المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العشق - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان

- ‌فصلفي هديه في(1)الاحتماء من التُّخم والزِّيادة في الأكل على قدر الحاجة، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشُّرب

- ‌ذكر القسم الأوَّل وهو العلاج بالأدوية الطَّبيعيَّة

- ‌فصلفي هديه في الطَّاعون وعلاجه والاحتراز منه

- ‌فصلفي هديه في داء الاستسقاء وعلاجه

- ‌فصلفي هديه في علاج الجُرْح

- ‌فصلفي هديه في العلاج بشرب العسل والحجامة والكيِّ

- ‌فصلفي هديه في أوقات الحجامة

- ‌ من شرط انتفاع العليل بالدَّواء

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الحِمْية

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الرَّمَد بالسُّكون والدَّعة، وترك الحركة، والحمية ممَّا يهيج الرَّمد

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الخَدَران(1)الكلِّيِّ الذي يخمد(2)معه البدن

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الطَّعام الذي يقع فيه الذُّباب، وإرشاده إلى دفع مضرَّات السُّموم بأضدادها

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج البَثْرة

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السَّمِّ الذي أصابه بخيبر من اليهود

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السِّحر الذي سحرته اليهود به

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الاستفراغ بالقيء

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطَّبيبين

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في تضمين مَن طبَّ النَّاس وهو جاهلٌ بالطِّبِّ

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في التَّحرُّز من الأدواء المُعْدية بطبعها، وإرشاده الأصحَّاءَ إلى مجانبة أهلها

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في المنع من التَّداوي بالمحرَّمات

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج القَمْل الذي في الرَّأس وإزالته

- ‌فصولُ هديه(1)صلى الله عليه وسلم في العلاج بالأدوية الرُّوحانيَّة الإلهيَّةالمفردة، والمركَّبة منها ومن الأدوية الطَّبيعيَّة

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصاب بالعين

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العامِّ لكلِّ شكوى بالرُّقية الإلهيَّة

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في رقية اللَّديغ بالفاتحة

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج لدغة العقرب بالرُّقية

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في رقية النَّملة

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في رقية القُرحة والجُرح

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الوجع بالرُّقية

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حرِّ المصيبة وحزنها

- ‌فصلفي بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الفزع والأرق المانع من النَّوم

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج داء الحريق وإطفائه

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ الصّحَّة

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في هيئة الجلوس للأكل

- ‌فصلفي تدبيره لأمر الملبس

- ‌فصلفي تدبيره لأمر المسكن

- ‌فصلفي تدبيره لأمر النَّوم واليقظة

- ‌ حرف «إلى» ساقط من د

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العشق

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ الصِّحَّة بالطِّيب

- ‌فصلفي ذكر شيءٍ من الأدوية والأغذية المفردة الَّتي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلممرتَّبةً على حروف المعجم

- ‌حرف الهمزة

- ‌إثمِد

- ‌أُتْرُجٌّ

- ‌أرُزٌّ

- ‌أرزَّ

- ‌إذْخِر

- ‌حرف الباء

- ‌بطِّيخ

- ‌بَلَح

- ‌بُسْر

- ‌بَيض

- ‌بصَل

- ‌باذنجان

- ‌حرف التَّاء

- ‌تمر

- ‌تين

- ‌تلبينة:

- ‌حرف الثَّاء

- ‌ثلج:

- ‌ثوم

- ‌ثريد:

- ‌حرف الجيم

- ‌جُمَّار

- ‌جُبْن:

- ‌حرف الحاء

- ‌حنَّاء:

- ‌حبَّة السَّوداء

- ‌حرير:

- ‌حُرْف

- ‌حُلْبة

- ‌حرف الخاء

- ‌خبز:

- ‌ خل

- ‌خِلال:

- ‌حرف الدَّال

- ‌دُهْن

- ‌حرف الذَّال

- ‌ذَريرة:

- ‌ذُباب:

- ‌ذهب

- ‌حرف الرَّاء

- ‌رُطَب:

- ‌ريحان

- ‌رُمَّان

- ‌حرف الزَّاي

- ‌زيت

- ‌زُبْد

- ‌زبيب

- ‌زنجبيل

- ‌حرف السِّين

- ‌سنا:

- ‌سنُّوتٌ:

- ‌سَفَرْجَل

- ‌سِواك

- ‌سَمْن

- ‌سمك

- ‌سِلْق

- ‌حرف الشِّين

- ‌شُونيز:

- ‌شُّبْرُم

- ‌شعير

- ‌شِواء:

- ‌شحم:

- ‌حرف الصَّاد

- ‌صلاة:

- ‌صَبْر:

- ‌صَّبر

- ‌صوم:

- ‌حرف الضَّاد

- ‌ضبٌّ

- ‌ضِفْدع

- ‌حرف الطَّاء

- ‌طِيبٌ:

- ‌طين:

- ‌طَلْح:

- ‌طَلْع

- ‌حرف العين

- ‌عنب

- ‌عسل:

- ‌عَجْوة

- ‌عَنْبَر:

- ‌عود

- ‌عدس

- ‌حرف الغين المعجمة

- ‌غَيث

- ‌حرف الفاء

- ‌فاتحة الكتاب

- ‌فاغية

- ‌فضَّة:

- ‌حرف القاف

- ‌قرآن:

- ‌قِثَّاء

- ‌قُسْط وكُسْت

- ‌قصَب السُّكَّر:

- ‌حرف الكاف

- ‌كتابٌ للحمَّى:

- ‌كتابٌ للرُّعاف:

- ‌كتابٌ آخر للحمَّى المثلَّثة

- ‌كتابٌ(4)لعرق النَّسا

- ‌كتاب للعِرق الضارب

- ‌كتاب لوجع الضِّرس

- ‌كتاب للخُراج

- ‌كمأة

- ‌كَبَاث

- ‌كَتَم

- ‌كَرْم

- ‌كَرَفْس

- ‌كُرَّاث

- ‌حرف اللام

- ‌لحمٌ:

- ‌لحم الضَّأن

- ‌ لحم المعز

- ‌لحم الجدي

- ‌لحم البقر

- ‌لحم الفرس:

- ‌لحم الجمل:

- ‌لحم الضَّبِّ:

- ‌لحم الغزال

- ‌لحم الظَّبي

- ‌لحم الأرنب

- ‌لحم حمار الوحش

- ‌لحوم الأجنَّة:

- ‌لحم القديد

- ‌فصلفي لحوم الطير

- ‌ لحم الدَّجاج

- ‌لحم الدُّرَّاج

- ‌لحم الحَجَل والقَبَج

- ‌لحم الإوزِّ

- ‌لحم البطِّ

- ‌لحم الحبارى

- ‌لحم الكُرْكيِّ

- ‌لحم العصافير والقنابر

- ‌لحم الحمام

- ‌لحم القطا

- ‌لحم السُّمانى

- ‌الجراد

- ‌لبن الضَّأن

- ‌لبن المعز

- ‌لبن البقر

- ‌لبن الإبل:

- ‌لُّبان

- ‌حرف الميم

- ‌ماء

- ‌ماء الثلج والبرَد:

- ‌ماء الآبار والقُنِيِّ

- ‌ماء زمزم:

- ‌ماء النِّيل:

- ‌ماء البحر:

- ‌مِسْك:

- ‌مَرْزَنْجُوش

- ‌مِلْح

- ‌حرف النُّون

- ‌نخل:

- ‌نرجس

- ‌نُورة

- ‌نَبِق

- ‌حرف الهاء

- ‌هندباء

- ‌حرف الواو

- ‌وَرْس

- ‌وَسْمة:

- ‌حرف الياء

- ‌يقطين:

الفصل: ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العشق

وأنفع أوقاته: ما كان بعد انهضام الغذاء في المعدة وفي

(1)

زمانٍ معتدلٍ، لا على جوعٍ فإنَّه يضعف الحارَّ الغريزيَّ، ولا على شِبَعٍ فإنَّه يوجب أمراضًا سُدَديَّة

(2)

، ولا على تعبٍ، ولا إثر حمَّامٍ، ولا استفراغٍ، ولا انفعالٍ نفسانيٍّ كالغمِّ والهمِّ والحزن وشدَّة الفرح.

وأجود أوقاته: بعد هزيعٍ من اللَّيل إذا صادف انهضام الطَّعام. ثمَّ يغتسل أو يتوضَّأ، وينام عقيبه

(3)

، فتَراجَعُ إليه قواه. وليحذر الحركة والرِّياضة عقيبه فإنَّها مضرَّةٌ جدًّا

(4)

.

‌فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العشق

هذا مرضٌ من أمراض القلب مخالفٌ لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه. وإذا تمكَّن واستحكم عزَّ على الأطبَّاء دواؤه، وأعيا العليل داؤه. وإنَّما حكاه الله سبحانه في كتابه عن طائفتين من النَّاس: النِّساء، وعشَّاق الصِّبيان

(5)

المردان. فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف، وحكاه عن قوم

(1)

الواو قبل «في» ساقطة من س.

(2)

ز، حط، ن:«شديدة» ، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف. وانظر: كتاب الحموي (ص 354)، والفقرة مأخوذة منه.

(3)

ز: «عقبه» هنا وفيما يأتي.

(4)

هنا انتهى الجزء الثاني من نسخة الظاهرية (د) التي فرغ من كتابتها محمد بن محمد بن أبي شامة الحنبلي في سلخ شهر رمضان سنة 853. وفي أول الجزء الثالث نقص كبير استمرَّ إلى «لحم الضب» في فصل المفردات.

(5)

لفظ «الصبيان» ساقط من ز.

ص: 384

لوطٍ، فقال تعالى إخبارًا عنهم لمَّا جاءت الملائكة لوطًا:{(66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 67 - 72].

وأمَّا ما زعمه بعض من لم يقدِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم حقَّ قدره أنَّه ابتلي به في شأن زينب بنت جحش، وأنَّه رآها، فقال:«سبحان مقلِّب القلوب» . وأخذت بقلبه، وجعل يقول لزيد بن حارثة:«أَمْسِكْها» ، حتَّى أنزل الله عليه:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]

(1)

. فظنَّ هذا الزَّاعم أنَّ ذلك في شأن العشق.

وصنَّف بعضهم كتابًا في العشق

(2)

، وذكر فيه عشق الأنبياء، وذكر هذه الواقعة. وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسول، وتحميلهِ كلامَ الله ما لا يحتمله، ونسبتهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما برَّأه الله منه. فإنَّ زينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبنَّاه، وكان يُدعى ابن محمد

(3)

،

(1)

أخرج القصَّة بهذا المعنى الباطل ابن سعد في «الطَّبقات الكبرى» (8/ 101 - 102)، والحاكم (4/ 23)، من حديث محمَّد بن يحيى بن حبَّان مرسلًا. وفي سندها محمَّد بن عمر الواقديُّ وهو متروك، عن عبد الله بن عامر الأسلميِّ وهو ضعيف؛ ولذا قال ابن العربيِّ في «أحكام القرآن» (3/ 577) عن هذه الرِّواية وغيرِها ممَّا في معناها:«هذه الرِّوايات كلُّها ساقطةُ الأسانيد» .

(2)

لم أهتد إلى الكتاب المذكور ولا مؤلفه.

(3)

أثبت الفقي: «زيد بن محمد» ، وكذا في طبعة الرسالة.

ص: 385

وكانت زينب فيها شَمَمٌ وترفُّعٌ عليه، فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلاقها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} ، وأخفى في نفسه أن يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد. وكان يخشى من قالة النَّاس أنَّه تزوَّج امرأة ابنه، لأنَّ زيدًا كان يدعى ابنَه، فهذا هو الذي أخفاه في نفسه، وهذه هي الخشية من النَّاس الَّتي وقعت له

(1)

.

ولهذا ذكر الله سبحانه هذه الآية يعدِّد فيها نعمَه عليه، لا يعاتبه فيها. وأعلمه أنَّه لا ينبغي له أن يخشى النَّاسَ فيما أحلَّ الله له، وأنَّ الله أحقُّ أن يخشاه فلا يتحرَّج ما أحلَّه له لأجل قول النَّاس. ثمَّ أخبره أنَّه سبحانه زوَّجه إيَّاها بعد قضاء زيدٍ وطرَه منها، لتقتدي أمَّته به في ذلك، ويتزوَّج الرَّجلُ بامرأة ابنه من التَّبنِّي، لا امرأة ابنه لصلبه.

ولهذا قال في آية التَّحريم: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]. وقال في هذه السُّورة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]. وقال في أوَّلها: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4]، فتأمَّل هذا الذَّبَّ عن رسوله

(2)

، ودفعَ طعن الطَّاعنين عنه. وباللَّه التَّوفيق.

نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ نساءه، وكان أحبَّهنُّ إليه عائشة ولم تكن تبلغ محبَّتُه لها ولا لأحدٍ سوى ربِّه نهايةَ الحبِّ، بل صحَّ عنه

(3)

أنَّه قال: «لو

(1)

وانظر: «الداء والدواء» (ص 528، 555 - 556).

(2)

ن: «رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

(3)

«عنه» ساقط من حط، ن.

ص: 386

كنت متَّخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا»

(1)

. وفي لفظٍ: «وإنَّ صاحبكم خليل الرَّحمن»

(2)

.

فصل

وعشق الصُّور إنَّما تبتلى به القلوب الفارغة من محبَّة الله، المعرضةُ عنه، المتعوِّضةُ بغيره عنه. فإذا امتلأ القلب من محبَّة الله والشَّوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرضَ عشق الصُّور. ولهذا قال تعالى في حقِّ يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخَلِصِينِ

(3)

} [يوسف: 24] فدلَّ على أنَّ الإخلاص سببٌ لدفع العشق وما يترتَّب عليه من السُّوء والفحشاء الَّتي هي ثمرته ونتيجته، فصرفُ المسبَّب صرفٌ لسببه. ولهذا قال بعض السَّلف: العشق حركة قلبٍ فارغٍ

(4)

، يعني فارغًا ممَّا سوى معشوقه.

(1)

أخرجه البخاري (466) ومسلم (8382) من حديث أبي سعيد الخدري. واللفظ المذكور هنا لمسلم (2383) من حديث ابن مسعود، وفيه:«لاتخذت ابن أبي قحافة خليلًا» .

(2)

كذا ذكره المصنف في «جلاء الأفهام» (ص 319) و «روضة المحبين» (ص 76). ولفظ مسلم في حديث ابن مسعود السابق: «

خليل الله». وانظر: «المفهم» للقرطبي (2/ 42).

(3)

«المخلصين» بكسر اللام على قراءة أبي عمرو، وعلى هذه بنى المصنف قوله الآتي. وانظر نحوه في «الداء والدواء» (ص 491) و «إغاثة اللهفان» (2/ 866، 878) و «الفوائد» (ص 117) و «مفتاح دار السعادة» (1/ 198).

(4)

في «روضة المحبين» (ص 144): «ولهذا قيل

». ولم أقف على من قاله من السلف، ولكنه مشهور من قول ذيوجانس الكلبي. ولفظه في «لباب الآداب» لابن منقذ (ص 441):«شغل قلب فارغ لا هم له» . وفي «مختار الحكم» لأبي الوفاء (ص 77): «مرض رجل فارغ لا همة له» . وفي «الواضح المبين» لمغلطاي (ص 45): «سوء اختيار صادف نفسًا فارغة» . وانظر: «التمثيل والمحاضرة» (ص 398) و «بهجة المجالس» (1/ 817). ونحوه قول أرسطو في «الواضح المبين» (ص 45). ولعل الطبيب الحاذق الذي سأله ابن عائشة عن العشق فقال: «شغل قلب فارغ» حكى قول ذيوجانس. انظر: «مصارع العشاق» (1/ 124).

ص: 387

قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] أي فارغًا من كلِّ شيءٍ إلا من موسى، لفرط محبَّتها له وتعلُّق قلبها به.

والعشق مركَّبٌ من أمرين: استحسانٍ للمعشوق، وطمعٍ في الوصول إليه؛ فمتى انتفى أحدهما انتفى العشق.

وقد أعيت علَّة العشق على كثيرٍ من العقلاء وتكلَّم فيها بعضهم بكلامٍ يُرغَب عن ذكره إلى الصَّواب، فنقول:

قد استقرَّت حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره على وقوعِ التَّناسب والتَّآلف بين الأشباه، وانجذابِ الشَّيء إلى موافقه ومجانسه بالطَّبع، وهروبِه من مخالفه ونفرته عنه بالطَّبع. فسرُّ التَّمازج والاتِّصال في العالم العلويِّ والسُّفليِّ إنَّما هو التَّناسب والتَّشاكل والتَّوافق، وسرُّ التَّباين والانفصال إنَّما هو بعدم التَّشاكل والتَّناسب، وعلى ذلك قام الخلق والأمر. فالمثلُ إلى مثله مائل وإليه صائر. والضِّدُّ عن ضدِّه هارب، وعنه نافر. وقد قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، فجعل سبحانه علَّة سكون الرَّجل إلى امرأته كونَها من جنسه وجوهره. فعلَّة السُّكون المذكور ــ وهو الحبُّ ــ كونُها منه، فدلَّ على أنَّ العلَّة ليست بحسن الصُّورة ولا الموافقة في القصد والإرادة ولا في الخُلق والهَدْي، وإن كانت

ص: 388

هذه أيضًا من أسباب السُّكون والمحبَّة

(1)

.

وقد ثبت في الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «الأرواح جنودٌ مجنَّدةٌ، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»

(2)

. وفي «مسند الإمام أحمد»

(3)

وغيره في سبب هذا الحديث: أنَّ امرأةً بمكَّة كانت تُضحك النَّاس، فجاءت إلى المدينة، فنزلت على امرأةٍ تُضحك النَّاس، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«الأرواح جنودٌ مجنَّدةٌ» الحديث.

وقد استقرَّت شريعته سبحانه أنَّ حكم الشَّيء حكمُ مثله، فلا تفرِّق شريعته بين متماثلين أبدًا، ولا تجمع بين متضادَّين. ومن ظنَّ خلاف ذلك فإمَّا لقلَّة علمه بالشَّريعة، وإمَّا لتقصيره في معرفة التَّماثل والاختلاف، وإمَّا

(1)

أصل هذا التقرير كلام ابن حزم في «طوق الحمامة» (ص 94). وانظر: «روضة المحبين» (ص 117 - 118) وقد نقل هناك نصَّ كلامه.

(2)

أخرجه البخاري (3336) عن عائشة رضي الله عنها، ومسلم (2638) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

لم أقف عليه في «مسند الإمام أحمد» . وأخرجه الزُّبير بن بكَّار في «المزاح والمفاكهة» ــ كما في «المقاصد الحسنة» (ص 104) ــ من طريق عليِّ بن أبي طالب اللَّهبيِّ، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنَّ امرأةً كانت بمكَّة تدخل على نساء قريش تضحكهنَّ، فلمَّا هاجرت ووسَّع الله تعالى دخلت المدينة، قالت عائشة: فدخلت عليَّ، فقالت لها فلانة: ما أقدمك؟ قالت: إليكنَّ، قلت: فأين نزلتِ؟ قالت: على فلانة، امرأة كانت تُضحِك بالمدينة، قالت عائشة: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «فلانة المضحِكَة عندكم؟» ، قالت عائشة: نعَم، فقال:«فعلى من نزلَت؟» ، قالت: على فلانة المضحِكة، قال:«الحمد لله، إنَّ الأرواح» وذكره، قال السَّخاويُّ:«أفادت هذه الرِّواية سبب هذا الحديث» . وأخرج أبو يعلى (4381) والبيهقيُّ في «الشُّعب» (8621) هذه القصَّة، لكن فيهما استشهاد عائشة بالحديث، وليس أنَّها سبب الورود.

ص: 389

لنسبته إلى شريعته ما لم ينزِّل به سلطانًا، بل يكون من آراء الرِّجال. فبحكمته وعدله ظهر خلقه وشرعه، وبالعدل والميزان قام الخلق والشَّرع، وهو التَّسوية بين المتماثلين، والتَّفريق بين المختلفين

(1)

.

وهذا كما أنَّه ثابتٌ في الدُّنيا فهو كذلك يوم القيامة. قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23]. قال عمر بن الخطَّاب وبعده الإمام أحمد: أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم

(2)

.

وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] أي: قُرِنَ كلُّ صاحب عملٍ بشكله ونظيره، فقرن

(3)

بين المتحابَّين في الله في الجنَّة، وبين

(4)

المتحابَّين في طاعة الشَّيطان في الجحيم. فالمرء مع من أحبَّ، شاء أم أبى. وفي «صحيح الحاكم»

(5)

وغيره عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا يحبُّ المرءُ قومًا إلا حُشِر معهم» .

(1)

وانظر: «بدائع الفوائد» (3/ 1072).

(2)

قول عمر رواه ابن منيع ــ كما في «المطالب العالية» (4/ 147) ــ بلفظ: «أزواجهم: أشباههم» ، وصحَّحه ابن حجر. ورواه ابن جرير في «تفسيره» (21/ 27، 24/ 244) ولفظه: «وأزواجَهم: ضُرباءَهم» . وعزاه في «الدُّرِّ المنثور» (7/ 83) لعبد الرَّزَّاق والفريابيِّ وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقيِّ في «البعث» ، ولفظه:«أمثالهم الذين هم مثلهم» ، وصحَّحه الحاكم (2/ 431).

(3)

حط، ل:«ففرق» ، تصحيف.

(4)

في النسخ المطبوعة: «وقرن بين» بزيادة «قرن» .

(5)

غيَّره محققا طبعة الرسالة إلى «مستدرك الحاكم» دون تنبيه، وقد ذكره الحاكم (3/ 18) بلا إسنادٍ. وهو بمعناه في الصَّحيحين، فقد أخرج البخاريُّ (5818)، ومسلم (2641)، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قيل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجل يحبُّ القومَ ولمَّا يلحق بهم؟ قال: «المرءُ مع من أحبَّ» .

ص: 390

والمحبَّة أنواعٌ متعدِّدةٌ. فأفضلها وأجلُّها: المحبَّة في الله وللَّه، وهي تستلزم محبَّة ما أحبَّ اللَّه، وتستلزم محبَّة الله ورسوله.

ومنها محبَّة الاتِّفاق في طريقةٍ أو مذهبٍ أو دينٍ أو نِحلةٍ

(1)

أو قرابةٍ أو صناعةٍ أو مرادٍ ما.

ومنها: محبَّةٌ لنيل غرضٍ من المحبوب، إمَّا من جاهه، أو من ماله، أو من تعليمه وإرشاده، أو قضاء وطرٍ منه. وهذه هي المحبَّة العَرَضيَّة

(2)

الَّتي تزول بزوال مُوجِبها، فإنه مَن ودَّك لأمرٍ ولَّى عند انقضائه

(3)

.

وأمَّا محبَّة المشاكلة والمناسبة الَّتي بين المحبِّ والمحبوب، فمحبَّةٌ لازمةٌ لا تزول إلا لمعارضٍ

(4)

يزيلها. ومحبَّة العشق من هذا النَّوع، فإنَّها استحسانٌ روحانيٌّ وامتزاجٌ نفسانيٌّ. ولا يعرض في شيءٍ من أنواع المحبَّة من الوسواس والنُّحول وشغل البال والتَّلف ما يعرض من العشق

(5)

.

فإن قيل: فإذا كان سبب العشق ما ذكرتم من الاتِّصال والتَّناسب

(1)

ل: «محلة» .

(2)

حط، ل:«الغرضية» .

(3)

مقولة «من ودَّك لأمر

» تنسب إلى «بعض ملوك الهند» ، وقيل: وجدت على خاتمه. انظر: «البصائر والذخائر» (1/ 127) و «التذكرة الحمدونية» (1/ 277). وانظر: «العزلة» للخطابي (ص 52). والمصنف صادر عن «طوق الحمامة» (ص 95).

(4)

في طبعة عبد اللطيف وما بعدها: «لعارض» .

(5)

انظر: «طوق الحمامة» (ص 96).

ص: 391

الرُّوحانيِّ، فما باله لا يكون دائمًا من الطَّرفين، بل تجده كثيرًا من طرف العاشق وحده؟ فلو كان سببه الاتِّصال النَّفسيَّ والامتزاج الرُّوحانيَّ لكانت المحبَّة مشتركةً بينهما

(1)

.

فالجواب: أنَّ السَّبب قد يتخلَّف عنه مسبَّبُه لفوات شرطٍ، أو لوجود مانعٍ. وتخلُّفُ المحبَّة من الجانب الآخر لا بدَّ أن يكون لأحد ثلاثة أسبابٍ:

الأوَّل

(2)

: علَّةٌ في المحبَّة، وأنَّها محبَّةٌ عرضيَّةٌ غرضية

(3)

، لا ذاتيَّةٌ. ولا يجب الاشتراك في المحبَّة العرضيَّة الغرضية، بل قد يلزمها نفرةٌ من المحبوب.

الثَّاني: مانعٌ يقوم بالمحبِّ يمنع محبَّة محبوبه له، إمَّا في خَلْقه أو في خُلُقه أو هَدْيه أو فعله أو هيئته أو غير ذلك.

الثَّالث: مانعٌ يقوم بالمحبوب يمنع مشاركته للمحبِّ في محبَّته. ولولا ذلك المانع لقام به من المحبَّة لمحبِّه مثلُ ما قام بالآخر.

فإذا انتفت

(4)

هذه الموانع، وكانت المحبَّة ذاتيَّةً، فلا تكون قطُّ إلا من الجانبين. ولولا مانعُ الكبر والحسد والرِّياسة والمعاداة في الكفَّار لكانت الرُّسل أحبَّ إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم. ولمَّا زال هذا المانع من

(1)

قارن هذا الإيراد وجوابه بما قاله ابن حزم في المصدر السابق.

(2)

لفظ «الأول» ساقط من ز.

(3)

لفظة «غرضية» ساقطة من النسخ المطبوعة، وكذا «الغرضية» فيما يأتي. ظنَّها ناسخ أو ناشر مكررة إذ قرأها بالعين المهملة كسابقتها.

(4)

ز، س، ل:«اتفقت» ، تصحيف.

ص: 392

قلوب أتباعهم كانت محبَّتهم لهم فوق محبَّة الأنفس والأهل والمال.

فصل

والمقصود: أنَّ العشق لمَّا كان مرضًا من الأمراض كان قابلًا للعلاج. وله أنواعٌ من العلاج:

فإن كان ممَّا للعاشق سبيلٌ إلى وصل محبوبه شرعًا وقدرًا، فهو علاجه؛ كما ثبت في «الصَّحيحين»

(1)

من حديث ابن مسعودٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشَّباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج. ومن لم يستطع فعليه بالصَّوم، فإنَّه له وجاءٌ» . فدلَّ المحبَّ على علاجين: أصليٍّ وبدليٍّ. وأمره بالأصليِّ، وهو العلاج الذي وُضِعَ لهذا الدَّاء، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلًا.

وروى ابن ماجه في «سننه»

(2)

عن ابن عبَّاسٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لم يُرَ للمتحابَّين مثلُ النِّكاح» . وهذا هو المعنى الذي أشار إليه سبحانه عقيبَ إحلال النِّساء حرائرهنَّ وإمائهنَّ عند الحاجة بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]. فذكرُ تخفيفه ــ سبحانه ــ في هذا الموضع وإخبارُه عن ضعف الإنسان يدلُّ على ضعفه عن احتمال هذه الشَّهوة وأنَّه سبحانه خفَّف عنه أمرَها، بما أباحه له من أطايب النِّساء مثنى وثلاث ورباع، وأباح له ما شاء ممَّا ملكت يمينه. ثمَّ أباح له أن يتزوَّج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجًا لهذه الشَّهوة، وتخفيفًا عن هذا الخلق الضَّعيف

(1)

البخاري (5065) ومسلم (1400)، وقد تقدم.

(2)

برقم (1847). تقدَّم تخريجه، وبيانُ أنَّ الصَّواب فيه الإرسال.

ص: 393

ورحمةً به

(1)

.

فصل

وإن كان لا سبيل للعاشق إلى وصال معشوقه قدرًا أو شرعًا، أو هو ممتنعٌ عليه من الجهتين

(2)

ــ وهو الدَّاء العضال ــ فمن علاجه: إشعارُ نفسه اليأسَ منه، فإنَّ النَّفس متى يئست من الشَّيء استراحت منه ولم تلتفت إليه. فإن لم يزل مرض العشق مع اليأس، فقد انحرف الطَّبع انحرافًا شديدًا، فينتقل إلى علاجٍ آخر. وهو علاج عقله بأن يعلم أنَّ

(3)

تعلُّق القلب بما لا مطمع في حصوله نوعٌ من الجنون، وصاحبُه بمنزلة من يعشق الشَّمسَ، وروحُه متعلِّقةٌ بالصُّعود إليها والدَّوران معها في فلكها. وهذا معدودٌ عند جميع العقلاء في زمرة المجانين.

وإن كان الوصال متعذِّرًا شرعًا لا قدرًا، فعلاجه بأن ينزِّله منزلة المتعذِّر قدرًا، إذ ما لم يأذن فيه اللَّه فعلاج العبد ونجاته موقوفٌ على اجتنابه. فليُشعِر نفسَه أنَّه معدومٌ ممتنعٌ لا سبيل له إليه، وأنَّه بمنزلة سائر المحالات.

فإن لم تجبه النَّفس الأمَّارة فليتركه لأحد أمرين

(4)

: إمَّا خشيةً، وإمَّا فواتَ محبوبٍ

(5)

هو أحبُّ إليه، وأنفع له، وخيرٌ له منه، وأدوم لذَّةً وسرورًا؛

(1)

وانظر: «الداء والدواء» (ص 552 - 554) و «روضة المحبين» (ص 299).

(2)

العبارة «فإذا كان سبب العشق ما ذكرتم» في الفصل السابق إلى هنا ساقطة من (حط).

(3)

في النسخ المطبوعة: «بأن» .

(4)

حط: «سببين» .

(5)

كذا في الأصل وسائر النسخ الخطية والمطبوعة. وأخشى أن يكون الصواب: «إمَّا خشيةً من فوات محبوبٍ» . والأمر الثاني مذكور في الفقرة الآتية: «الثاني: حصول مكروه» يعني: وإما خشيةً من حصول مكروه. وجمعهما في الفقرة التي بعد «الثاني» : «بل يجتمع له الأمران» .

ص: 394

فإنَّ العاقل متى وازن بين نيل محبوبٍ سريع الزَّوال بفوات محبوبٍ أعظمَ منه وأدومَ وأنفعَ وألذَّ أو بالعكس ظهر له التَّفاوتُ. فلا يَبِعْ

(1)

لذَّة الأبد الَّتي لا خطَر لها

(2)

، بلذَّة ساعةٍ تنقلب آلامًا، وحقيقتها أنَّها أحلام نائمٍ، أو خيالٌ لا ثبات له. فتذهب اللَّذَّة، وتبقى التَّبعة. وتزول الشَّهوة، وتبقى الشِّقوة

(3)

.

الثَّاني: حصول مكروهٍ أشقَّ عليه من فوات هذا المحبوب.

بل يجتمع له الأمران، أعني: فواتَ ما هو أحبُّ إليه من هذا المحبوب، وحصولَ ما هو أكره إليه

(4)

من فوات هذا المحبوب.

فإذا تيقَّن أنَّ في إعطاء النَّفس حظَّها من هذا المحبوب هذين الأمرين هان عليه تركُه، ورأى أنَّ صبره على فوته أسهل من صبره عليهما بكثيرٍ. فعقله ودينه ومروءته وإنسانيَّته يأمره باحتمال الضَّرر اليسير الذي ينقلب سريعًا لذَّةً وسرورًا وفرحًا، لدفع هذين الضَّررين العظيمين. وجهله وهواه وظلمه وطيشه وخفَّته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه، جالبًا عليه ما جلَب. والمعصومُ مَن عصَم اللَّهُ.

فإن لم تقبل نفسه هذا الدَّواء، ولم تطاوعه لهذه المعالجة، فلينظر ما

(1)

في ف: «تبع» .

(2)

أي لا عوض عنها، ولا نظير لها. انظر تعليقي على «الداء والدواء» (ص 81).

(3)

في الأصل (ف) هنا حاشية نصُّها: «ولقد أحسن من قال:

خفِ الله واحذر من عواقب شهوةٍ

فلذتها تفنى ويبقى لك الوزرُ»

(4)

س: «له» . وكذا أضيف في ن وكان ساقطًا.

ص: 395

تجلب عليه هذه الشَّهوة من مفاسد عاجِلَته، وما تمنعه من مصالحها؛ فإنَّها أجلَبُ شيءٍ لمفاسد الدُّنيا، وأعظَمُ شيءٍ تعطيلًا لمصالحها؛ فإنَّها تحول بين العبد وبين رشده الذي هو ملاك أمره وقوام مصالحه.

فإن لم تقبل نفسه هذا الدَّواء، فليتذكَّر قبائح المحبوب وما يدعوه إلى النُّفرة عنه؛ فإنَّه إن طلبها وتأمَّلها وجدها أضعاف محاسنه الَّتي تدعو إلى حبِّه. وليسأل جيرانه عمَّا خفي عليه منها. فإنَّ المحاسن كما هي داعية الحبِّ

(1)

والإرادة، فالمساوي داعية البغض والنُّفرة. فليوازن بين الدَّاعيين، وليحبَّ أسبقهما وأقربهما منه بابًا. ولا يكن ممَّن غرَّه ثوبُ

(2)

جمالٍ على جسمٍ أبرص مجذومٍ. وليجاوز بصرُه حسنَ الصُّورة

(3)

إلى قبح الفعل، وليعبُرْ من حسن المنظر والجسم إلى قبح المَخْبَر والقلب.

فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلُّها لم يبق له إلا صدقُ اللَّجأ إلى من يجيب المضطرَّ إذا دعاه. وليطرح

(4)

نفسه بين يديه على بابه مستغيثًا به، متضرِّعًا متذلِّلًا مستكينًا. فمتى وُفِّق لذلك فقد قرَع باب التَّوفيق. وَلْيعفَّ، وَلْيكتُمْ، ولا يشبِّبْ بذكر المحبوب، ولا يفضَحْه بين النَّاس ويعرِّضْه للأذى، فإنَّه يكون ظالمًا معتديًا

(5)

.

(1)

س، ل:«إلى الحب» ، وكذا «إلى البغض» في الجملة الآتية.

(2)

ز، ل:«لوث» ، وأشير في هامش س إلى هذه النسخة، وكذا في الطبعة الهندية. وفي طبعة عبد اللطيف وما بعدها:«لون» .

(3)

س: «الصور» .

(4)

ز: «فليطرح» .

(5)

ز، ل، ن:«متعدِّيًا» .

ص: 396

ولا يغترَّ بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه سويد بن سعيدٍ، عن عليِّ بن مسهرٍ، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عبَّاسٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. ورواه عن أبي مسهرٍ أيضًا، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. ورواه الزُّبير بن بكَّارٍ عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد العزيز بن أبي حازمٍ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهد، عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«من عشِقَ، فعفَّ، فمات، فهو شهيدٌ»

(1)

. وفي روايةٍ: «من عشق، وكتَم، وعفَّ، وصَبر= غفر الله له، وأدخله الجنَّة»

(2)

. فإنَّ هذا الحديث لا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز أن يكون من كلامه، فإنَّ الشَّهادة درجةٌ عاليةٌ عند اللَّه، مقرونةٌ بدرجة الصِّدِّيقيَّة، ولها أعمالٌ وأحوالٌ هي شرطٌ في حصولها. وهي نوعان: خاصَّةٌ، وعامَّةٌ. فالخاصَّة: الشَّهادة في سبيل اللَّه.

والعامَّة خمسٌ مذكورةٌ في

(1)

أخرجه بهذا اللَّفظ الخرائطيُّ في «اعتلال القلوب» (106)، وابن حبَّان في «المجروحين» (1/ 352)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 364، 6/ 48، 11/ 295، 13/ 185).

(2)

أخرجه بهذا اللَّفظ الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 330)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (43/ 195). قال المصنِّف في «الداء والدواء» (ص 571 - 572):«كلام حفَّاظ الإسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم يُرجع في هذا الشَّأن، ولا صحَّحه ولا حسَّنه أحدٌ يُعوَّل في علم الحديث عليه، ويُرجَع في التَّصحيح إليه، ولا مَن عادتُه التَّسامحُ والتَّساهل، فإنَّه لم يصف نفسه له، ويكفي أنَّ ابن طاهر الَّذي يتساهَل في أحاديث التَّصوُّف ويروي منها الغثَّ والسَّمين قد أنكره وشهد ببطلانه» . وينظر: «العلل المتناهية» (2/ 285)، و «المقاصد الحسنة» (1153)، و «السلسلة الضعيفة» (409).

ص: 397

الصَّحيح

(1)

، ليس العشق واحدًا منها.

وكيف يكون العشق الذي هو شركٌ في المحبَّة، وفراغٌ

(2)

عن اللَّه، وتمليكُ القلب والرُّوح والحبِّ لغيره= تُنال به درجةُ الشَّهادة؟ هذا من المحال، فإنَّ إفساد عشق الصُّور للقلب فوق كلِّ إفسادٍ، بل هو خمرُ الرُّوح الذي يُسكرها، ويصدُّها عن ذكرِ الله وحبِّه، والتَّلذُّذِ بمناجاته، والأنسِ به؛ ويوجب عبوديَّة القلب لغيره، فإنَّ قلب العاشق متعبد لمعشوقه. بل العشق لبُّ العبوديَّة، فإنَّها كمال الذُّلِّ والحبِّ والخضوع والتَّعظيم. فكيف يكون تعبُّدُ القلب لغير الله ممَّا تنال به درجةُ أفاضل الموحِّدين وسادتهم وخواصِّ الأولياء؟ فلو كان إسناد هذا الحديث كالشَّمس كان غلطًا ووهمًا

(3)

. ولا يُحفَظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظُ العشق في حديثٍ صحيحٍ البتَّة.

ثمَّ إنَّ العشق منه حلال، ومنه حرام. فكيف يظنُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

أنَّه يحكم على كلِّ عاشقٍ يكتُم ويعِفُّ بأنَّه شهيدٌ. أفَترى من يعشق امرأة غيره أو يعشق المردان والبغايا، ينال بعشقه درجة الشُّهداء؟ وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه صلى الله عليه وسلم؟ كيف والعشق مرضٌ من الأمراض الَّتي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعًا وقدرًا؟ والتَّداوي منه إمَّا واجبٌ إن كان عشقًا حرامًا، وإمَّا مستحبٌّ.

(1)

وذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري (653) وفيه:«الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله» .

(2)

في النسخ المطبوعة: «وفراغ القلب» ، والظاهر أن لفظ «القلب» زيادة ناسخ أو ناشر.

(3)

س: «وهنا» ، تحريف.

(4)

هنا كتب ناسخ الأصل (ف): «صلم» ، ومن عادته كتابة «صلى الله علم» .

ص: 398

وأنت إذا تأمَّلت الأمراض والآفات الَّتي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابها بالشَّهادة وجدتها من الأمراض الَّتي لا علاج لها، كالمطعون والمبطون والمجنوب

(1)

والحريق

(2)

والغريق وموت المرأة يقتلها ولدُها في بطنها

(3)

. فإنَّ هذه بلايا من الله، لا صنع للعبد فيها، ولا علاج لها، وليست أسبابها محرَّمةً، ولا يترتَّب عليها من فساد القلب وتعبُّده لغير الله ما يترتَّب على العشق.

فإن لم يكف هذا في إبطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلِّد أئمَّةَ الحديث العالمين به وبعلله، فإنَّه لا يُحفَظ عن إمامٍ واحدٍ منهم قطُّ أنَّه شهد له بصحَّةٍ، بل ولا بحسنٍ. كيف وقد أنكروا على سويد هذا الحديث، ورمَوه لأجله بالعظائم، واستحلَّ بعضُهم غزوَه لأجله!

قال أبو أحمد بن عديٍّ في «كامله»

(4)

: هذا الحديث أحد ما أُنكِر على سويد. وكذلك قال البيهقي

(5)

: إنَّه ممَّا أنكر عليه. وكذلك قال ابن طاهرٍ في

(1)

يعني مَن به ذات الجنب. وفيما عدا الأصل (ف): «المجنون» ، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف.

(2)

ز، س، ل:«الحرِق» . وكذا في الطبعة الهندية، وفيها أيضًا بعده:«الغرق» .

(3)

أخرجه مالك (629)، ومن طريقه أخرجه أحمد (23753) وأبو داود (3111) والنسائي في «الكبرى» (1985)، وصححه ابن حبان (3189، 3190) والحاكم (1/ 351).

(4)

س: «كتابه» ، تحريف. ولم أجده في المطبوع، ولعله مما سقط منه. وهذه الفقرة كلها من «الواضح المبين» لمغلطاي (ص 19).

(5)

نقله عنه ابن حجر في «التلخيص الحبير» (2/ 325). ولم أقف عليه في كتبه المطبوعة.

ص: 399

«الذَّخيرة»

(1)

. وذكره الحاكم في «تاريخ نيسابور»

(2)

وقال: إنما

(3)

أتعجَّب من هذا الحديث فإنَّه لم يحدِّث به غيرُ سويد، وهو ثقةٌ. وذكره أبو الفرج بن الجوزيُّ في كتاب «الموضوعات»

(4)

،

وكان أبو بكر الأزرق يرفعه أوَّلًا عن سويد، فعوتب فيه، فأسقط ذكرَ

(5)

النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان لا يجاوز به ابنَ عبَّاسٍ.

ومن المصائب الَّتي لا تُحتَمل: جعلُ هذا الحديث من حديث هشام بن

(1)

لم أجده في المطبوع. وقد ضمّ إليه في «الداء والدواء» (565) كتاب «التذكرة» لابن طاهر، كما في «الواضح المبين». انظر:«التذكرة» (ص 340).

(2)

ونقل الذهبي عن الحاكم أنه ذكر أن حديث العشق أُنْكِر عليه، ثم نقل الحاكم عن ابن معين لما ذُكِر له هذا الحديث قال: لو كان لي فرس ورمح غزوت سويدًا. انظر: «سير أعلام النبلاء» (7/ 418) و «لسان الميزان» (1/ 429).

(3)

ما عدا ل: «أنا» ، وكذا في طبعة عبد اللطيف وما بعدها، وكذا في «الداء والدواء» (ص 569). وفي «الواضح المبين» ــ وهو مصدر النقل ــ ما أثبت، وكذا في الطبعة الهندية و «روضة المحبين» (ص 267).

(4)

وكذا قال في «روضة المحبين» (ص 269): «وأدخله في كتابه الموضوعات» . وفي «الداء والدواء» (ص 568): «وعدَّه في الموضوعات» . قال الكناني في «تنزيه الشريعة» (ص 364): «ذكر غير واحد من المصنفين أن هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات وأعلَّه بسويد بن سعيد. وتعقبوه بأنَّ سويدًا من رجال مسلم وبأنه تابعه المنجنيقي، ومن طريقه أخرجه الدارقطني. ولم يذكر السيوطي الحديث في كتبه. فلعل نسخ الموضوعات تختلف. والله أعلم» . قلت: وقد ذكره ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (ص 771).

هذا، ولم يشر مغلطاي إلى ذكره في «موضوعات ابن الجوزي» ، وإنما نقل عنه عتاب ابن المرزبان لأبي بكر الأزرق. وذلك من كتابه «ذم الهوى» (ص 329) ولم يسمِّه.

(5)

وقد أسقطت النسخ المطبوعة كلمة «ذكر» ، وهو سقط شنيع.

ص: 400

عروة عن أبيه عن عائشة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

. ومن له أدنى إلمامٍ بالحديث وعلله لا يحتمل هذا البتَّة. ولا يحتمل أن يكون من حديث الماجشون، عن ابن أبي حازم، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد، عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا. وفي صحَّته موقوفًا على ابن عبَّاسٍ نظرٌ.

وقد رمى النَّاس سويد بن سعيدٍ راوي هذا الحديث بالعظائم. وأنكره عليه يحيى بن معينٍ، وقال: هو ساقط كذَّاب. لو كان لي فرسٌ ورمحٌ كنت أغزوه. وقال الإمام أحمد: متروك الحديث. وقال النَّسائيُّ: ليس بثقةٍ. وقال البخاريُّ: كان قد عمي، فتلقَّنَ

(2)

ما ليس من حديثه. وقال ابن حبَّان: يأتي بالمعضلات عن الثِّقات. يجب مجانبةُ ما روى

(3)

. انتهى.

وأحسن ما قيل فيه: قول أبي حاتمٍ الرَّازيِّ: إنَّه صدوقٌ كثير التَّدليس. ثمَّ قول الدَّارقطنيِّ: هو ثقةٌ، غير أنَّه لمَّا كبر كان ربَّما قرئ عليه حديثٌ فيه بعضُ النَّكارة، فيجيزه

(4)

. انتهى.

وعِيبَ

(5)

على مسلمٍ إخراجُ حديثه، وهذه حاله. ولكن مسلمٌ روى من

(1)

أخرجه بهذا الإسناد الخطيب في «تاريخ بغداد» (12/ 475) من طريق أحمد بن محمَّد بن مسروق الطُّوسي، عن سويد، عن عليِّ بن مسهر، عن هشام به، وقال:«رواه غير واحد عن سويد، عن عليِّ بن مسهر، عن أبي يحيى القتَّات، عن مجاهد، عن ابن عبَّاس، وهو المحفوظ» .

(2)

ل: «وتلقن» . وفي س: «فلقن» .

(3)

هذه الأقوال كلها منقولة من «الضعفاء والمتروكون» لابن الجوزي (2/ 32).

(4)

انظر القولين في المصدر السابق.

(5)

س: «عُتب» ، ولعله تصحيف.

ص: 401