الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطَّبيبين
ذكر مالك في «موطَّئه»
(1)
عن زيد بن أسلم أنَّ رجلًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم جُرِحَ، فاحتقَن الدَّمَ؛ وأنَّ الرَّجل دعا رجلين من بني أنمار، فنظرا
(2)
إليه، فزعم
(3)
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: «أيُّكما أطَبُّ؟» . فقالا: أوَ في الطِّبِّ خيرٌ يا رسول اللَّه؟ فقال: «أنزل الدَّواءَ الذي أنزل الدَّاء»
(4)
.
ففي هذا الحديث أنَّه ينبغي الاستعانة في كلِّ علمٍ وصناعةٍ بأحذقِ مَن
(1)
برقم (2718). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (23886) ــ ومن طريقه أبو نعيم في «الطِّبِّ النَّبويِّ» (36) ــ عن عبد الرَّحيم بن سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن زيد به مرسلًا. وله شاهدٌ صحيحٌ من حديثِ رجلٍ منَ الأنصار عند أحمد (23156)، وآخرُ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي نعيم في «الطِّب النَّبوي» (31، 32) تقدَّم تخريجه.
(2)
ث، ل، ن:«فنظر» ، وكذا في مخطوطة كتاب الحموي (74/أ) والطبعة الهندية، ولعله سهو من النساخ.
(3)
كذا في جميع النسخ. وفي مخطوطة الحموي: «فزعم زيد» ، وهي رواية أبي مصعب (2/ 121) وفي رواية الليثي:«فزعما» .
(4)
هذه رواية أبي مصعب. وفي رواية الليثي: «الأدواء» . لفظ الحديث منقول من كتاب الحموي (ص 272) وفيه: «عن أبي محمد الخلال بإسناد له عن زيد بن أسلم
…
». وفي آخره: «رواه مالك في الموطأ» . فأغفل المصنف اسم الخلال وأحال على الموطأ رأسًا. فلما رأى محققا طبعة الرسالة اختلاف اللفظ الوارد هنا من لفظ الموطَّأ أخذتهما الحَميَّة للحديث فيما يبدو، فتصرفا في النص وأثبتا: «أن رجلًا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرحٌ، فاحتقن الجرح الدم
…
فزعما أن
…
الداء».
فيها فالأحذق، فإنَّه إلى الإصابة أقرب. وهكذا يجب على المستفتي أن يستعين على ما ينزل
(1)
به بالأعلم فالأعلم لأنَّه أقرب إصابةً ممَّن هو دونه. وكذلك من خفيت عليه القبلة فإنَّه يقلِّد أعلمَ من يجده. وعلى هذا فطَر الله عباده، كما أنَّ المسافر في البرِّ والبحر إنَّما سكون نفسه وطمأنينته إلى أحذق الدَّليلين وأخبَرِهما، وله يقصد، وعليه يعتمد. فقد اتَّفقت على هذا الشَّريعة والفطرة والعقل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنزل الدَّواء الذي أنزل الدَّاء» قد جاء مثله عنه في أحاديث كثيرةٍ. فمنها ما رواه عمرو بن دينارٍ عن هلال بن يَسَاف قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريضٍ يعوده، فقال:«أرسِلُوا إلى طبيبٍ» . فقال قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: «نعم، إنَّ الله عز وجل لم يُنْزِل داءً إلا له
(2)
دواءٌ»
(3)
.
وفي «الصَّحيحين» من حديث أبي هريرة يرفعه: «ما أنزل الله من داءٍ إلا
(1)
ن: «نزل» .
(2)
ل: «وله» . وفي ن قبله: «أنزل» ، وكذا في هامش ز، وفي النسخ المطبوعة. وفي مخطوط كتاب الحموي كما أثبت من النسخ.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (23880) ــ ومن طريقه أبو نعيم في «الطِّب النَّبوي» (33) ــ عن ابن عيينة، عن عَمرو به، وأخرجه أبو نعيم أيضًا (34، 35) من طريق حسَّان بن إبراهيم، عن عَمرو به، وهذا مرسلٌ. وقد جاء من وجهٍ آخرَ مسندًا، فأخرجه أحمد (23156)، وابن منيع كما في «الإتحاف» للبوصيريِّ (3874)، من طريق سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن ذكوان، عن رجل من الأنصار بمعناه، قال البوصيريُّ:«رجاله ثقات» ، وهو في «السِّلسلة الصَّحيحة» (517، 2873). وللحديث شواهد كثيرةٌ، تقدَّم بعضها في أوائل المجلد.
أنزل له شفاءً». وقد تقدَّم هذا الحديث وغيرُه
(1)
.
واختُلِف في معنى «أنزل الدَّاء والدَّواء» ، فقالت طائفة
(2)
: إنزالُه: إعلامُ العباد به. وليس بشيءٍ، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر بعموم الإنزال لكلِّ داءٍ ودوائه، وأكثرُ الخلق لا يعلمون ذلك. ولهذا قال:«علِمَه من علِمَه، وجَهِله مَن جَهِله»
(3)
.
وقالت طائفة: إنزالهما: خلقُهما ووضعُهما في الأرض، كما في الحديث الآخر:«إنَّ الله لم يضع داءً إلا وضَع له دواءً»
(4)
. وهذا وإن كان أقرب من الذي قبله، فلفظة «الإنزال» أخصُّ من لفظة الخلق والوضع، فلا ينبغي إسقاط خصوصيَّة اللَّفظة بلا موجِبٍ.
وقالت طائفة: إنزالهما بواسطة الملائكة الموكَّلين بمباشرة الخلق من داءٍ ودواءٍ وغير ذلك، فإنَّ الملائكة موكَّلةٌ بأمر هذا العالم وأمر النَّوع
(1)
في أول هذا المجلد. وسبق التنبيه على أن الحديث المذكور لم يخرِّجه مسلم، وإنما تابع المؤلف الحموي (ص 61).
(2)
انظر الأقوال الثلاثة الأولى في «إكمال المعلم» للقاضي عياض (7/ 120) وعنه نقل الحموي في كتابه (ص 273، 61).
(3)
أخرجه أحمد (18456) من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه، وأخرجه أيضًا (3578، 3922، 4236، 4334) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد تقدَّم تخريجهما في أوائل المجلد.
(4)
أخرجه أبو داود (3855)، والتِّرمذيُّ (2038)، والنَّسائيُّ في «الكبرى» (7553، 7554)، وابن ماجه (3436)، وأحمد (18454)، والبخاريُّ في «الأدب المفرد» (291)، من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه. وقد تقدَّم تخريجه في أوائل المجلد.
الإنسانيِّ من حين سقوطه في رحم أمِّه إلى حين موته. فإنزالُ
(1)
الدَّاء والدَّواء مع الملائكة. وهذا أقرب من الوجهين قبله.
وقالت طائفة: إنَّ عامَّة الأدواء والأدوية هي بواسطة إنزال الغيث من السَّماء، الذي تتولَّد به الأغذية والأقوات، والأدوية والأدواء، وآلات ذلك كلِّه وأسبابه ومكمِّلاته. وما كان منها من المعادن العُلْويَّة فهي تنزل من الجبال. وما كان منها من الأودية والأنهار والثِّمار فداخلٌ في اللَّفظ على طريق التَّغليب والاكتفاء عن الفعلين بفعلٍ واحدٍ يتضمَّنهما. وهو معروفٌ من لغة العرب بل وغيرها من الأمم، كقول الشَّاعر:
وعلَفتُها
(2)
تبنًا وماءً باردًا
…
حتى غدَتْ همَّالةً عيناها
(3)
وقول الآخر:
ورأيتِ زوجَكِ قد غدا
…
متقلِّدًا سيفًا ورمحًا
(4)
(1)
ز، ث، ل:«فأنزل» .
(2)
كذا بالواو في جميع النسخ إلا ن، وكذا في النسخ المطبوعة إلا نشرتي الفقي والرسالة، والظاهر أن زيادة الواو وهم ينقل البيت إلى الكامل. والرواية دونها على أن البيت من الرجز.
(3)
قال الفراء في «معاني القرآن» (1/ 14): «أنشدني بعض بني أسد يصف فرسه» . وفيه (3/ 124): «أنشدني بعض بني دُبير» . وبنو دبير من بني أسد. وعنه نقل أبو محمد الأنباري في «شرح المفضليات» (ص 248) وابن قتيبة في «تأويل المشكل» (ص 213) والطبري في «التفسير» (1/ 264). وذكر صاحب «الخزانة» (3/ 40) أنه رأى في حاشية نسخة صحيحة من «الصحاح» أنه لذي الرمة، وأنه فتش ديوانه فلم يجده فيه.
(4)
أنشده الفراء في «معانيه» (1/ 121) وأبو عبيدة في «المجاز» (2/ 68) وعنهما آخرون دون عزو. وإنما وقع العزو في زيادات طبعة رَايت من «الكامل» للمبرد (1/ 432) إلى عبد الله بن الزِّبَعْرَى. وانظر: «شعره» صنعة الجبوري (ص 32).
وقول الآخر:
وزجَّجن الحواجبَ والعيونا
(1)
وهذا أحسن ممَّا قبله من الوجوه. والله أعلم.
وهذا من تمام حكمة الرَّبِّ عز وجل وتمام ربوبيَّته. فإنَّه كما ابتلى عباده بالأدواء، أعانهم عليها بما يسَّره لهم من الأدوية. كما
(2)
ابتلاهم بالذُّنوب،
(1)
صدره (وقد زاده الفقي في متن الكتاب، وقلَّدته طبعة الرسالة):
إذا ما الغانيات برزن يومًا
هكذا أنشده مع صدره هذا: الفراء في «معانيه» (3/ 123) وأبو عبيد كما في «تهذيب اللغة» (10/ 454) وابن قتيبة في «تأويل المشكل» (ص 213) والطبري في «التفسير» (22/ 301 - هجر)، وابن الأنباري في «شرح القصائد السبع» (ص 148)؛ كلهم دون عزو، ولعلهم جميعًا صادرون عن الفراء. وقد عزاه ابن الأنباري في «إيضاح الوقف والابتداء» (2/ 922) إلى الحطيئة، وكذا العوتبي في «الإبانة» (2/ 25) والظاهر من سياقه أنه صادر عن ابن الأنباري. وقد عزاه العوتبي في موضع آخر (1/ 172) إلى جميل. ولم أجد البيت في «ديوان الحطيئة» ولا في المجموع من شعر جميل.
وقد أنشد الجوهري عجز البيت كما جاء هنا، فعلَّق عليه ابن برِّي بأن البيت للراعي وصدره: وهِزَّةِ نسوةٍ من حيِّ صِدْقٍ. انظر: «التنبيه والإيضاح» (1/ 208) و «اللسان» (زجج).
قلت: لا يبعد أن يكون البيت المشهور الذي أنشده الفراء غير بيت الراعي. وانظر: «ديوان الراعي» نشرة راينهرت (ص 269 - 270) وقد أفاض في تخريج الشاهد.
(2)
هكذا في جميع النسخ. وقد زاد بعضهم في س قبله واوًا، يعني:«وكما» ، وكذا في النسخ المطبوعة.