولعله تصحيف.
والحركة والانتصاب منعًا غير تامٍّ. وسببه خِلْطٌ غليظٌ لَزِجٌ يسُدُّ منافذَ بطون الدِّماغ سدَّةً غير تامَّةٍ، فيمنع نفوذَ الحسِّ والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذًا مَّا
(1)
من غير انقطاعٍ بالكلِّيَّة. وقد يكون لأسبابٍ أُخَر كريحٍ غليظٍ يحتبس في منافذ الرُّوح، أو بخارٍ رديٍّ يرتفع إليه من بعض الأعضاء، أو كيفيَّةٍ لاذعةٍ، فينقبض الدِّماغ لدفع المؤذي، فيتبعه تشنُّجٌ في جميع الأعضاء، ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبًا، بل يسقط، ويظهر في فيه الزَّبد غالبًا.
وهذه العلَّة تُعَدُّ من جملة الأمراض الحادَّة باعتبار وقت وجود المؤلم
(2)
خاصَّةً. وقد تعدُّ من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لا سيَّما إن جاوز في السِّنِّ خمسًا وعشرين سنةً، وهذه العلَّةُ
(3)
في دماغه وخاصَّةً في جوهره، فإنَّ صرع هؤلاء يكون لازمًا. قال أبقراط: إنَّ الصَّرع يبقى فيهم إلى أن يموتوا.
إذا عُرِف هذا، فهذه المرأة الَّتي جاء الحديث أنَّها كانت تُصْرَع وتنكشف يجوز أن يكون صرعها من هذا النَّوع، فوعدها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الجنَّة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها أن لا تنكشف وخيَّرها بين الصَّبر والجنَّة وبين الدُّعاء لها بالشِّفاء من غير ضمانٍ، فاختارت الصَّبر والجنَّة.
وفي ذلك دليلٌ على جواز ترك المعالجة والتَّداوي، وأنَّ علاج الأرواح
(1)
كذا في جميع النسخ، وضُبط في بعضها بتشديد الميم. وفي كتاب الحموي:«نفوذًا تامًّا» ، وكذا في مصدره «القانون» .
(2)
في المطبوع: «وجوده المؤلم» وهو من تصرف طبعة عبد اللطيف. وفي كتاب الحموي: «وجود النوبة» .
(3)
في كتاب الحموي و «القانون» (2/ 122): «
…
سنةً لعلَّةٍ».
والدَّعوات والتَّوجُّه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطبَّاء، وأنَّ تأثيرَه وفعلَه وتأثُّرَ الطَّبيعة عنه وانفعالَها أعظمُ من تأثير الأدوية البدنيَّة وانفعال الطَّبيعة عنها. وقد جرَّبنا هذا مرارًا نحن وغيرنا، وعقلاءُ الأطبَّاء معترفون بأنَّ في فعلِ القوى النَّفسيَّة وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب. وما على الصِّناعة الطِّبِّيَّة أضرُّ من زنادقة القوم وسَفِلتهم وجهَّالهم.
والظَّاهر: أنَّ صرع هذه المرأة كان من هذا النَّوع. ويجوز أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيَّرها بين الصَّبر على ذلك مع الجنَّة، وبين الدُّعاء لها بالشِّفاء، فاختارت الصَّبر والسَّتر. والله أعلم.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج عِرق النَّسا
(1)
روى ابن ماجه في «سننه»
(2)
من حديث محمَّد بن سيرين
(3)
عن
(1)
كتاب الحموي (ص 135 - 136).
(2)
برقم (3463). وأخرجه أيضًا أحمد (13295)، والبزَّار (6797، 6798)، والطَّبراني في «الأوسط» (2067). واختُلف فيه على ابن سيرين. وصحَّحه الحاكم (2/ 293، 4/ 206، 408)، والضياء في «المختارة» (1554 - 1556)، والبوصيريُّ في «المصباح» (4/ 60)، وهو في «السلسلة الصحيحة» (1899). وينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (2264، 2536)، وللدَّارقطني (2340). وفي الباب عن ابن عبَّاس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
(3)
كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة، وهو وهم، والصواب:«أنس بن سيرين» . ومنشأ الوهم أن في مصدر المصنف: «ابن سيرين» ، فأراد أن يذكر اسمه فخُيِّل إليه أنه محمد أخو أنس. انظر مثل هذا الوهم في «أعلام الموقعين» (1/ 117، 124، 158، 182).
أنس بن مالكٍ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دواءُ عِرق النَّسا أَلْيةُ شاةٍ أعرابيَّةٍ تذاب، ثمُّ تجزَّأ ثلاثة أجزاءٍ، ثمَّ يُشْرَب على الرِّيق في كلِّ يومٍ جزءٌ» .
عِرْق النَّساء: وجعٌ يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلفٍ على الفخذ وربَّما امتدَّ على الكعب
(1)
. وكلَّما طالت مدَّته زاد نزوله، وتهزل معه الرِّجل والفخذ
(2)
.
وهذا الحديث فيه معنًى لغويٌّ، ومعنًى طبِّيٌّ. فأمَّا اللُّغويُّ، فدليلٌ على جواز تسمية هذا المرض بعرق النَّسا خلافًا لمن منع هذه التَّسمية وقال: النَّسا هو العرق نفسه، فيكون من باب إضافة الشَّيء إلى نفسه، وهو ممتنعٌ. وجواب هذا القائل من وجهين:
أحدهما: أنَّ العرق أعمُّ من النَّسا، فهو من باب إضافة العامِّ إلى الخاصِّ نحو: كلُّ الدَّراهم أو بعضها
(3)
.
الثَّاني: أنَّ النَّسا هو المرض الحالُّ بالعِرْق، والإضافة فيه من باب إضافة
(1)
س، ث، ل:«إلى الكعب» ، ولعله إصلاح من بعض النساخ، فإن المثبت من غيرها موافق لما في مصدر النقل.
(2)
أخذ الحموي هذا التعريف لعرق النسا من «القانون» (2/ 824).
(3)
ونحو علم الطب، وكتاب «القانون» . وهذا الوجه ساقط من كتاب الحموي. ولا أدري ممن نقل الوجهين، فإن الموفَّق في «الأربعين الطبية» (ص 115) ــ وعنه صدر الحموي في ذكر المعنيين ــ اكتفى بالاستدلال بالحديث على جواز التسمية. وقال ابن بري كما في «اللسان» (15/ 322 - نسا): فإذا ثبت أنه مسموع فلا وجه لإنكار قولهم عرق النسا. ويكون من باب إضافة المسمى إلى اسمه. وقال فروة بن مُسَيك:
لما رأيتُ ملوكَ كندةَ أعرضَتْ
…
كالرِّجل خان الرِّجْلَ عِرقُ نسائها
الشَّيء إلى محلِّه وموضعه
(1)
. قيل: وسمِّي بذلك، لأنَّ ألمه يُنسي ما سواه.
وهذا العرق ممتدٌّ من مفصل الورك، وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشيِّ فيما بين عظم السَّاق والوتر.
وأمَّا المعنى الطِّبِّيُّ، فقد تقدَّم أنَّ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم نوعان:
أحدهما: عامٌّ بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال.
والثَّاني: خاصٌّ بحسب هذه الأمور أو بعضها. وهذا من هذا القسم فإنَّ هذا خطابٌ للعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم ولا سيَّما أعراب البوادي فإنَّ هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، فإنَّ هذا المرض يحدُث من يُبْسٍ، وقد يحدُث من مادَّةٍ غليظةٍ لزجةٍ؛ فعلاجُها بالإسهال. والألْيةُ فيها الخاصَّتان
(2)
: الإنضاج والتَّليين؛ ففيها الإنضاج
(3)
والإخراج، وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين. وفي تعيين الشَّاة الأعرابيَّة قلَّةُ فضولها، وصغرُ مقدارها، ولطفُ جوهرها، وخاصِّيَّة مرعاها لأنَّها ترعى أعشاب البرِّ الحارَّة كالشِّيح والقَيصُوم ونحوهما
(4)
. وهذه النَّباتات إذا تغذَّى بها الحيوان صار
(1)
في كتاب الحموي: «فيكون من باب إضافة الشيء إلى غيره» ، إذ المرض غير العرق. وقد تصرَّف المؤلف في كلامه، فقلب معناه، فإنَّ الإضافة في هذا الوجه تكون إضافة المحلِّ وهو العرق إلى حالِّه وهو النَّسا، لا إضافة الحالِّ إلى المحلِّ كما ذكر. وهذا الوجه مع ما بعده من سبب تسمية المرض بالنسا ليس شيئًا، فإن النَّسا في كلام العرب اسم العرق، لا اسم المرض. وقولهم:«عرق النسا» للمرض من باب الإيجاز.
(2)
ث، حط:«الخاصيتان» .
(3)
«ففيها الإنضاج» ساقط من د.
(4)
هذا كله بسطٌ لكلام الموفق في «الأربعين الطبية» الذي نقله الحموي بنصه.
في لحمه من طبعها
(1)
، بعد أن يلطِّفها تغذِّيه بها ويُكسِبَها مزاجًا ألطفَ منها، ولا سيَّما الألْية. وظهورُ فعل هذه النَّباتات في اللَّبن أقوى منه في اللَّحم ولكنَّ الخاصَّة
(2)
الَّتي في الألية من الإنضاج والتَّليين لا توجد في اللَّبن.
وهذا مما تقدَّم أنَّ أدوية غالب الأمم والبوادي بالأدوية
(3)
المفردة، وعليه أطبَّاء الهند. وأمَّا الرُّوم واليونان فيعتنون بالمركَّبة. وهم متَّفقون كلُّهم على أنَّ من سعادة الطَّبيب أن يداوي بالغذاء فإن عجز فبالمفرد فإن عجز فبما كان أقلَّ تركيبًا.
وقد تقدَّم أنَّ غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة فالأدوية البسيطة تناسبها، وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب. وأمَّا الأمراض المركَّبة فغالبُها
(4)
يحدث عن تركيب الأغذية وتنوُّعها واختلافها، فاختيرت لها الأدوية المركَّبة. والله أعلم.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج يُبْس الطَّبع واحتياجه إلى ما يمشِّيه ويليِّنه
(5)
روى الترمذي في «جامعه» وابن ماجه في «سننه»
(6)
من حديث أسماء
(1)
ز: «لحمها من طبعه» ، وهو خطأ.
(2)
ث، حط:«الخاصية» .
(3)
كذا في جميع النسخ الخطية والطبعات القديمة، كأنه قال: «تداوي غالب الأمم
…
». وقد أصلح الفقي العبارة بتغيير «بالأدوية» إلى «هي الأدوية» ، وكذا في نشرة الرسالة.
(4)
ث، ل:«فغالبًا» .
(5)
كتاب الحموي (ص 137 - 142).
(6)
«جامع التِّرمذي» (2081)، «سنن ابن ماجه» (3461). وأخرجه أيضًا أحمد (27080)، والطَّبراني في «الكبير» (24/ 154، 155)، وأبو نعيم في «الطِّب النَّبوي» (175، 404، 614). قال التِّرمذي: «هذا حديث حسن غريب» ، وصحَّحه الحاكم (4/ 201، 404)، لكن فيه عبد الحميد بن جعفر اختَلَفوا فيه، واختُلف عليه في إسناده، وقال الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (4/ 408):«في إسناده جهالة وانقطاع» . وفي الباب عن أنس وابن أمِّ حرام وأمِّ سلمة رضي الله عنهم.
بنت عُمَيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بماذا كنت تستمشين؟» . قالت: بالشُّبْرُم. قال: «حارٌّ جارٌّ» . ثم قالت: استمشيتُ بالسَّنا، فقال:«لو كان شيءٌ يشفي من الموت كان السَّنا» .
وفي «سنن ابن ماجه»
(1)
عن إبراهيم بن أبي عَبْلة قال: سمعتُ عبد الله بن أمِّ حرام
(2)
، وكان ممَّن صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بالسَّنا والسَّنُّوت، فإنَّ فيهما شفاءً من كلِّ داءٍ إلا السَّام» . قيل يا رسول اللَّه! وما السَّام؟ قال: «الموت» .
قوله: «بِمَ تستمشين
(3)
؟» أي تليِّنين الطَّبع حتَّى يمشيَ، ولا يصير بمنزلة
(1)
برقم (3457). وأخرجه أيضًا الطَّبراني في «مسند الشَّاميِّين» (14). وصحَّحه الحاكم (4/ 201)، وتُعُقِّب بأنَّ فيه عمرو بن بكر السَّكسكي وهو متروك. وقد ضعَّف إسنادَه البوصيريُّ في «المصباح» (4/ 58). لكنَّ عمرًا لم يتفرَّد به، فقد أخرجه أبو نعيم في «الطِّب النَّبوي» (177، 613) وغيرُه من طريق شدَّاد بن عبد الرَّحمن الأنصاريِّ وعمرو بن بكر السَّكسكي، عن ابن أبي عبلة به. وهو في «السلسلة الصحيحة» (1798). وفي الباب عن أنس وأسماء بنت عميس وأمِّ سلمة رضي الله عنهم.
(2)
في «السُّنن» : «سمعتُ أبا أُبَيِّ ابن أمِّ حرام» ، وأبو أُبَيّ كنية عبد الله. والمصنف في ذكر اسمه تابعَ الحمويَّ، والحمويُّ تابع الموفقَ عبد اللطيف في «الأربعين الطبية» (ص 112).
(3)
هذا لفظ الترمذي.
الواقف، فيؤذي باحتباس النَّجْو. ولهذا سمِّي الدَّواء المُسْهِل «مَشِيًّا»
(1)
على وزن فعيلٍ. وقيل: لأنَّ المسهول يكثر المشي والاختلاف للحاجة. وقد روي: «بماذا الذي تستشفين
(2)
؟» فقالت: بالشُّبْرُمِ.
وهو من جملة الأدوية اليَتُوعيِّة
(3)
. وهو قشر عِرْقِ شجرةٍ. وهو حارٌّ يابسٌ في الدَّرجة الرَّابعة. وأجوده المائل إلى الحمرة الخفيف الرَّقيق الذي يشبه الجلد الملفوف. وبالجملة فهو من الأدوية الَّتي أوصى الأطبَّاء بترك استعمالها لخطرها وفرط إسهالها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «حارٌّ جارٌّ» ، ويروى:«حارٌّ يارٌّ» . قال أبو عبيد
(4)
: وأكثر كلامهم بالياء. قلت: وفيه قولان، أحدهما: أنَّ «الجارَّ»
(5)
بالجيم: الشَّديد الإسهال. فوصفه بالحرارة وشدِّة الإسهال، وكذلك هو. قاله أبو حنيفة
(1)
ويسمَّى أيضًا: مَشُوًّا، ومَشَاءً.
(2)
كذا في جميع النسخ. وفي الطبعات القديمة: «بما الذي
…
». وفي طبعة الرسالة: «بماذا تستشفين» وهو الوجه، ولفظ «الذي» مقحم. وقد ذكر هذه الرواية الحموي في كتابه (ص 140) ولم أجد هذه الرواية، إلا أن يكون قصد ما جاء في بعض نسخ «مسند أحمد» في الحديث (27080).
(3)
د: «الشرعية» . وفي س: «النوعية» . وفي حط: «تنوعة» ، وكل ذلك تصحيف. واليتُوع واليتُّوع: كلُّ نبات له لبنٌ مسهل محرق مقطِّع، والمشهور منه سبعة، منها الشُّبْرُم والعُشَر واللاعية، وكلها قتَّالة. قاله صاحب «القانون» (1/ 512). وانظر:«الصيدنة» للبيروني (ص 637) و «المعتمد» للملك المظفر (ص 553) و «تاج العروس» (توع، يتع).
(4)
في «غريب الحديث» (2/ 141).
(5)
س، ث، ل:«الحار الجار» ، وكذا النسخ المطبوعة.
الدِّينوريُّ
(1)
.
والثَّاني ــ وهو الصَّواب ــ أنَّ هذا من الإتباع الذي يُقصَد به تأكيد الأوَّل، ويكون بين التَّأكيد اللَّفظيِّ والمعنويِّ، ولهذا يراعون فيه إتباعه في أكثر حروفه كقولهم: حسَنٌ بسَنٌ، أي كامل الحسن؛ وكقولهم: حسَنٌ قسَنٌ بالقاف. ومنه شيطانٌ ليطان، وحارٌّ جارٌّ؛ مع أنَّ في الجارّ معنًى آخر، وهو الذي يجرُّ الشَّيء الذي يصيبه من شدَّة حرارته وحرقه
(2)
له كأنَّه ينزعه ويسلخه. و «يارٌّ» إمَّا لغةٌ في «جارٍّ» كقولهم: صِهْريٌّ وصِهْريجٌ، والصَّهاري والصَّهاريج؛ وإمَّا إتباع مستقلٌّ
(3)
.
وأمَّا السَّنا، ففيه لغتان: المدُّ والقصر. وهو نبتٌ حجازيٌّ أفضله المكِّيُّ. وهو دواءٌ شريفٌ مأمون الغائلة، قريبٌ من الاعتدال، حارٌّ يابسٌ في الدَّرجة الأولى. يسهل الصَّفراء والسَّوداء، ويقوِّي جِرْمَ القلب، وهذه فضيلةٌ شريفةٌ فيه. وخاصَّتُه النَّفع من الوسواس السَّوداويِّ، ومن الشُّقاق العارض في البدن، وتفتُّح
(4)
العَضَل وانتشارِ
(5)
الشَّعر، ومن القَمْل والصُّداع العتيق
(1)
قول أبي حنيفة في كتاب الحموي: «الجارُّ بالجيم: الشديد الإسهال» .
(2)
في جميع النسخ: «وحدته» ، ولعله تصحيف ما أثبت. وفي النسخ المطبوعة:«وجذيه» . ولا يوجد هذا اللفظ «وحرقه له» في كتاب الحموي ولا «أمالي القالي» .
(3)
معنى «الجارّ» إلى هنا نقله الحموي من «أمالي القالي» (2/ 213).
(4)
كذا في جميع النسخ ومخطوطة كتاب الحموي. والظاهر أنه تصحيف «تشنُّج» ، كما في «الأربعين الطبية» (ص 113) ــ وهو مصدر الحموي ــ و «مفردات ابن البيطار» (2/ 36)، و «شفاء الآلام» للسرّمرِّي (ق 102/ب).
(5)
كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة ومخطوطة كتاب الحموي. والأشبه: «انتثار» بالثاء كما في كتابي الموفق وابن البيطار.
والجرَب والبثور والحِكَّة والصَّرع. وشربُ مائه مطبوخًا أصلَحُ من شربه مدقوقًا. ومقدار الشَّربة منه إلى ثلاثة دراهم، ومن مائه إلى خمسة دراهم. وإن طُبِخ معه شيءٌ من زهر البنفسج والزَّبيب الأحمر المنزوع العَجَم كان أصلح.
قال الرَّازيُّ: السَّنا والشَّاهْتَرَج يسهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب والحكَّة. والشَّربةُ من كلِّ واحدٍ منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم
(1)
.
وأمَّا السَّنُّوت، ففيه ثمانية أقوالٍ:
أحدها: أنَّه العسل.
والثَّاني: أنَّه رُبُّ عُكَّة السَّمْن يخرج خُطَطًا
(2)
سُودًا على السَّمن. حكاهما عمرو بن بكر السَّكْسكي
(3)
.
الثَّالث: أنَّه حبٌّ يشبه الكمُّون، وليس به. قاله ابن الأعرابيِّ
(4)
.
الرَّابع: أنَّه الكمُّون الكَرْمانيُّ.
(1)
لم أقف على المصدر الذي نقل منه الحموي قول الرازي هذا.
(2)
كذا في النسخ ومخطوطة كتاب الحموي. ولفظ الموفَّق في «الأربعين الطبية» : «عكة السمن تُعصَر، فيخرج منها خطوط سود مع السمن» .
(3)
كذا قال الحموي وهو وهمٌ، فإن السَّكسكي نقل عن ابن أبي عبلة أنه الشبت، ثم قال: وقال آخرون: بل هو العسل الذي يكون في زقاق السمن. وذلك عقب الحديث في «سنن ابن ماجه» . فالسكسكي إذن حكى القولين السادس والثامن.
(4)
انظر: «الصيدنة» (ص 543) و «المحكم» لابن سيده (8/ 308).
الخامس: أنَّه الرَّازِيانَج. حكاهما أبو حنيفة الدِّينَوريُّ عن بعض الأعراب
(1)
.
السَّادس: أنَّه الشِّبِتُّ
(2)
.
السَّابع: أنَّه التَّمر
(3)
. حكاهما أبو بكر بن السُّنِّيِّ الحافظ.
الثَّامن: أنَّه العسل الذي يكون في زِقاق السَّمن. حكاه عبد اللطيف البغدادي
(4)
. قال بعض الأطبَّاء
(5)
: وهذا أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصَّواب. أي يُخلَط السَّنا مدقوقًا بالعسل المخالِط للسَّمن ثمَّ يُلعَق، فيكون أصلح من استعماله مفردًا، لما في العسل والسَّمن من إصلاحِ السَّنا وإعانتِه على الإسهال
(6)
. والله أعلم.
(1)
انظر: «الصيدنة» (ص 543).
(2)
ذكره أبو حنيفة وقال: زعم بعض الرواة أنه السنوت. انظر: «المحكم» (8/ 309).
(3)
انظر: «الطب النبوي» لأبي نعيم (2/ 585). وفي «العباب» للصغاني (1/ 635 - ط باكستان): «نوع من التمر» .
(4)
في «الأربعين الطبيَّة» (ص 113). وقد ذكر الصغاني في «العباب» من معاني السنوت: الزبد والجبن أيضًا.
(5)
هو ابن طرخان الحموي، في كتابه (ص 141). وهو صادر عن كتاب الموفق عبد اللطيف البغدادي، ونص كلامه:«وهو أشبه بالموضع وأليق لممازجته للسنا وكمال منفعته. وكونُ العسل في زقاق السمن، فيمكن أن يقصد بذلك ما يُكسبه من الرطوبة والرصانة، فيعتدل يبسه، ويقوى إنضاجه، ويقرب إلى طبيعة الغذاء. وإذا خُلِط بطبيخ أحسن صلاحَه، وكان نظير ما نعلمه اليوم من السكّر ودهن اللوز مع طبخ السنا» (ص 113 - 114).
(6)
من هنا إلى آخر الفصل ساقط من د.
وقد روى الترمذي
(1)
وغيره من حديث ابن عبَّاسٍ يرفعه: «إنَّ خير ما تداويتم به: السَّعوط، واللَّدود، والحجامة، والمَشِيُّ» . المشيُّ هو الذي يمشِّي الطَّبع، ويليِّنه، ويسهِّل خروج الخارج.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حِكَّة الجسم وما يولِّد القَمْل
في «الصَّحيحين»
(2)
من حديث قتادة عن أنس بن مالكٍ قال: رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرَّحمن بن عوفٍ والزُّبير بن العوَّام رضي الله عنهما في لُبْسِ الحرير لحِكَّةٍ كانت بهما.
وفي روايةٍ
(3)
: أنَّ عبد الرَّحمن بن عوفٍ والزُّبير بن العوَّام رضي الله عنهما شَكَوَا القَمْلَ إلى النَّبيِّ
(4)
صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ لهما، فرخَّص لهما في قُمُص الحرير، ورأيته عليهما.
هذا الحديث يتعلَّق به أمران أحدهما فقهيٌّ، والآخر طبِّيٌّ.
فأمَّا الفقهيُّ، فالَّذي استقرَّت عليه سنَّته صلى الله عليه وسلم: إباحة الحرير للنِّساء مطلقًا، وتحريمه على الرِّجال إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحةٍ. فالحاجة إمَّا من شدَّة البرد ولا يجد غيره، أو لا يجد سترةً سواه. ومنها: لباسه للحرب
(5)
(1)
برقم (2053)، وقد تقدَّم تخريجه، وأنَّ إسناده ضعيفٌ جدًّا.
(2)
البخاري (5839) ومسلم (2076).
(3)
أخرجها الترمذي (1722).
(4)
د، ث:«رسول الله» .
(5)
في النسخ المطبوعة: «للجرب» بالجيم، تصحيف.
والمرض والحِكَّة وكثرة القَمْل، كما دلَّ عليه حديث أنس هذا الصَّحيح.
والجواز أصحُّ الرّوايتين عن الإمام أحمد، وأصحُّ قولي الشَّافعيِّ
(1)
؛ إذ الأصل عدم التَّخصيص. والرُّخصة إذا ثبتت في حقِّ بعض الأمَّة لمعنًى تعدَّت إلى كلِّ من وُجِد فيه ذلك المعنى، إذ الحكم يعمُّ بعموم سببه.
ومن منع منه قال: أحاديث التَّحريم عامَّةٌ، وأحاديثُ الرُّخصة يحتمل اختصاصها بعبد الرَّحمن والزبير، ويحتمل تعدِّيها إلى غيرهما. وإذا احتمل الأمران كان الأخذ بالعموم أولى. ولهذا قال بعض الرُّواة في هذا الحديث
(2)
: فلا أدري أبلغت الرُّخصةُ لغيرهما أم لا؟
والصَّحيح عموم الرُّخصة، فإنَّه عرفُ خطاب الشَّرع في ذلك، ما لم يصرِّح بالتَّخصيصِ وعدمِ إلحاق غيرِ مَن رخَّص له أوَّلًا
(3)
به، كقوله لأبي بردة:«تَجزيك ولن تَجزي عن أحدٍ بعدك»
(4)
، وكقوله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في نكاح من وهبت نفسها له:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
وتحريم الحرير إنَّما كان سدًّا للذَّريعة، ولهذا أبيح للنِّساء وللحاجة
(1)
انظر: «المغني» (2/ 306) و «المجموع» (4/ 440) و «مجموع الفتاوى» (21/ 82) و (24/ 276).
(2)
لم أقف على هذا القول في هذا الحديث. وأخشى أن يكون المقصود قول أنس في حديث أبي بردة بن نيار الآتي ذكره: «لا أدري أبلغت الرخصة غيرَه أم لا» كما في «صحيح البخاري» (6673). وقد ورد فيه التخصيص في رواية أخرى كما ذكر المصنف في الفقرة الآتية.
(3)
د، حط، ل، ن:«أولى» .
(4)
من حديث البراء، أخرجه البخاري (5545) ومسلم (1961) بنحوه.
وللمصلحة
(1)
الرَّاجحة. وهذه قاعدة ما حُرِّم لسدِّ الذَّرائع: أنَّه يباح عند الحاجة والمصلحة الرَّاجحة، كما حُرِّم النَّظر سدًّا لذريعة الفعل، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الرَّاجحة. وكما حُرِّم التَّنفُّل بالصَّلاة في أوقات النَّهي سدًّا لذريعة المشابهة الصُّوريِّة بعبَّاد الشَّمس، وأبيحت للمصلحة الرَّاجحة. وكما حُرِّم ربا الفضل سدًّا لذريعة ربا النَّسيئة، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا
(2)
. وقد أشبعنا الكلام فيما يحلُّ ويحرم من لباس الحرير في كتاب «التَّحبير
(3)
بما يحلُّ ويحرم من لباس الحرير»
(4)
.
فصل
(5)
وأمَّا الأمر الطِّبِّيُّ، فهو أنَّ الحرير من الأدوية المتَّخذة من الحيوان، ولذلك يعدُّ في الأدوية الحيوانيَّة لأنَّ مخرجه من الحيوان. وهو كثير المنافع جليل الموقع. ومن خاصَّته
(6)
تقوية القلب، وتفريحُه، والنَّفعُ من كثيرٍ من أمراضه ومن غلبة المِرَّة السَّوداء والأدواء الحادثة عنها. وهو مقوٍّ للبصر إذا اكتحل به. والخام منه ــ وهو المستعمل في صناعة الطِّبِّ ــ حارٌّ يابسٌ في الدَّرجة الأولى. وقيل: حارٌّ رطبٌ فيها. وقيل: معتدلٌ. وإذا اتُّخذ منه ملبوسٌ
(1)
د، حط، ن:«والمصلحة» .
(2)
انظر: «أعلام الموقعين» (2/ 483 - 486).
(3)
د: «التخيير» . وذكر في هامش الطبعة الهندية أن في نسخة: «التحرير» وكذلك وقع في «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (5/ 176) ..
(4)
وقد أشار المؤلف إلى هذا الكتاب من قبل (3/ 608) أيضًا.
(5)
كتاب الحموي (ص 142 - 144).
(6)
حط، ن:«خاصيته» .
كان معتدل الحرارة في مزاجه، مسخِّنًا للبدن
(1)
، وربَّما برَّد البدنَ بتسمينه إيَّاه.
قال الرَّازيُّ
(2)
: الإبريسَم أسخن من الكتَّان، وأبرد من القطن، يربِّي اللَّحم. وكلُّ لباسٍ خشنٍ فإنَّه يهزُل ويصلِّب البشرةَ، وبالعكس.
قلت: والملابس ثلاثة أقسامٍ: قسمٌ يسخِّن البدن ويدفِّئه، وقسمٌ يدفِّئه ولا يسخِّنه، وقسمٌ لا يسخِّنه ولا يدفِّئه. وليس هناك ما يسخِّنه ولا يدفِّئه، إذ ما يسخِّنه فهو أولى بتدفئته. فملابس الأوبار والأصواف تسخِّن وتدفِّئ، وملابس الكتَّان والحرير والقطن تدفِّئ ولا تسخِّن. فثياب الكتَّان باردةٌ يابسةٌ، وثياب الصُّوف حارةٌ يابسةٌ، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من القطن وأقلُّ حرارةً منه.
قال صاحب «المنهاج»
(3)
: ولبسُه لا يسخِّن كالقطن، بل هو معتدلٌ.
وكلُّ لباسٍ أملس صقيلٍ فإنَّه أقلُّ إسخانًا للبدن، وأقلُّ عونًا في تحلُّلِ ما يتحلَّل منه، وأحرى أن يُلبَس في الصَّيف وفي البلاد الحارَّة. ولمَّا كانت ثياب
(1)
كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة غير أن ناسخ ف كتب بعده: «ليس بمسخِّن له» ، ثم ضُرب عليه لأنه ضدُّ قوله:«مسخنًا للبدن» . والحق أن «مسخِّنًا» ، تصحيف «مسمِّنًا» ، والجملة المضروب عليها واقعة في محلِّها، كما في كتاب الحموي، والنقل منه بنصِّه.
(2)
لم أقف على المصدر الذي نقل منه الحموي قول الرازي.
(3)
هو ابن جزلة البغدادي (ت 493). انظر كتابه «منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان» (ص 115).
الحرير كذلك، وليس فيها شيءٌ من اليبس والخشونة الكائن
(1)
في غيرها صارت نافعةً من الحِكَّة، إذ الحِكَّة لا تكون إلا عن حرارةٍ ويبسٍ وخشونةٍ. فلذلك رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير لمداواة الحِكَّة. وثياب الحرير أبعد عن قبول تولُّد القَمْل فيها، إذ كان مزاجها مخالفًا لمزاج ما يتولَّد منه القمل.
وأمَّا القسم الذي لا يدفِّئ ولا يسخِّن، فالمتَّخَذ من الحديد والرَّصاص والخشب والتُّراب ونحوها.
فإن قيل: فإذا كان لباس الحرير أعدل اللِّباس وأوفقه للبدن، فلماذا حرَّمته الشَّريعة الكاملة الفاضلة الَّتي أباحت الطَّيِّبات وحرَّمت الخبائث؟
قيل: هذا السُّؤال يجيب عنه كلُّ طائفةٍ من طوائف المسلمين بجوابٍ. فمنكِرو الحِكَم والتَّعليل لما رفَعَتْ قاعدةَ التَّعليل من أصلها لم تحتَجْ إلى جوابٍ عن هذا السُّؤال.
ومثبتو التَّعليل والحكمة ــ وهم الأكثرون ــ منهم من يجيب عن هذا بأنَّ الشَّريعة حرَّمته لتصبِر النُّفوسُ عنه وتتركَه لله، فتثاب على ذلك، لا سيِّما ولها عوضٌ عنه بغيره. ومنهم من يجيب عنه بأنَّه خُلِق في الأصل للنِّساء كالحلية بالذَّهب، فحرِّم على الرِّجال لما فيه من مفسدة تشبُّه الرِّجال بالنِّساء. ومنهم من قال: حُرِّم لما يورثه من الفخر والخيلاء والعجب.
(1)
كذا في جميع النسخ إلا حط التي فيها: «الكائنة» ، وكذا في مخطوطة كتاب الحموي (ق 36/ب). وفي النسخ المطبوعة:«الكائنين» ، ولعله إصلاح من بعض النساخ أو الناشرين.
ومنهم من قال: حُرِّم لما يورثه ملابستُه للبدن من الأنوثية والتخنيث وضدِّ الشَّهامة والرُّجوليَّة، فإنَّ لبسه يُكسِبُ القلبَ صفةً من صفات الإناث. ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنيث والتأنيث والرَّخاوة ما لا يخفى؛ حتَّى لو كان من أشهم النَّاس وأكثرهم فحوليَّةً ورجوليَّةً، فلا بدَّ أن ينقصه لبسُ الحرير منها وإن لم يُذْهِبها. ومن غلُظَت طباعُه وكثُفَت عن فهم هذا فليسلِّم للشَّارع الحكيم. ولهذا كان أصحُّ القولين: أنَّه يحرم على الوليِّ أن يُلبسه الصَّبيَّ لما ينشأ عليه من صفات أهل التَّأنيث
(1)
.
وقد روى النَّسائيُّ
(2)
من حديث أبي موسى الأشعريِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إنَّ الله أحلَّ لإناث أمَّتي الحرير والذَّهب، وحرَّمه على ذكورها» . وفي لفظٍ: «حرَّم لباس الحرير والذَّهب على ذكور أمَّتي، وأحلَّ لإناثهم»
(3)
.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(4)
عن حذيفة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لُبْس
(1)
انظر: «تحفة المودود» (ص 352 - 353).
(2)
برقم (5148، 5265) من طريق سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى رضي الله عنه به. وأخرجه أيضًا أحمد (19515، 19645)، والتِّرمذيُّ (1720) وقال:«حسنٌ صحيح» ، وتُعُقِّب بأنَّ سعيدًا لم يسمع من أبي موسى رضي الله عنه شيئًا. وقد اختُلِف في إسناده، فأخرجه أحمد (19502، 19503، 19507) وغيرُه عن سعيد بن أبي هند، عن رجلٍ، عن أبي موسى رضي الله عنه. وللحديثِ شواهدُ كثيرةٌ يصحُّ بها، بل عدَّ بعضُهم نهيَ الذُّكور عن الذَّهب والحرير من المتواتر. ويُنظَر:«نصب الرَّاية» (4/ 222 - 225)، و «الإرواء» (277).
(3)
هذا اللَّفظ عند التِّرمذيِّ (1720).
(4)
برقم (5426، 5837). وأخرجه مسلم (2067) دون ذكر الجلوس عليه. والمؤلف صادر عن كتاب الحموي.
الحرير والدِّيباج، وأن نجلِس عليه، وقال:«هو لهم في الدُّنيا، ولكم في الآخرة» .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج ذات الجنب
(1)
روى الترمذي في «جامعه»
(2)
من حديث زيد بن أرقم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «تداوَوا من ذات الجنب بالقُسْط البحريِّ والزَّيت»
(3)
.
ذات الجنب عند الأطبَّاء
(4)
نوعان: حقيقيٌّ، وغير حقيقيٍّ. فالحقيقيُّ: ورمٌ حارٌّ يعرض في الغشاء المستبطِن للأضلاع. وغير الحقيقيِّ: ألمٌ يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياحٍ غليظةٍ مؤذيةٍ تحتقن بين الصَّفاقات، فتُحدِث وجعًا قريبًا من وجع ذات الجنب الحقيقيِّ، إلا أنَّ الوجع في هذا
(1)
كتاب الحموي (ص 145 - 147، 108 - 111).
(2)
برقم (2079) وقال: «هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلَّا من حديث ميمون عن زيد بن أرقم
…
ميمون شيخٌ بصريٌّ». وأخرجه أيضًا النَّسائيُّ في «الكبرى» (7544، 7545)، وابن ماجه (3467)، وأحمد (19289، 19327)، والبزَّار (4328)، والطَّبراني في «الأوسط» (2560)، وغيرهم. وصحَّحه الحاكم (4/ 202، 405، 406)، وتُعُقِّب بأنَّ ميمونًا ضعيفٌ، وهو في «السِّلسلة الضَّعيفة» (3396).
(3)
هذا لفظ الطبراني والحاكم. ولفظ الترمذي: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتداوى من
…
»، والحموي بعدما أورد الحديث قال:«أخرجه الترمذي وغيره» ، فلم يعز اللفظ المذكور إلى الترمذي وحده كما فعل المؤلف.
(4)
الكلام الآتي للحموي.
القسم ممدودٌ، وفي الحقيقيِّ ناخسٌ
(1)
.
قال صاحب «القانون»
(2)
: قد يعرض في الجنب
(3)
والصَّفَاقات والعَضَل الَّتي في الصَّدر
(4)
والأضلاع ونواحيها أورامٌ مؤذيةٌ جدًّا موجِعةٌ تسمَّى شَوْصَةً وبِرسامًا وذات الجنب. وقد تكون أيضًا أوجاعًا في هذه الأعضاء ليست من ورمٍ، ولكن من رياحٍ غليظةٍ، فيظنُّ أنَّها من هذه العلَّة، ولا تكون.
قال
(5)
: واعلم أنَّ كلَّ وجعٍ في الجنب قد يسمَّى «ذات الجنب» اشتقاقًا من مكان الألم، لأنَّ معنى ذات الجنب: صاحبة الجنب. والغرض به هاهنا وجعُ الجنب، فإذا عرض في الجنب ألمٌ عن أيِّ سببٍ كان نُسِب إليه. وعليه حُمِل كلامُ بقراط
(6)
في قوله: إنَّ أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمَّام. قيل: المراد به كلُّ من به وجعُ جنبٍ أو وجعُ رئةٍ من سوء مزاجٍ، أو من أخلاطٍ غليظةٍ أو لذَّاعةٍ، من غير ورمٍ ولا حمَّى.
(1)
حط: «فاحش» ، تصحيف فاحش. وهو ساقط من ل. وفيها وفي ف، ث:«ممدود في الحقيقي» بسقوط الواو بعد «ممدود» .
(2)
في «القانون» (2/ 340 - 341).
(3)
كذا في النسخ وكتاب الحموي. وفي «القانون» : «الحُجُب» .
(4)
ما عدا ف، د:«الصدور» . والمثبت موافق لما في كتاب الحموي و «القانون» .
(5)
الكلام الآتي للحموي، لا لصاحب «القانون» كما توهم المؤلف.
(6)
د، ث، ل:««أبقراط» . وقد نقل الرازي (2/ 106) قول بقراط من كتاب «الحمام» لحنين، والتفسير المذكور لقوله ذكره الحموي عن موسى بن ميمون القرطبي.
قال بعض الأطبَّاء
(1)
: وأمَّا معنى ذات الجنب في لغة اليونان، فهو ورم الجنب الحارُّ. وكذلك ورم كلِّ واحدٍ من الأعضاء
(2)
الباطنة. وإنَّما سمِّي ذاتَ الجنب ورمُ ذلك العضو إذا كان ورمًا حارًّا فقط.
ويلزم ذاتَ الجنب الحقيقيِّ خمسة أعراضٍ، وهي: الحمَّى، والسُّعال، والوجع النَّاخس، وضيق النَّفَس، والنَّبض المنشاريُّ
(3)
.
والعلاج الموجود في الحديث ليس هو لهذا القسم لكن للقسم الثَّاني الكائن عن الرِّيح الغليظة، فإنَّ القُسْط البحريَّ ــ وهو العود الهنديُّ على ما جاء مفسَّرًا في أحاديث أُخَر ــ صنفٌ من القُسْط إذا دُقَّ ناعمًا، وخُلِط بالزَّيت المسخَّن، ودُلِك به مكانُ الرِّيح المذكور أو لُعِقَ= كان دواءً موافقًا لذلك، نافعًا له، محلِّلًا لمادَّته، مُذْهِبًا لها، مقوِّيًا للأعضاء الباطنة، مفتِّحًا للسُّدَد. والعودُ المذكور في منافعه كذلك. قال المسيحي
(4)
: العود حارٌّ يابسٌ قابضٌ
(1)
هو الحموي.
(2)
لفظ: «الأعضاء» ساقط من د.
(3)
انظر: «الحاوي» (2/ 114). والنبض المنشاري: نبض سريع متواتر صلب مختلف الأجزاء في عظم الانبساط والصلابة واللين. «القانون» (1/ 173).
(4)
كذا في جميع النسخ والطبعات القديمة. وفي مخطوطة كتاب الحموي (ق 38/أ): «مسيح» ، وهو الصواب. اسمه عيسى بن الحكم الدمشقي، كان حيًّا سنة 225 هـ. قال ابن أبي أصيبعة:«وهو المشهور بمسيح، وهو صاحب الكناش الكبير الذي يُعرف به وينسب إليه» . «عيون الأنباء» (2/ 30). وقد نقل منه الرازي كثيرًا، وابن سينا والبيروني في «الصيدنة» وابن البيطار في «المفردات». وفي طبعة الرسالة:«المسبحي» بالباء تبعًا للفقي الذي ضبطه بتشديد الباء المكسورة، ولكن الغريب أنها ترجمت له بأنه عيسى بن يحيى الجرجاني أبو سهل المتوفى سنة 390. وهذا يعني أنها ترجمت للمسيحي لأن أبا سهل هذا كان يقال له «المسيحي». ولكن لم يكن هو وحده مسيحيًّا، فإن منهم أبا الخير المسيحي، وأبا نصر ابن المسيحي، وأبا الفرج المسيحي. ولا دليل على أن المراد هنا أبو سهل إذا فرضنا أن الصواب في المتن «المسيحي» دون «مسيح» .
يحبس
(1)
البطن، ويقوِّي الأعضاء الباطنة، ويطرد الرِّيح، ويفتح السُّدَد، نافعٌ من ذات الجنب، ويُذهِب فضلَ الرُّطوبة. والعود المذكور جيِّدٌ للدِّماغ.
قال
(2)
: ويجوز أن ينفع القُسْطُ من ذات الجنب الحقيقيَّة أيضًا إذا كان حدوثها عن مادَّةٍ بلغميِّةٍ، لا سيِّما في وقت انحطاط العلَّة. والله أعلم.
وذات الجنب من الأمراض الخطرة. وفي الحديث الصَّحيح عن أم سلمة
(3)
أنَّها قالت: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضه في بيت ميمونة، وكان كلَّما خفَّ عليه خرَج وصلَّى بالنَّاس. وكان كلَّما وجد ثقلًا قال:«مرُوا أبا بكر فليصلِّ بالنَّاس» . واشتدَّ شكواه حتَّى غُمِر
(4)
من شدَّة الوجع [فاجتمع]
(5)
(1)
س، ث، ل:«محبس» ، تصحيف.
(2)
بعدما نقل الحموي الكلام السابق عن مسيح قال: «أقول: ويجوز
…
» إلى آخر الفقرة، ففصل بين كلامه وكلام مسيح، ومع ذلك جعل المؤلف كلام الحموي من كلام مسيح!
(3)
كذا في جميع النسخ. وفي مخطوطتي كتاب الحموي: «أم سليم» . ولم يشر الحموي إلى مصدره الذي نقل منه هذا الحديث ولا قال هو: «في الحديث الصحيح» .
(4)
في جميع النسخ: «بذي عمرو» بالعين أو الغين، وهو تحريف غريب. والمثبت من كتاب الحموي (ص 109). ومثله في «سيرة ابن هشام» (2/ 651). وأثبت الفقي:«غُمر عليه» .
(5)
في النسخ: «ما» ثم بياض في ف، د، ز، حط. وفي غيرها وصل الكلام. و «ما» تصحيف أول الكلمة المثبتة بين الحاصرتين من كتاب الحموي.
عنده نساؤه وعمُّه العباس، وأم الفضل بنت الحارث، وأسماء بنت عميس. فتشاوروا في لدِّه، فلدُّوه وهو مغمورٌ. فلمَّا أفاق قال:«من فعل بي هذا؟ هذا من عمل نساءٍ جئن من هاهنا» . وأشار بيده إلى أرض الحبشة. وكانت أمُّ سلمة وأسماء لدَّتاه، فقالوا: يا رسول اللَّه، خشينا
(1)
أن يكون بك ذات الجنب. قال: «فبم لددتموني؟» . قالوا: بالعود الهنديِّ، وشيءٍ من وَرْسٍ، وقطراتٍ من زيتٍ. فقال:«ما كان الله لِيقذفَني بذلك الدَّاء» . ثمَّ قال: «عزمتُ عليكم: لا يبقى في البيت أحدٌ إلا لُدَّ إلا عمِّي العباس»
(2)
.
وفي «الصَّحيحين»
(3)
عن عائشة قالت: لددنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأشار أن لا تلُدُّوني، فقلنا: كراهية المريض للدَّواء. فلمَّا أفاق قال: «ألم أَنْهَكم أن لا تلُدُّوني؟
(4)
لا يبقى منكم أحدٌ إلا لُدَّ غير عمِّي العباس فإنَّه لم يشهدكم».
(1)
س، حط:«حسبنا» .
(2)
أخرجه بنحوه عبد الرَّزَّاق (9754) وعنه ابن راهويه (2145)، وأحمد (27469) من حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وصحَّحه ابن حبَّان (6587)، والحاكم (4/ 202)، وابن حجر في «الفتح» (8/ 148)، والألباني في «السلسلة الصحيحة» (7/ 1017)، ورجَّح أبو زرعة وأبو حاتم إرسالَه كما في «العلل» (2520). وفي الباب عن العبَّاس وابن عبَّاس وعائشة رضي الله عنها.
(3)
البخاري (4458، 5712، 6897) ومسلم (2213).
(4)
كذا في جميع النسخ وكتاب الحموي (ص 109). وفي طبعة الرسالة: «أن تلدوني» تبعًا للفقي الذي حذف «لا» لأنها لم ترد في «الصحيحين» . وقد ورد اللفظ المذكور هنا في «مسند أحمد» (24263). وهو كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12].
قال أبو عبيد
(1)
عن الأصمعي: اللَّدُود: ما يسقى الإنسان في أحد شقَّي الفم، أُخِذ من لَديدَي الوادي، وهما جانباه. وأمَّا الوَجُور فهو في وسط الفم.
قلت: واللَّدود بالفتح هو الدَّواء الذي يُلَدُّ به
(2)
. والسَّعوط ما أُدخِل من أنفه.
وفي هذا الحديث من الفقه: معاقبةُ الجاني بمثل ما فعَل سواءً، إذا لم يكن فعله محرَّمًا لحقِّ اللَّه. وهذا هو الصَّواب المقطوع به لبضعة عشر دليلًا قد ذكرناها في موضعٍ آخر
(3)
. وهو منصوص أحمد وهو ثابتٌ عن الخلفاء الرَّاشدين. وترجمة المسألة بـ «القصاص في اللَّطمة والضَّربة» . وفيها عدَّة أحاديث لا معارض لها البتَّة، فيتعيَّن القول بها.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصُّداع والشَّقيقة
روى ابن ماجه في «سننه»
(4)
حديثًا في صحَّته نظرٌ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا
(1)
في «غريب الحديث» (1/ 292 - 293).
(2)
لا أدري لماذا فسَّر المصنف «اللَّدود» بعدما نقل تفسير الأصمعي.
(3)
انظر: «أعلام الموقعين» (2/ 118 - 142) و «تهذيب السنن» (3/ 123 - 140).
(4)
قال الحموي في كتابه (ق 42/أ): «الحديث التاسع والعشرون: عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صُدِع غلَّف رأسه بالحنَّاء، ويقول: إنه نافع بإذن الله من الصداع. وجاء من طريق آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي صُدِع، فيغلِّف رأسه بالحنّاء. أخرجه ابن ماجه وغيره» . فلفَّق المؤلف من الحديثين حديثًا واحدًا وعزاه إلى ابن ماجه كما ترى. ولم يُخرج ابن ماجه هذا المتنَ، وإنَّما روى (3502) حديثَ أمِّ رافع:«كان لا يصيب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قرحة ولا شوكة إلَّا وضَع عليه الحنَّاءَ» ، وسيأتي تخريجه. وأمَّا هذا المتن فأخرجه البزَّار (7852)، والطَّبراني في «الأوسط» (5629)، وابن عدي في «الكامل» (2/ 161)، وأبو نعيم في «الطِّب النَّبوي» (241، 638)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:«كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحيُ صُدِع، فيغلِّف رأسه بالحنَّاء» ، وليس فيه القولُ، ولم أقِف له على مصدرٍ. قال ابن كثير في «البداية والنِّهاية» (4/ 55):«هذا حديث غريب جدًّا» ، وهو في «السِّلسلة الضَّعيفة» (5926).
صُدِع غلَّف رأسه بالحنَّاء، ويقول:«إنَّه نافعٌ بإذن الله من الصُّداع» .
الصُّداع: ألمٌ في بعض أجزاء الرَّأس أو كلِّه. فما كان منه في أحد شقَّي الرَّأس لازمًا سُمِّيَ «شقيقةً» . وإن كان شاملًا لجميعه لازمًا سُمِّي «بيضةً» و «خُوذةً» تشبيهًا ببيضة السِّلاح الَّتي تشتمل على الرَّأس كلِّه. وربَّما كان في مؤخَّر الرَّأس أو في مقدَّمه. وأنواعه كثيرةٌ وأسبابه مختلفةٌ
(1)
.
وحقيقة الصُّداع: سخونة الرَّأس واحتماؤه لما دار فيه من البخار يطلب النُّفوذَ من الرَّأس، فلا يجد منفذًا، فيصدَعُه، كما ينصدع الوعاءُ
(2)
إذا حَمِيَ ما فيه وطلَب النُّفوذَ. وكلُّ شيءٍ رطبٍ إذا حمِيَ طلب مكانًا أوسع من مكانه
(1)
هذه الفقرة من كلام الحموي (ص 154) وختمها بقوله: «
…
مختلفة مذكورة في الكتب الطبية». فرجع المؤلف إلى كتاب لم أقف عليه، ونقل منه حقيقة الصداع وأسبابه إلى آخر الفصل.
(2)
هكذا في ف، د:«ينصدع» . ولم ينقط في ز. وفي ل: «يصدع» . وفي غيرها: «يتصدَّع» . وكلمة «الوعاء» في ث وحدها رسمت بالألف المقصورة لكن ضبطت على الصواب: «الوِعَى» . وفي طبعة الرسالة: «يصدع الوعي» ، وفُسِّر «الوعي» بالقَيح والمِدَّة!
الذي كان فيه. فإذا عرض هذا البخار في الرَّأس كلِّه بحيث لا يمكنه التَّفشِّي والتَّحلُّل وجال في الرَّأس سمِّي «السَّدَر» .
والصُّداع يكون عن أسبابٍ عديدةٍ:
أحدها: من غلبة واحدٍ من الطَّبائع الأربعة.
والخامس
(1)
: من قروحٍ تكون في المعدة، فيتألَّم
(2)
الرَّأس لذلك الورم للاتصال من العصب المنحدر من الرَّأس بالمعدة.
والسَّادس: من ريحٍ غليظةٍ تكون في المعدة، فتصعد إلى الرَّأس، فتصدَعه.
والسَّابع: يكون من ورمٍ
(3)
في عروق المعدة، فيألم الرَّأس بألم المعدة للاتِّصال الذي بينهما.
والثَّامن: صداعٌ يحصل عن امتلاء المعدة من الطَّعام، ثمَّ ينحدر ويبقى بعضُه نِيئًا، فيصدَع الرَّأسَ ويُثقِله.
والتَّاسع: يعرض بعد الجماع لتخلخل الجسم، فيصل إليه من حرِّ الهواء أكثرُ من قدره.
والعاشر: صداعٌ يحصل بعد القيء والاستفراغ، إمَّا لغلبة اليُبْس، وإمَّا لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه.
(1)
في ل، ن بعده زيادة:«يكون» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
ز، س، حط:«فيألم» .
(3)
حط: «والسابع من ورم يكون في» . وفي ز: «يكون من ورم يكون» .
والحادي عشر: صداعٌ يعرض عن شدَّة الحرِّ وسخونة الهواء.
والثَّاني عشر: ما يعرض عن شدَّة البرد وتكاثُف الأبخرة في الرَّأس وعدم تحلُّلها.
والثَّالث عشر: ما يحدث من السَّهر وحبس النَّوم
(1)
.
والرَّابع عشر: ما يحدث من ضغط الرَّأس، وحملِ الشَّيء الثَّقيل عليه.
والخامس عشر: ما يحدث من كثرة الكلام، فتضعف قوَّة الدِّماغ لأجله.
والسَّادس عشر: ما يحدث من كثرة الحركة والرِّياضة المفرطة.
والسَّابع عشر: ما يحدث من الأعراض النَّفسانيَّة كالهموم والغموم والأحزان والوساوس والأفكار الرَّديَّة.
والثَّامن عشر: ما يحدث من شدَّة الجوع، فإنَّ الأبخرة لا تجد ما تعمل فيه، فتكثُر وتتصاعد
(2)
إلى الدِّماغ، فتؤلمه.
والتَّاسع عشر: ما يحدث عن ورمٍ في صِفاق الدِّماغ، ويجد صاحبُه كأنَّه يُضرَب بالمطارق على رأسه.
العشرون
(3)
: ما يحدث بسبب الحمَّى لاشتعال حرارتها فيه، فيتألَّم
(4)
.
(1)
غيَّره الفقي إلى «عدم النوم» ، وتابعته طبعة الرسالة كعادتها خلافًا لأصلها.
(2)
س، ث:«وتصاعدُ» .
(3)
ث: «والعشرون» .
(4)
في النسخ المطبوعة بعده: «والله أعلم» .
فصل
(1)
وسبب صداع الشَّقيقة مادَّةٌ في شرايين الرَّأس وحدها
(2)
، حاصلةٌ فيها، أو مرتقيةٌ إليها، فيقبلها الجانب الأضعف من جانبيه. وتلك المادَّة إمَّا بخاريَّةٌ وإمَّا أخلاطٌ حارَّةٌ أو باردةٌ. وعلامتها الخاصَّة بها ضَرَبانُ الشَّرايين وخاصَّةً في الدَّمويِّ. وإذا ضُبِطت بالعصائب ومُنِعت من الضَّرَبان سكَن الوجعُ.
وقد ذكر أبو نعيم في كتاب «الطِّبّ النَّبويّ»
(3)
له أنَّ هذا النَّوع كان يصيب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فيمكث اليوم واليومين، ولا يخرج.
وفيه
(4)
عن ابن عبَّاسٍ قال: خَطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد عصَب رأسه بعصابةٍ.
وفي الصَّحيح أنَّه قال في مرض موته: «وارأساه»
(5)
. وكان يعصِبُ رأسه
(1)
كتاب الحموي (ص 157).
(2)
لفظ الحموي: «واعلم أن كثيرًا ما يكون سبب الشقيقة مادَّةً
…
» إلخ، فلا يكون هذا عنده سبب الشقيقة دائمًا.
(3)
برقم (240) معلَّقًا عن محمَّد بن عبد الله بن نُمير، عن يونس بن بُكير، عن المسَيّب بن دارم، عن عبد الله بن بُريدة، عَن أبيه قال:«كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ربَّما أخذَته الشَّقيقةُ، فيمكث اليومَ واليومَين لا يخرج» . ووصله الطَّبريُّ في «تاريخه» (3/ 12)، والبيهقيُّ في «الدَّلائل» (4/ 211)، وصحَّحه الحاكم (3/ 37)، ووقع عندهم جميعًا:«المسيّب بن مسلم الأزديّ» ، وضعَّفه الألبانيُّ بجهالة المسيّب في «السِّلسلة الضَّعيفة» (5928)، وينظر:«السِّلسلة الصَّحيحة» (7/ 734).
(4)
برقم (245). وهو في البخاريِّ (3628) بلفظ: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الَّذي مات فيه بملحفةٍ، قد عصَّب بعصابة دسماء، حتَّى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد
…
» الحديث.
(5)
أخرجه البخاري (5666) من حديث عائشة رضي الله عنها.
في مرضه، وعصبُ الرَّأس ينفع في وجع الشَّقيقة وغيرها من أوجاع الرَّأس.
فصل
وعلاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه. فمنه ما علاجه بالاستفراغ، ومنه ما علاجه بتناول الغذاء، ومنه ما علاجه بالسُّكون والدَّعة، ومنه ما علاجه بالضَّمادات، ومنه ما علاجه بالتَّبريد، ومنه ما علاجه بالتَّسخين، ومنه ما علاجه بأن يجتنب سماع الأصوات والحركات.
إذا عُرِف هذا، فعلاجُ الصُّداع في هذا الحديث بالحنَّاء هو جزئيٌّ، لا كلِّيٌّ؛ وهو علاج نوعٍ من أنواعه. فإنَّ الصُّداع إذا كان من حرارةٍ ملهبةٍ ولم يكن من مادَّةٍ يجب استفراغها نفَع فيه الحنَّاءُ نفعًا ظاهرًا. وإذا دُقَّ وضمِّدت به الجبهةُ مع الخلِّ سكن الصُّداع. وفيه قوَّةٌ موافقةٌ للعصَب إذا ضمِّد به سكَّن أوجاعَه. وهذا لا يختصُّ بوجع الرَّأس بل يعمُّ الأعضاءَ. وفيه قبضٌ يشدُّ به الأعضاء. وإذا ضمِّد به موضعُ الورم الحادِّ الملتهب سكَّنه.
وقد روى البخاريُّ في «تاريخه» وأبو داود في «السُّنن»
(1)
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكا إليه أحدٌ وجعًا في رأسه إلا قال له: «احتجِمْ» ، ولا شكا
(2)
وجعًا في رجليه إلا قال له: «اختضِبْ بالحنَّاء» .
(1)
«التَّاريخ الكبير» (1/ 411)، «سنن أبي داود» (3858) من حديث سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أيضًا أحمد (27617، 27618)، والطَّبرانيُّ في «الكبير» (24/ 298)، وابن عديٍّ في «الكامل» (5/ 500). وفي إسناده اختلاف، وصحَّحه الطَّبريُّ في «التَّهذيب» (1/ 509 - مسند ابن عبَّاس)، والحاكم (4/ 40، 206، 407)، وحسَّنه النَّوويُّ في «المجموع» (9/ 61)، وابن مفلح في «الآداب الشَّرعيَّة» (2/ 402)، والألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (2059).
(2)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «إليه» .
وفي الترمذي
(1)
عن سلمى أم رافع خادم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: كان لا يصيب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرحةٌ ولا شوكةٌ إلا وضَع عليها الحنَّاء
(2)
.
فصل
(3)
والحنَّاء باردٌ في الأولى، يابسٌ في الثَّانية. وقوَّة شجر الحنَّاء وأغصانها مركَّبةٌ من قوَّةٍ محلِّلةٍ اكتسبتها من جوهرٍ فيها مائيٍّ حارٍّ باعتدالٍ، ومن قوَّةٍ قابضةٍ اكتسبتها من جوهرٍ فيها أرضيٍّ باردٍ.
ومن منافعه: أنَّه محلِّلٌ نافعٌ من حرق النَّار. وفيه قوَّةٌ موافقةٌ للعصَب إذا ضمِّد به
(4)
. وينفع إذا مُضِغ من قروح الفم والسُّلاق
(5)
العارض فيه، ويبرئ القُلاعَ
(6)
الحادث في أفواه الصِّبيان. والضِّمادُ به ينفع من الأورام الحارَّة الملهبة، ويفعل في الجراحات فعلَ دم الأخَوين
(7)
. وإذا خُلِط نَورُه مع
(1)
برقم (2054) وقال: «هذا حديث حسن غريب» . وأخرجه أيضًا ابن ماجه (3502) ــ واللفظ له ــ، والطَّبراني في «الكبير» (24/ 298) و «الأوسط» (8578). وهو الحديثُ السَّابق نفسُه، فليُنظر تخريجُه هناك.
(2)
الحديثان بهذا اللفظ نقلهما المؤلف من كتاب الحموي (ص 156 - 157).
(3)
كتاب الحموي (ص 155 - 156). ومادة الفصل كلها مأخوذة فيه من «مفردات ابن البيطار» (2/ 41 - 42)، وقد أحال عليه بعد ذكر خاصيته في النفع من الجذام.
(4)
تكملته: «سكَّن أوجاعَه» كما سبق في الفصل الماضي، وكما في مصدر النقل (ص 155) و «الأربعين الطبية» للموفق (ص 120).
(5)
السُّلَاق: بَثْر يخرج على أصل اللسان، ويقال: تقشُّر في أصول الأسنان. انظر: «الصحاح» (سلق) و «بحر الجواهر» (ص 162).
(6)
القُلَاع: بثرات تكون في جلدة الفم واللسان. انظر: «بحر الجواهر» (ص 238).
(7)
قال أبو حنيفة: هو صمغ شجرة يؤتى به من جزيرة سُقُطْرَى، يداوى به الجراحات، وهو الأيدَع عند الرواة، ويقال له: الشَّيَّان أيضًا. انظر: «مفردات ابن البيطار» (2/ 96) و «الصيدنة» (ص 272).
الشَّمع المصفَّى ودهن الورد ينفع من أوجاع الجنب.
ومن خواصِّه: أنَّه إذا بدأ الجُدَريُّ يخرج بصبيٍّ، فخُضِبت أسافل رجليه بحنَّاءٍ، فإنَّه يؤمَن على عينيه أن يخرج فيها شيءٌ منه. وهذا صحيحٌ مجرَّبٌ لا شكَّ فيه. وإذا جُعِل نَورُه بين طيِّ ثياب الصُّوف طيَّبَها ومنَع السُّوسَ عنها. وإذا نُقِع ورقه في ماءٍ عذبٍ يغمُره، ثمَّ عُصِرَ وشُرِب من صفوه أربعون
(1)
درهمًا كلَّ يومٍ ــ عشرين يومًا
(2)
ــ مع عشرة دراهم سكَّرٍ ويُغذَّى
(3)
عليه بلحم الضَّأن الصَّغير، فإنَّه ينفع من ابتداء الجذام بخاصِّيَّةٍ فيه عجيبةٍ.
وحكي أنَّ رجلًا تعقَّفت أظافيرُ أصابع يديه، وأنَّه بذل لمن يبرئه مالًا فلم يجد، فوصفت له امرأةٌ أن يشرب عشرة أيَّامٍ
(4)
حنَّاء، فلم يُقْدِم عليه. ثمَّ نقعه بماءٍ وشربه، فبرأ، ورجعت أظافيره إلى حسنها.
(1)
س، حط:«أربعين» ، يعني:«وشَرِبَ من صفوه» .
(2)
في الطبعة الهندية وغيرها: «وشب من صفوه أربعين يومًا كلَّ يوم عشرين درهمًا» ، والصواب ما أثبت من النسخ. وفي كتاب الحموي:«وشرب من صفوه عشرين يومًا، كلَّ يوم وزن أربعون درهمًا مع عشرة دراهم سكر» . فلمَّا تصرَّف ابن القيم في سياق الكلام أشكل على ناسخ فغيَّر كما شاء. ومصدر الحموي «مفردات ابن البيطار» ، وفيه:«وشرب من صفوها عشرين يومًا، في كل يوم وزن أربع أواقٍ، وأوقية سكر» . والأوقية: عشرة دراهم.
(3)
هكذا في حط، وفي غيرها:«تغدَّى» . وفي كتاب الحموي و «المفردات» : «ويتغذى» .
(4)
كذا في النسخ وكتاب الحموي. وفي مصدره «مفردات ابن البيطار» : «عشرة دراهم» . والحكاية حكاها ابن رضوان، قال: أخبرني من أثق به. ولعل ذلك في كتابه في الأدوية المفردة. وكانت وفاته سنة 453 في مصر. انظر ترجمته في «عيون الأنباء» (3/ 164).
والحنَّاء إذا ألزمت به الأظفار معجونًا حسَّنها ونفَعها. وإذا عُجِن بالسَّمْن وضُمِّد به بقايا الأورام الحارَّة الَّتي ترشَح ماءً أصفر نفعَها، ونفَع من الجرَب المتقرِّح المُزْمِن منفعةً بليغةً. وهو يُنبت الشَّعرَ ويقوِّيه ويحسِّنه، ويقوِّي الرَّأس، وينفع من النَّفَّاطات
(1)
والبثور العارضة في السَّاقين والرِّجلين وسائر البدن.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يَكرهونه من الطَّعام والشَّراب وأنَّهم لا يُكرَهون على تناولهما
روى الترمذي في «جامعه» وابن ماجه
(2)
عن عُقْبة بن عامرٍ الجهنيِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُكْرِهُوا مرضاكم على الطَّعام والشَّراب، فإنَّ الله عز وجل يُطعِمهم ويسقيهم» .
قال بعض فضلاء الأطبَّاء
(3)
: ما أغزر فوائد هذه الكلمة النَّبويَّة
(1)
هي البثور المملوءة ماءً، وانظر:«بحر الجواهر» (ص 290).
(2)
«جامع التِّرمذيِّ» (2040)، «سنن ابن ماجه» (3444). وأخرجه أيضًا أبو يعلى (1741)، والطَّبراني في «الكبير» (17/ 293) و «الأوسط» (6272) والحاكم (1/ 349). قال التِّرمذيُّ:«هذا حديثٌ حسنٌ غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه» . وله شواهد، وقد حسَّنه ابن حجر في «نتائج الأفكار» (4/ 238)، والألباني في «السِّلسلة الصَّحيحة» (727).
(3)
يعني: ابن طرخان الحموي. وهذه الفقرة والفقرات الثلاث التاليات التي بدأها بلفظ «اعلم» كلها منقولة من كتابه (ص 112 - 113). ثم هذه الفقرة أخذها الحموي من «الأربعين الطبية» لعبد اللطيف البغدادي (ص 101) والفقرات الأخرى أيضًا بناها على كلامه، وفصَّل، وزاد.
المشتملة على حكمٍ إلهيَّةٍ، لا سيَّما للأطبَّاء ولمن يعالج المرضى
(1)
. وذلك أنَّ المريض إذا عافَ الطَّعامَ أو الشَّرابَ، فذلك لاشتغال الطَّبيعة بمجاهدة المرض، أو لسقوط شهوته أو نقصانها لضعف الحرارة الغريزيَّة أو خمودها
(2)
. وكيفما كان فلا يجوز حينئذٍ إعطاء
(3)
الغذاء في هذه الحال.
واعلم أنَّ الجوع إنَّما هو طلب الأعضاء للغذاء لِتُخْلِفَ الطَّبيعةُ به عليها عوضَ ما تحلَّلَ منها، فتجذبُ الأعضاء القصوى من الأعضاء الدُّنيا حتَّى ينتهي الجذبُ إلى المعِدة، فيحسُّ الإنسان بالجوع، فيطلب الغذاء. فإذا وُجِد المرض اشتغلت الطَّبيعة بمادَّته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء أو الشَّراب. فإذا أُكرِه المريض على استعمال شيءٍ من ذلك تعطَّلت به الطَّبيعة عن فعلها، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادَّة المرض ودفعه، فيكون ذلك سببًا لضرر المريض، ولا سيَّما في أوقات البَحارين
(4)
أو ضعفِ الحارِّ الغريزيِّ أو خموده، فيكون ذلك زيادةً في البليَّة وتعجيل النَّازلة المتوقَّعة. ولا ينبغي أن يستعمل في هذا الوقت والحال إلا ما يَحفظ عليه قوَّتَه ويقوِّيها، من غير إشغال
(5)
مزعجٍ للطَّبيعة البتَّة. وذلك يكون بما لطُف قِوامُه من الأشربة
(1)
الحموي: «للأطباء ولخدم المرضى» .
(2)
س، ن:«جمودها» ، تصحيف.
(3)
س: «إعطاؤه» ، وكذا في «الأربعين الطبية» .
(4)
جمع البُحران، وقد سبق تفسيره (ص 40).
(5)
في ف بالعين المهملة المفتوحة، ولعله تصحيف ما أثبت من مخطوطة كتاب الحموي. وفي النسخ الأخرى ما عدا حط، ن:«اشتغال» . وفي حط، ن:«استعمال» ، وكذا في النسخ المطبوعة، وهذا تصحيف.
والأغذية واعتدل مزاجُه كشراب النَّوفَر
(1)
والتُّفَّاح والورد الطَّريِّ وما أشبه ذلك، ومن الأغذية أمْراق الفراريج المعتدلة
(2)
المطيَّبة
(3)
فقط. وإنعاش قواه بالأراييح العطِرة الموافقة والأخبار السَّارَّة، فإنَّ الطَّبيب خادم الطَّبيعة ومُعِينها لا مُعِيقها.
واعلم أنَّ الدَّم الجيِّد هو المغذِّي للبدن، وأنَّ البلغم دمٌ فِجٌّ قد نضِج بعضَ النُّضج، فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغمٌ كثيرٌ وعَدِمَ الغذاءَ عطَفت الطَّبيعةُ عليه، وطبخته وأنضجته، وصيَّرته دمًا، وغذَّت به الأعضاءَ، واكتفت به عمَّا سواه، والطَّبيعة هي القوَّة الَّتي وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحَّته وحراسته مدَّة حياته.
واعلم أنَّه قد يحتاج في النُّدرة
(4)
إلى إجبار المريض على الطَّعام والشَّراب، وذلك في الأمراض الَّتي يكون معها اختلاط العقل
(5)
. وعلى هذا فيكون الحديث من العامِّ المخصوص، أو من المطلق الذي قد دلَّ على
(1)
حط، ن:«اللينوفر» ، وكذا في طبعة عبد اللطيف وما بعدها. وفي الهندية:«النيلوفر» . في «المصباح المنير» أنه بكسر النون وضم اللام، ومنهم من يفتح النون مع ضمِّ اللام. وضبطه صاحب «التاج» (14/ 272) بفتح النون واللام والفاء، وقال: ويقوله العوامُّ: «النَّوفَر» كجَوهر. وهذا هو الوارد في معظم النسخ ومخطوطة الأحمدية من كتاب الحموي كما ذكر ناشره. وفي نسخة راغب باشا (25/أ): «النيلوفر» .
(2)
هي صفة الأمراق. وفي مخطوطة كتاب الحموي: «المعدَّلة» ، وهو أشبه ..
(3)
ث: «الطيبة» ، وكذا في طبعة عبد اللطيف وما بعدها. وفي حط، ن:«الطبيعة» ، وكذا في الهندية. وكلاهما تصحيف.
(4)
د، ل، ز:«البدرة» ، وفي س:«البدن» ، وكلاهما تصحيف.
(5)
هنا انتهى النقل من كتاب الحموي.
تقييده دليلٌ. ومعنى الحديث أنَّ المريض قد يعيش بلا غذاءٍ أيَّامًا لا يعيش الصَّحيحُ في مثلها
(1)
.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنَّ الله يطعمهم ويسقيهم» معنًى لطيفٌ زائدٌ على ما ذكره الأطبَّاء، لا يعرفه إلا من له عنايةٌ بأحكام القلوب والأرواح، وتأثيرِها في طبيعة البدن وانفعالِ الطَّبيعة عنها، كما تنفعل هي كثيرًا عن الطَّبيعة. ونحن نشير إليه إشارةً، فنقول:
النَّفس إذا حصل لها ما يشغلها من محبوبٍ أو مكروهٍ أو مخُوفٍ اشتغلت به عن طلب الغذاء والشَّراب، فلا تحسُّ بجوعٍ ولا عطشٍ، بل ولا حرٍّ ولا بردٍ، بل تشتغل به عن الإحساس بالمؤلم الشَّديد الألم فلا تحسُّ به. وما من أحدٍ إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئًا منه. وإذا اشتغلت النَّفس بما دهَمَها وورد عليها لم تحسَّ بألم الجوع.
فإن كان الوارد مفرِّحًا قويَّ التَّفريح قام لها مقامَ الغذاء، فشبِعت به، وانتعشت قواها وتضاعفت، وجرت الدَّمويَّةُ في الجسد حتَّى تظهر في سطحه، فيشرق وجهه، وتظهر دمويَّتُه. فإنَّ الفرح يوجب انبساطَ دم القلب، فينبعث في العروق فتمتلئ به، فلا تطلب الأعضاءُ
(2)
معلومَها
(3)
من الغذاء المعتاد،
(1)
وللموفق عبد اللطيف البغدادي كلام نفيس على قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتهى مريض أحدكم شيئًا فليطعمه» أخرجه ابن ماجه (1439) من حديث ابن عباس. انظر: «الأربعين الطبية» (ص 102 - 103).
(2)
«يوجب الانبساط
…
الأعضاء» ساقط من د.
(3)
لم تعجب كلمة «معلوم» الشيخ الفقي، فأثبت «حظَّها» ، وقلَّدته طبعة الرسالة دون أصلها.
لاشتغالها بما هو أحبُّ إليها وإلى الطَّبيعة منه. والطَّبيعةُ إذا ظفرت بما تحبُّ آثرته على ما هو دونه.
وإن كان الوارد مؤلمًا أو محزنًا أو مخوفًا اشتغلت بمحاربته ومقاومته ومدافعته عن طلب الغذاء، فهي في حال حربها في شُغُلٍ عن طلب الطَّعام والشَّراب. فإن ظفرت في هذا الحرب انتعشت قواها وأخلفت عليها نظيرَ ما فاتها من قوَّة الطَّعام والشَّراب. وإن كانت مغلوبةً مقهورةً انحطَّ من
(1)
قواها بحسب ما حصل لها من ذلك. وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدوِّ سِجالًا فالقوَّةُ تظهر تارةً، وتختفي أخرى
(2)
. وبالجملة فالحرب بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوَّين المتقاتلين
(3)
، والنَّصرُ للغالب. والمغلوب إمَّا قتيل وإمَّا جريح وإمَّا أسير.
فالمريض له مددٌ من الله يغذِّيه به، زائدٌ
(4)
على ما ذكره الأطبَّاء من تغذيته بالدَّم. وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربِّه عز وجل، فيحصل له من ذلك ما يوجب له قربًا من ربِّه، فإنَّ العبد أقرب ما يكون من ربِّه إذا انكسر قلبُه
(5)
، ورحمة ربِّه قريبٌ منه. فإن كان وليًّا له
(1)
«من» ساقطة من ن. ومن هنا أثبت بعض النسخ: «انحطَّت قواها» كما في الطبعة الهندية وغيرها.
(2)
(3)
د، ث، حط:«المتقابلين» ، وكذا في الطبعة الهندية. وفي ن كما أثبت. وفي النسخ الأخرى أهمل إعجام الكلمة.
(4)
ل: «زائدًا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
بعده في ف، د بياض يسع كلمة أو كلمتين، ولا بياض في غيرهما.
حصل له من الأغذية القلبيَّة ما تقوى به قوى طبيعته، وتنتعش به قواه أعظم من قوَّتها وانتعاشها بالأغذية البدنيَّة. وكلَّما قوي إيمانُه وحبُّه لربِّه وأنسُه به وفرحُه به، وقوي يقينه بربِّه، واشتدَّ شوقه إليه ورضاه به وعنه= وجد في نفسه من هذه القوَّة ما لا يعبَّر عنه، ولا يدركه وصفُ طبيبٍ، ولا يناله علمُه.
ومن غلُظ طبعُه وكثُفت نفسُه عن فهم هذا والتَّصديق به، فلينظر حال كثيرٍ من عشَّاق الصُّور الذين قد امتلأت قلوبهم بحبِّ ما يعشقونه من صورةٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو علمٍ. وقد شاهد النَّاس من هذا عجائبَ في أنفسهم وفي غيرهم.
وقد ثبت في الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يواصل في الصِّيام الأيَّامَ ذواتِ العدد، وينهى أصحابه عن الوصال، ويقول:«لست كهيئتكم، إنِّي أظَلُّ يُطعمني ربِّي ويسقيني»
(1)
. ومعلومٌ أنَّ هذا الطَّعام والشَّراب ليس هو الطَّعام الذي يأكله الإنسان بفمه، وإلَّا لم يكن مواصلًا، ولم يتحقَّق الفرق، بل لم يكن صائمًا، فإنَّه قال:«أظَلُّ يُطعمني ربِّي ويسقيني» .
وأيضًا فإنَّه فرَّق بينه وبينهم في نفس الوصال، وأنَّه يقدر منه على ما لا يقدرون عليه. فلو كان يأكل ويشرب بفمه لم يقل:«لستُ كهيئتكم» . وإنَّما فهِمَ هذا من الحديث مَن قلَّ نصيبُه من غذاء الأرواح والقلوب وتأثيرِه في القوَّة وإنعاشها واعتنائها
(2)
به فوق تأثير الغذاء الجسمانيِّ. والله الموفِّق.
(1)
أخرجه البخاري (7241) ومسلم (1104) من حديث أنس رضي الله عنه. ولفظ «لست كهيئتكم» في حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم عند البخاري (1964، 1922) ومسلم (1105، 1102).
(2)
هكذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: «واغتذائها» .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العُذْرة وفي العلاج بالسَّعوط
(1)
ثبت عنه في «الصَّحيحين»
(2)
أنَّه قال: «خير ما تداويتم به: الحجامة والقُسْط البحريِّ. ولا تعذِّبوا صبيانكم بالغمز من العُذْرة» .
وفي «السُّنن» و «المسند»
(3)
عنه من حديث جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها صبيٌّ يسيل مِنخَراه دمًا فقال: «ما هذا؟» . فقالوا: به العُذْرة أو وجعٌ في رأسه. فقال: «ويلكنَّ لا تقتلن أولادكنَّ
(4)
. أيُّما امرأةٍ أصاب ولدها عُذْرةٌ أو وجعٌ في رأسه فلتأخذ قُسْطًا هنديًّا فلتحُكَّه بماءٍ، ثمَّ تُسْعِطْه إيَّاه». فأمرت عائشة، فصُنِع ذلك بالصَّبيِّ، فبرأ
(5)
.
(1)
كتاب الحموي (ص 164، 173 - 174، 278).
(2)
البخاري (5696) ومسلم (1577) والحديث منقول من كتاب الحموي (ص 164).
(3)
«سنن النَّسائيِّ الكبرى» (7540)، «مسند أحمد» (14385). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (23437)، والبزَّار (3024 ــ كشف الأستار)، وأبو يعلى (1912، 2009، 2280)، وأبو نعيم في «الطِّبِّ النَّبويِّ» (247، 248، 340 - 343)، وغيرهم. وصحَّحه الحاكم (4/ 205، 206، 406)، والضِّياء المقدسيُّ في «الأمراض والكفَّارات» (54)، وحسَّن إسناده ابن الملقِّن في «التَّوضيح» (27/ 370)، والبوصيريُّ في «الإتحاف» (4/ 447)، وابن حجر في «المطالب العالية» (2441). وفي الباب عن أنس وأم قيس بنت محصن وعائشة رضي الله عنها.
(4)
ما عدا س، حط، ن:«أولادكم» . وفي ث، ل:«ويلكم» أيضًا بضمير المخاطبين.
(5)
الحديث بهذا اللفظ منقول من كتاب الحموي (ص 174).
قال أبو عبيد
(1)
عن أبي عبيدة: العُذْرة [وجعٌ]
(2)
يهيجُ في الحلق من الدَّم، فإذا عولج منه قيل: قد عذَرتَه
(3)
، فهو معذورٌ. انتهى. وقيل: العُذْرة: قُرْحةٌ تخرج فيما بين الأذن والحلق، وتعرِض للصِّبيان غالبًا
(4)
.
وأمَّا نفعُ السَّعوط منها بالقُسْط المحكوك، فلأنَّ العُذْرة مادَّتها دمٌ يغلب عليه البلغم لكثرة
(5)
تولُّدِه في أبدان الصِّبيان. وفي القُسْط تجفيفٌ يشدُّ اللَّهاة ويرفعها إلى مكانها. وقد يكون نفعه في هذا الدَّاء بالخاصِّيَّة. وقد ينفع في الأدواء الحارَّة الأدويةُ
(6)
الحارَّةُ، بالذَّات تارةً، وبالعرَض أخرى. وقد ذكر
(1)
في «غريب الحديث» (1/ 153).
(2)
من مصدر النقل (ص 174) و «غريب الحديث» ، ليعود عليه الضمير في قوله:«عولج منه» . ومن أجل هذا ضبط في طبعة الرسالة: «تهيُّج» .
(3)
ما عدا س، ز:«عُذر به» ، وكذا في النسخ المطبوعة، وقولُه:«عولج منه» مرشِّح له. ولكن الصواب ما أثبت، وكذا في كتاب الحموي ومصدره «غريب الحديث» وغيرهما.
(4)
لفظ الحموي: «قرحة تخرج في الخرم الذي بين الأنف والحلق تعرض للصبيان غالبًا عند طلوع العُذرة، وهي خمسة كواكب تحت الشعرى العبور، وتسمى أيضًا العذارى. وتطلع في وسط الحرِّ. والأول أشهر» . وكأن الحموي أخذه من «النهاية» لابن الأثير (3/ 198). ورواه الحربي في «غريب الحديث» (1/ 269) عن مصعب بن عبد الله. وفيه وصف الدَّغْر.
(5)
في جميع النسخ: «لكن» ، وهو تحريف ما أثبت من مصدر النقل (ص 174). ومن أجل هذا التحريف زاد الشيخ الفقي في آخر الجملة:«أكثر» لإتمام الكلام، وتبعته طبعة الرسالة.
(6)
هكذا في ث. وفي غيرها: «والأدوية» وهو خطأ. ويظهر أن بعضهم زاد الواو في ف فيما بعد. وقد تصرَّف المصنف في سياق كلام الحموي فلم يحسِن. ونص كلامه: «وقد ذكره ابن سينا رحمه الله في معالجة
…
الورد ومع ذلك فقد تنفع أدويةٌ حارَّةٌ من أدواءٍ حارَّةٍ، إما بخاصية فيها، أو بطريق العرض».
صاحب «القانون» في معالجة سقوط اللَّهاة: القُسْط مع الشَّبِّ اليمانيِّ وبِزْر الورد
(1)
.
والقُسْط البحريُّ المذكور في الحديث: فهو العود الهنديُّ. وهو الأبيض منه، وهو حلوٌ، وفيه منافع عديدة. وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللَّهاة وبالعِلاق ــ وهو شيءٌ يعلِّقونه على الصِّبيان ــ فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم.
والسَّعوط: ما يُصَبُّ في الأنف. وقد يكون بأدويةٍ مفردةٍ ومركَّبةٍ تُدَقُّ وتُنْخَل وتُعْجَن وتجفَّف. ثمَّ تُحَكُّ
(2)
عند الحاجة، ويُسْعَط بها في أنف الإنسان وهو مستلقٍ على ظهره، وبين كتفيه ما يرفعهما لينخفضَ رأسه، فيتمكَّنَ السَّعوطُ من الوصول إلى دماغه، ويستخرجَ ما فيه من الدَّاء بالعطاس.
وقد مدح النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم التَّداوي بالسَّعوط فيما يحتاج إليه فيه، وذكر أبو داود في «سننه»
(3)
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم استعَطَ.
(1)
ث، ن:«المر» مع تشديد الراء في ن. وفي ل: «المرء» . وفي غيرها: «المرو» . وهو تحريف ما أثبت من كتاب الحموي. وقد ذكر ابن سينا في فصل سقوط اللهاة (2/ 299): الشبّ وبزر الورد، ولكن لم أقف على ذكر القسط كما حكى الحموي.
(2)
هكذا في س، حط، ح، وهو الصواب. وفي غيرها:«تحل» ، وهو تحريف.
(3)
برقم (3867) من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما -. والحديث أخرجه البخاري (5691)، ومسلم (1202)، ولكن المؤلف صادر عن كتاب الحموي (ص 278).
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المفؤود
روى أبو داود في «سننه»
(1)
من حديث مجاهد عن سعد قال: مرضتُ مرضًا، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فوضع يده بين ثدييَّ حتَّى وجدتُ بردَها على فؤادي، وقال لي:«إنَّك رجلٌ مفؤودٌ، فأتِ الحارثَ بن كَلَدة من ثقيفٍ، فإنَّه رجلٌ يتطبَّب، فليأخذ سبعَ تمراتٍ من عَجْوة المدينة، فليجَأْهنَّ بنواهنَّ، ثمَّ ليَلُدَّك بهنَّ» .
المفؤود: الذي أصيب فؤاده فهو يشتكيه، كالمبطون الذي يشتكي بطنه. واللَّدود: ما يسقاه الإنسان من أحد جانبي الفم.
وفي التَّمر خاصِّيَّةٌ عجيبةٌ لهذا الدَّاء، ولا سيَّما تمر المدينة، ولا سيَّما العَجْوة منه. وفي كونها سبعًا خاصِّيَّةٌ أخرى تُدْرَك بالوحي. وفي «الصَّحيحين»
(2)
: من حديث عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصبَّح بسبع تمراتٍ من تمر العالية لم يضُرَّه ذلك اليومَ
(1)
برقم (3875) وسكت عنه. وأخرجه أيضًا ابن سعد في «الطَّبقات» (3/ 146)، والطَّبرانيُّ في «الكبير» (6/ 50)، وأبو نعيم في «الطِّب النَّبوي» (37، 359). وصحَّحه الضِّياء في «المختارة» (1050)، والإشبيليُّ في «الأحكام الصُّغرى» (2/ 836 - 837) و «الوسطى» (4/ 231)، وتعقَّبه ابن القطَّان في «الوهم والإيهام» (2/ 559، 560) بأنَّ مجاهدًا لم يسمع من سعدٍ، فالإسناد منقطع. وينظر:«الأحاديث الواردة في فضائل المدينة» (373).
(2)
البخاري (5445) ومسلم (2047)، وفي كليهما: «
…
تمرات عجوة». و «من تمر العالية» زيادة في رواية أبي ضمرة كما في «الفتح» (10/ 239). والنقل من كتاب الحموي (ص 186).
سَمٌّ ولا سحرٌ».
وفي لفظٍ
(1)
: «من أكل سبع تمراتٍ ممَّا بين لابتيها حين يصبح لم يضرَّه سَمٌّ حتَّى يمسي» .
والتَّمر حارٌّ في الثَّانية، يابسٌ في الأولى. وقيل: رطبٌ فيها. وقيل: معتدلٌ. وهو غذاءٌ فاضلٌ حافظٌ للصِّحَّة لا سيَّما لمن اعتاد الغذاء به كأهل المدينة وغيرهم. وهو من أفضل الأغذية في البلاد الباردة والحارَّة الَّتي حرارتها في الدَّرجة الثَّانية، وهو لهم أنفع منه لأهل البلاد الباردة، لبرودة بواطن
(2)
سكَّانها وحرارة بواطن سكَّان البلاد الباردة
(3)
. ولذلك يُكثِر أهلُ الحجاز واليمن والطَّائف وما يليهم من البلاد المشابهة لها من الأغذية الحارَّة ما لا يتأتَّى لغيرهم كالتَّمر والعسل
(4)
.
وشاهدناهم يضعون في أطعمتهم من الفُلْفُل والزَّنجبيل فوق ما يضعه غيرُهم نحو عشرة أضعافٍ أو أكثر. ويأكلون الزَّنجبيل كما يأكل غيرُهم الحلواء
(5)
. ولقد شاهدتُ من يتنقَّل به منهم كما يتنقَّل بالنقْل، ويوافقهم ذلك ولا يضرُّهم لبرودة أجوافهم وخروج الحرارة إلى ظاهر الجسد، كما نشاهد مياه الآبار تبرُد في الصَّيف وتسخُن في الشِّتاء. وكذلك تُنضِج المعدة من الأغذية الغليظة في الشِّتاء ما لا تُنضِجه في الصَّيف.
(1)
عند مسلم (2047).
(2)
في ز: «بطون» هنا وفيما بعد.
(3)
العبارة: «لبرودة بواطن
…
الباردة» ساقطة من د لانتقال النظر.
(4)
انظر: كتاب الحموي (ص 186 - 187).
(5)
في الأصل (ف) مدَّة على الألف. وفي ل، ن بالألف المقصورة، وفي حط:«الحلو» .
وأمَّا أهل المدينة، فالتَّمر لهم يكاد أن يكون بمنزلة الحنطة لغيرهم، وهو قوتهم ومادَّتهم. وتمر العالية من أجود أصناف تمرهم، فإنَّه متين الجسم لذيذ الطَّعم صادق الحلاوة.
والتَّمر يدخل في الأدوية والأغذية والفاكهة. وهو يوافق أكثر الأبدان، مقوٍّ للحارِّ الغريزيِّ، ولا يتولَّد عنه من الفضلات الرَّديئة ما يتولَّد عن غيره من الأغذية والفاكهة؛ بل يمنع لمن اعتاده من تعفُّن الأخلاط وفسادها.
وهذا الحديث من الخطاب الذي أريد به الخاصُّ كأهل المدينة ومن جاورهم. ولا ريب أنَّ للأمكنة اختصاصًا بنفع كثيرٍ من الأدوية في ذلك المكان دون غيره، فيكون الدَّواءُ الذي ينبت
(1)
في هذا المكان نافعًا من الدَّاء، ولا يوجد فيه ذلك النَّفع إذا نبت في مكانٍ غيره، لتأثير نفس التُّربة أو الهواء أو هما
(2)
جميعًا؛ فإنَّ في الأرض خواصَّ وطبائعَ يقارب اختلافها اختلافَ طبائع الإنسان. وكثيرٌ من النَّبات يكون في بعض البلاد غذاءً مأكولًا، وفي بعضها سَمًّا قاتلًا. وربَّ أدويةٍ لقومٍ أغذيةٌ لآخرين، وأدويةٍ لقومٍ من أمراضٍ هي أدويةٌ لآخرين في أمراضٍ سواها، وأدويةٍ لأهل بلدٍ لا تناسب غيرهم ولا تنفعهم
(3)
.
وأمَّا خاصِّيَّة السَّبع فإنَّها قد وقعت قدرًا وشرعًا. فخلق الله عز وجل
(1)
ل: «نبت» . ث: «ثبت» . وكأن في ف: «يثبت» . وفي ن: «قد ينبت» وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة. والصواب في العربية أن يقال: «أو لتأثيرهما» . ولو قال: «أو كليهما» لاستقام الكلام.
(3)
انظر: كتاب الحموي (ص 187 - 188).
السّماوات سبعًا، والأرض
(1)
سبعًا، والأيَّام سبعًا. والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوارٍ. وشرع الله سبحانه لعباده الطَّواف سبعًا، والسَّعي بين الصَّفا والمروة سبعًا، ورمي الجمار سبعًا سبعًا
(2)
. وتكبيرات العيدين سبعٌ
(3)
في الأولى.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصَّلاة لسبعٍ»
(4)
. وإذا صار للغلام سبع سنين خُيِّر بين أبويه في روايةٍ. وفي أخرى
(5)
: أبوه أحقُّ به من أمِّه. وفي ثالثةٍ: أمُّه أحقُّ به
(6)
.
وأمرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مرضه أن يُصَبَّ عليه من سبع قِرَبٍ
(7)
. وسخَّر الله الرِّيح على قوم عادٍ سبعَ ليالٍ. ودعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يعينه الله على قومه بسبعٍ
(1)
حط، ن:«الأرضين» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في د، ز، ل، حط:«سبعًا» مرة واحدة.
(3)
ز، س، ل:«سبعًا» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
ورد عن عددٍ من الصَّحابة، أجودُها ــ كما قال ابن رجب في «الفتح» (8/ 20) ــ حديث سَبرةَ بن مَعبد الجهنيِّ رضي الله عنه، أخرجه أبو داود (494)، والتِّرمذي (407)، وأحمد (15339). قال التِّرمذي:«حديث حسن صحيح» ، وصحَّحه ابن الجارود (147)، وابن خزيمة (1002)، والحاكم (1/ 258)، والبيهقيُّ كما في «مختصر الخلافيَّات» (1/ 335)، وهو في «صحيح سنن أبي داود» (508)، وينظر:«الإرواء» (247). وثبت أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو، ورُوي من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهم.
(5)
ما عدا ف، د:«رواية أخرى» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
(6)
سيأتي في أول المجلد السادس كلام مفصَّل للمصنف على هذه المسألة.
(7)
أخرجه البخاري (198) من حديث عائشة رضي الله عنها.
كسبعِ يوسف
(1)
. ومثَّل الله سبحانه ما يضاعِف به صدقةَ المتصدِّق بحبَّةٍ أنبتت سبع سنابل، في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ، والسَّنابلَ الَّتي رآها صاحبُ يوسف سبعًا، والسِّنينَ الَّتي زرعوها دأبًا سبعًا. وتضاعف الصَّدقة إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ. ويدخل الجنَّة من هذه الأمَّة بغير حسابٍ سبعون ألفًا
(2)
.
فلا ريب أنَّ لهذا العدد خاصِّيَّةً ليست لغيره. والسَّبعة جمعت معاني العدد كلِّه وخواصَّه، فإنَّ العدد شفعٌ ووترٌ، والشَّفع أوَّل وثانٍ؛ والوتر كذلك. فهذه أربع مراتب: شفعٌ أوَّل وثانٍ. ووترٌ أوَّل وثانٍ. ولا تجتمع هذه المراتب في
(3)
أقلَّ من سبعةٍ. وهي عددٌ كاملٌ جامعٌ لمراتب العدد الأربعة أعني: الشَّفع والوتر، والأوائل والثَّواني. ونعني بالوتر الأوَّل الثَّلاثة، وبالثَّاني الخمسة، وبالشَّفع الأوَّل الاثنين، وبالثَّاني الأربعة
(4)
.
وللأطبَّاء اعتناءٌ عظيمٌ بالسَّبعة، ولا سيَّما في البَحَارين
(5)
. وقد قال أبقراط: كلُّ شيءٍ من هذا العالم فهو مقدَّر على سبعة أجزاء. والنُّجوم سبعةٌ
(6)
، والأيَّام سبعةٌ، وأسنان النَّاس سبعةٌ. أوَّلها طفلٌ إلى سبعٍ، ثمَّ صبيٌّ إلى أربع عشرة، ثمَّ
(1)
أخرجه البخاري (4693) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
د، س، ز، ث:«من» .
(4)
انظر: «رسائل إخوان الصفاء» ــ طبعة بمبئي (1/ 30 - 31)، ومنها نقل الحموي (ص 189 - 190).
(5)
انظر: «القانون» (3/ 148). والبحارين جمع البُحران، وقد سبق تفسيره.
(6)
بعده في ز: «والأفلاك سبعة» .
شابٌّ، ثمَّ كهلٌ، ثمَّ شيخٌ، ثمَّ هَرِمٌ إلى منتهى العمر
(1)
. والله تعالى أعلم بحكمته وشرعه وقدره في تخصيص هذا العدد، هل هو لهذا المعنى أو لغيره؟
ونفعُ هذا العدد من هذا التَّمر من هذا البلد من هذه البقعة بعينها من السَّمِّ والسِّحر بحيث يمنع إصابتَه: من الخواصِّ الَّتي لو قالها أبقراط
(2)
وجالينوس وغيرهما من الأطبَّاء لتلقَّاها عنهم الأطبَّاء بالقبول والإذعان والانقياد، مع أنَّ القائل إنَّما معه الحدس والتَّخمين والظَّنُّ. فمَن كلامُه كلُّه يقينٌ وقطعٌ وبرهانٌ ووحيٌ أولى أن تُتَلقَّى أقوالُه بالقبول والتَّسليم وترك الاعتراض. وأدوية السُّموم تارةً تكون بالكيفيَّة، وتارةً تكون بالخاصِّيَّة كخواصِّ كثيرٍ من الأحجار والجواهر واليواقيت
(3)
. والله أعلم.
فصل
ويجوز نفع التَّمر المذكور في بعض السُّموم، فيكون الحديث من العامِّ المخصوص. ويجوز نفعه بخاصِّيِّة تلك البلد
(4)
وتلك التُّربة الخاصَّة من كلِّ سمٍّ.
(1)
كذا في جميع النسخ، والأسنان المذكورة ستة فقط، وجاء في الطبعة الهندية وغيرها بعد «أربع عشرة»:«ثم مراهق» . ولعل الزيادة كانت في النسخة التي اعتمدت عليها الطبعة الهندية. وفي «تكملة المجموع شرح المهذب» (15/ 466): «
…
إلى السابعة طفل، ثم إلى العاشرة صبي، ثم إلى الخامسة عشرة يافع، ثم على الثلاثين شاب أو فتى» ثم ذكر الكهل والشيخ والهرم. ويتبين من هذا أن الفائت في النص ذكر اليافع. ولم أقف على مصدر المؤلف فيما نقله.
(2)
ف، ن:«بقراط» .
(3)
انظر هذا المعنى في كتاب الحموي (ص 187).
(4)
يعني المدينة أو الأرض. وفي س، ث، ل:«البلدة» .