الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو الذي ينتفع به حيث حلَّ. ومعلومٌ أنَّ اعتقاد المسلم تحريمَ هذه العين ممَّا يحول بينه وبين اعتقاد بركتها
(1)
وبين حسن ظنِّه بها وتلقِّي طبعه لها بالقبول. بل كلَّما كان العبد أعظم إيمانًا كان أكرهَ لها وأسوأَ اعتقادًا فيها، وطبعُه أكرُه شيءٍ لها. فإذا تناولها في هذه الحال كانت داءً له لا دواءً، إلا أن يزول اعتقادُ الخبث فيها وسوءُ الظَّنِّ والكراهةُ لها بالمحبَّة، وهذا ينافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قطُّ إلا على وجه داءٍ. والله أعلم.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج القَمْل الذي في الرَّأس وإزالته
في «الصَّحيحين»
(2)
عن كعب بن عُجْرة قال: كان بي أذًى من رأسي، فحُمِلتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقملُ يتناثر على وجهي، فقال:«ما كنتُ أرى الجَهْدَ قد بلغ بك ما أرى» . وفي روايةٍ: فأمرَه أن يحلق رأسه، وأن يُطْعِمَ فَرَقًا بين ستَّةٍ، أو يهدي شاةً، أو يصوم ثلاثة أيَّامٍ.
القمل يتولَّد في الرَّأس والبدن من شيئين: خارجٍ عن البدن، وداخلٍ فيه. فالخارج: الوسَخ والدَّنس المتراكب
(3)
في سطح الجسد. والثَّاني من خِلْطٍ رديٍّ عَفِنٍ تدفعه الطَّبيعة بين الجلد واللَّحم، فتتعفَّن الرُّطوبة الدَّمويَّة في البشرة بعد خروجها من المسامِّ، فيكون منه القمل. وأكثر ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام وبسبب الأوساخ. وإنَّما كان في رؤوس الصِّبيان أكثر لكثرة
(1)
س، ث، ل:«تركها» ، تصحيف. وبعده في النسخ المطبوعة زيادة:«ومنفعتها» .
(2)
البخاري (1816، 1817) ومسلم (1201).
(3)
غيَّره الفقي إلى «المتراكم» ، وتبعته طبعة الرسالة دون أصلها.
رطوباتهم وتعاطيهم الأسبابَ الَّتي تولِّد القمل. ولذلك حلق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رؤوس بني جعفرٍ
(1)
.
ومن أكبر علاجه: حلقُ الرَّأس لتنفتح مسامُّ الأبخرة، فتتصاعد الأبخرة الرَّديَّة، فتضعف مادَّة الخِلط. وينبغي أن يُطلى الرَّأسُ بعد ذلك بالأدوية الَّتي تقتل القَمْلَ وتمنع تولُّده.
وحلقُ الرَّأس ثلاثةُ أنواع:
أحدها: نسكٌ وقربةٌ.
والثَّاني: بدعةٌ وشركٌ.
والثَّالث: حاجةٌ ودواءٌ.
فالأوَّل: الحلق في أحد النُّسكين: الحجِّ أو العمرة.
والثَّاني: حلق الرَّؤوس لغير الله سبحانه، كما يحلقها المريدون لشيوخهم. ويقول
(2)
أحدهم: أنا حلقتُ رأسي لفلانٍ، وأنت حلقتَه لفلانٍ. وهذا بمنزلة أن يقول: سجدت لفلانٍ، فإنَّ حلق الرَّأس خضوعٌ وعبوديَّةٌ وذلٌّ. ولهذا كان من تمام الحجِّ حتَّى إنَّه عند الشَّافعيِّ ركنٌ من أركانه لا يتمُّ إلا به، فإنَّه وضع النَّواصي بين يدي ربِّها خضوعًا لعظمته وتذلُّلًا لعزَّته.
وهو من أبلغ أنواع العبوديَّة. ولهذا كانت العرب إذا أرادت إذلالَ
(1)
أخرجه الإمام أحمد (1750) وأبو داود (4192) والنسائي في «الكبرى» (8104) من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه. وصححه الضياء في «المختارة» (9/ 164).
(2)
حط، ن:«فيقول» ، وكذا في النسخ المطبوعة.
الأسير منهم وعتقَه حلقوا رأسه وأطلقوه. فجاء شيوخ الضَّلال والمزاحمون للرُّبوبيَّة الذين أساسُ مشيختهم على الشِّرك والبدعة، فأرادوا من مريديهم أن يتعبَّدوا لهم، فزيَّنوا لهم حلقَ رؤوسهم لهم
(1)
، كما زيَّنوا لهم السُّجود لهم، وسمَّوه بغير اسمه، وقالوا: هو وضع الرَّأس بين يدي الشَّيخ. ولَعَمْرُ الله، إنَّ السُّجود لله هو وضعُ الرَّأس بين يديه سبحانه. وزيَّنوا لهم أن ينذروا لهم، ويتوبوا لهم، ويحلفوا بأسمائهم. وهذا هو اتِّخاذهم أربابًا وآلهةً من دون اللَّه.
وأشرفُ العبوديَّة عبوديَّة الصَّلاة. وقد تقاسمها الشَّيوخ والمتشبِّهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشُّيوخ منها أشرفَ
(2)
ما فيها، وهو السَّجود. وأخذ المتشبِّهون بالعلماء منها الرُّكوع، فإذا لقي بعضهم بعضًا ركَع له كما يركع المصلِّي لربِّه سواءً. وأخذ الجبابرة منها القيامَ، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبوديَّةً لهم وهم جلوسٌ.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثَّلاثة على التَّفصيل، فتعاطيها مخالفةٌ صريحةٌ له. فنهى عن السُّجود لغير الله، وقال: «لا ينبغي لأحدٍ أن
يسجد لأحدٍ»
(1)
. وأنكر على معاذ لمَّا سجَد له وقال: «مه!»
(2)
.
وتحريم هذا معلومٌ من دينه بالضَّرورة. وتجويزُ من جوَّزه لغير الله مراغَمةٌ لله ورسوله. وهو من أبلغ أنواع العبوديَّة، فإذا جوَّز هذا المشركُ هذا النَّوعَ للبشر فقد جوَّز عبوديَّة غير اللَّه.
وقد صحَّ عنه أنَّه قيل له: الرَّجل يلقى أخاه، أينحني له؟ قال:«لا» . قيل: أيلتزمه ويقبِّله؟ قال: «لا» . قيل: أيصافحه؟ قال: «نعم»
(3)
.
وأيضًا فالانحناء عند التَّحيَّة سجود. ومنه قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ
(1)
أخرجه ابن حبَّان (4162) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو في التِّرمذيِّ (1159)، والبيهقيِّ في «الكبرى» (7/ 291)، لكن ليس عندهما هذا اللَّفظُ. قال التِّرمذيُّ:«حديث حسن غريب من هذا الوجه» ، وحسَّنه الألبانيُّ في «الإرواء» (1998). وفي الباب عن عددٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1853)، وأحمد (19403)، والبيهقيُّ في «الكبرى» (7/ 292)، من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: لمَّا قدم معاذٌ من الشَّام سجَد للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
…
وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا تفعلوا» الحديثَ. وفي إسناده اختلاف، وقد صحَّحه ابن حبَّان (4171)، والضِّياء في «المختارة» (13/ 124 - 125)، وحسَّنه الألبانيُّ في «الإرواء» (7/ 56). وله شواهد كثيرةٌ.
(3)
أخرجه التِّرمذيُّ (2728) وقال: «حديث حسن» ، وابن ماجه (3702)، وأحمد (13044)، والبزَّار (7360 - 7362)، وأبو يعلى (4287، 4289)، وابن عديٍّ في «الكامل» (3/ 341)، وغيرهم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وضعَّفه أحمد واستنكره كما في مسائل ابنه صالح (3/ 160)، وقال البيهقيُّ في «الكبرى» (7/ 100):«تفرَّد به حنظلة السَّدوسيُّ، وكان قد اختلَط، تركه يحيَى القطَّان لاختلاطه» ، وليَّن الحديثَ الذَّهبيُّ في «المهذَّب» (5/ 2677)، وقوَّاه الألبانيُّ في «السِّلسلة الصَّحيحة» (160).
سُجَّدًا}
(1)
[النساء: 154] أي منحنين، وإلَّا فلا يمكن الدَّخول على الجباه.
وصحَّ عنه النَّهي عن القيام وهو جالسٌ، كما تعظِّم الأعاجم بعضها بعضًا، حتَّى منَع من ذلك في الصَّلاة. وأمرَهم إذا صلَّى جالسًا أن يصلُّوا جلوسًا، وهم أصحَّاء لا عذر لهم، لئلَّا يقوموا على رأسه وهو جالسٌ، مع أنَّ قيامهم للَّه، فكيف إذا كان القيام تعظيمًا وعبوديَّةً لغيره سبحانه؟
والمقصود: أنَّ النُّفوس الجاهلة الضَّالَّة أسقطت عبوديَّة الله سبحانه وأشركت فيها مَن تعظِّمه من الخلق، فسجَدت لغير اللَّه، وركعت له، وقامت بين يديه قيام الصَّلاة، وحلفت بغيره، ونذرت لغيره، وحلقت لغيره، وذبحت لغيره، وطافت بغير بيته
(2)
. وعظَّمته بالحبِّ والخوف والرَّجاء والطَّاعة كما يعظَّم الخالق، بل أشدُّ! وسوَّت من تعبده من المخلوقين بربِّ العالمين. وهؤلاء هم المضادُّون لدعوة الرُّسل، وهم الذين بربَّهم يعدِلون، وهم الذين يقولون وهم في النَّار مع آلهتهم يختصمون:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]. وهم الذين قال فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. وهذا كلُّه من الشِّرك، والله لا يغفر أن يشرك به
(3)
.
فهذا فصلٌ معترضٌ في هديه في حلق الرَّأس، ولعلَّه أهمُّ ممَّا قُصِد الكلام فيه. والله الموفِّق.
(1)
كذا «ادخلوا» دون الواو قبله في جميع النسخ الخطية.
(2)
في النسخ المطبوعة: «لغير بيته» .
(3)
نبه بعض القراء في هامش ث على أن المصنف لم يذكر النوع الثالث من أنواع الحلق وهو الحلق للحاجة والدواء.