الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حرِّ المصيبة وحزنها
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. وفي «المسند»
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «ما من أحدٍ تصيبه مصيبةٌ، فيقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللَّهمَّ أْجُرْني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيرًا منها= إلا أَجَرَه
(2)
الله في مصيبته، وأخلَفَ له خيرًا منها».
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنَّها تتضمَّن أصلين عظيمين، إذا تحقَّق العبد بمعرفتهما تسلَّى عن مصيبته:
أحدهما: أنَّ العبد وأهله وماله ملكٌ لله عز وجل حقيقةً. وقد جعله عند العبد عاريةً، فإذا أخذه منه فهو كالمُعِير يأخذ متاعَه من المستعير. وأيضًا فإنَّه محفوفٌ بعدمين: عدمٍ قبله، وعدمٍ بعده. وملكُ العبد له منفعة
(3)
معارةٌ في زمنٍ يسيرٍ. وأيضًا فإنَّه ليس هو الذي أوجده عن عدمه حتَّى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يُبقي عليه وجودَه؛ فليس له فيه تأثيرٌ ولا ملكٌ حقيقيٌّ. وأيضًا فإنَّه متصرِّفٌ فيه بالأمر تصرُّفَ العبد المأمور المنهيِّ، لا تصرُّفَ المُلَّاك. ولهذا لا يباح له من التَّصرُّفات فيه
(1)
برقم (26635) من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها. وهو في «صحيح مسلم» (918).
(2)
س: «آجره» ، وكذا في الطبعة الهندية، وهي رواية في الحديث. وفي طبعة عبد اللطيف ــ وكذا في طبعة الرسالة ــ:«أجاره» ، كأن مصححها قرأ:«اللهم أجِرْني في مصيبتي» ، فأثبت هنا:«أجاره» ، وهو غلط.
(3)
ما عدا س، ث، ل، ن:«منعة» .
إلا ما وافق أمرَ مالكه الحقيقيِّ.
والثَّاني: أنَّ مصيرَ العبد ومرجعَه إلى الله مولاه الحقِّ، ولا بدَّ أن يخلِّف الدُّنيا وراء ظهره، ويجيء ربَّه فردًا كما خلقه أوَّل مرَّةٍ، بلا أهلٍ ولا مالٍ ولا عشيرةٍ، ولكن بالحسنات والسَّيِّئات. فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّلَه ونهايتَه، فكيف يفرح بموجودٍ، أو يأسى على مفقودٍ! ففكرُه في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الدَّاء.
ومن علاجه: أن يعلم علمَ اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22 - 23].
ومن علاجه: أن ينظر إلى ما أصيب به، فيجد ربَّه قد أبقى عليه مثلَه أو أفضلَ منه، وادَّخر
(1)
له ــ إن صبَر ورضِيَ ــ ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعافٍ مضاعفةٍ، وأنَّه لو شاء لجعلها أعظم ممَّا هي.
ومن علاجه: أن يطفئ نار مصيبته ببرد التَّأسِّي بأهل المصائب، وَلْيعلَمْ أنَّه «في كلِّ وادٍ بنو سعدٍ»
(2)
. ولينظر يَمْنةً، فهل يرى إلا محنةً؟ ثمَّ ليعطِفْ
(1)
ز، س، ث، ل:«واذخر» .
(2)
هذا مثل. روي أن الأضبط بن قريع السعدي وهو جاهلي قديم آذاه قومه، فتحوَّل عنهم إلى آخرين، فآذوه، فقال:«بكل وادٍ بنو سعد» . انظر: «البخلاء» للجاحظ (ص 189 - الحاجري) و «الحيوان» (3/ 104) و «جمهرة الأمثال» (1/ 61).
يَسْرةً، فهل يرى إلا حسرةً
(1)
؟ وأنَّه لو فتَّش العالم لم ير فيهم إلا مبتلًى إمَّا بفوات محبوبٍ أو حصول مكروهٍ.
وإنَّ سرور
(2)
الدُّنيا «أحلام نومٍ أو كظلٍّ زائلٍ»
(3)
. إن أضحكَتْ قليلًا أبكَتْ كثيرًا. وإن سرَّت يومًا ساءت دهرًا. وإن متَّعت قليلًا منعت طويلًا. وما ملأت دارًا حَبْرَة
(4)
إلا ملأتها عَبْرةً، ولا سرَّته بيوم سرورٍ إلا خبَّأت له يومَ شرورٍ!
قال ابن مسعودٍ: لكلِّ فَرحةٍ تَرحةٌ، وما ملئ بيتٌ فرَحًا إلا ملئ ترَحًا
(5)
.
(1)
انظر هذه العبارة: «ولينظر يمنة
…
حسرة» ضمن فصول من كلام ابن الجوزي نقلها المصنف في «بدائع الفوائد» (3/ 1211) من «المدهش» (2/ 671)، وهي من رسالة لبديع الزمان يعزِّي بها أبا عامر الضبي. انظر:«رسائل بديع الزمان» (ص 93) و «يتيمة الدهر» (4/ 298).
(2)
في طبعة الرسالة: «شرور» ، وهو تصحيف.
(3)
عجزه:
إنَّ اللبيب بمثلها لا يُخدَعُ
والبيت أنشده المصنف في «الداء والدواء» (ص 173) و «مفتاح دار السعادة» (ص 418) و «عدة الصابرين» (ص 435). وهو من أبيات مشهورة تنسب إلى عمران بن حِطَّان. انظر: «شعر الخوارج» (ص 155). وفي «الزهد» لابن أبي الدنيا (ص 219) عن قتادة أن عمران أنشده إياها. وفيه (ص 171) أيضًا عن الحسن البصري أن إبراهيم بن عبد الملك أنشده إياها لسليمان بن يزيد العدَوي.
(4)
يعني: «فرحة» . وفي طبعة الرسالة «خيرة» تبعًا للطبعات السابقة، وهو تصحيف.
(5)
أخرجه وكيع في «الزُّهد» (506، 507) ــ وعنه ابن أبي شيبة (35716)، وأحمد في «الزُّهد» (901) ــ، وأبو داود في «الزهد» (144، 145)، وابن أبي الدُّنيا في «الاعتبار» (3)، والبيهقيُّ في «الشُّعب» (10157، 10158). واقتصر بعضهم على جزئه الأوَّل.
وقال ابن سيرين: ما كان ضَحِكٌ قطُّ إلا كان من بعده بكاءٌ
(1)
.
وقالت هند بنت النعمان: لقد رأيتُنا ونحن من أعزِّ النَّاس وأشدِّهم مُلكًا ثمَّ لم تغب الشَّمس حتَّى رأيتُنا ونحن أقلُّ النَّاس. وإنَّه حقٌّ على الله أن لا يملأ دارًا حَبْرة
(2)
إلا ملأها عَبْرةً
(3)
.
وسألها رجلٌ أن تحدِّثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذا صباحٍ وما في العرب أحدٌ إلا يرجونا، ثمَّ أمسينا وما في العرب أحدٌ إلا يرحمنا
(4)
.
وبكت أختها حُرَقة بنت النعمان يومًا وهي في عزِّها، فقيل لها: ما يبكيكِ؟ لعلَّ أحدًا آذاكِ. قالت: لا، ولكن رأيتُ غَضَارةً في أهلي، وقلَّما امتلأت دارٌ سرورًا إلا امتلأت حزنًا
(5)
.
قال إسحاق بن طلحة: دخلتُ عليها يومًا، فقلت لها: كيف رأيتِ عبرات
(6)
الملوك؟ فقالت: ما نحن فيه اليوم خيرٌ ممَّا كنَّا فيه الأمس. إنَّا نجد
(1)
أخرجه ابن أبي الدُّنيا في «الاعتبار» (5).
(2)
هنا أيضًا تصحفت في النسخ المطبوعة إلى «خيرة» .
(3)
أخرجه ابن أبي الدُّنيا في «الاعتبار» (8).
(4)
المصدر السابق (10).
(5)
المصدر السابق (9). وفيه: «في أهلكم» ، تعني هانئ بن قبيصة. وهو الذي سألها: ما يبكيك؟ وكأنَّ المصنِّف لما حذف اسم هانئ غيَّر الضمير أيضًا. والصواب ما ورد في كتاب «الاعتبار» . انظر: «التعازي» للمدائني (ص 86) و «البيان والتبيُّن» (3/ 145، 161). والغَضارة: السعة وطيب العيش.
(6)
ث: «غُبَّرات» مضبوطًا بضم الغين المعجمة يعني: آخر أمرهم. وهو محتمل. وفي «المنتظم» لابن الجوزي (2/ 335): «عثرات» . وفي مطبوعة «الاعتبار» : «خيرات» ، وقد يكون مصحفًا عن «حَسَرات». وفي «المؤتلف والمختلف» للدارقطني:«عمرات» ، ولعله تصحيف «غمرات». وفيه أيضًا:«إسحاق بن عبيد الله» في موضع «إسحاق بن طلحة» .
في الكتب أنَّه ليس من أهل بيتٍ يعيشون في حَبْرة إلا سيُعْقَبون بعدها عَبْرةً، وأنَّ الدَّهر لم يظهر لقومٍ بيومٍ يحبُّونه، إلا بطَن لهم بيومٍ يكرهونه. ثمَّ قالت:
فبينا نسوسُ النَّاسَ والأمرُ أمرُنا
…
إذا نحن فيهم سُوقةٌ نتنصَّف
(1)
فأفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمُها
…
تقلَّبُ تاراتٍ بنا وتصرَّفُ
(2)
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ الجزَع لا يردُّها، بل يضاعفها. وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ فوتَ ثواب
(3)
الصَّبر والتَّسليم ــ وهو الصَّلاة والرَّحمة والهداية الَّتي ضمنها الله على الصَّبر والاسترجاع ــ أعظمُ من المصيبة في الحقيقة.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ الجزع يُشْمِتُ عدوَّه، ويسوء صديقَه، ويُغضِب ربَّه، ويسرُّ شيطانه، ويُحْبِط أجرَه، ويُضْعِف نفسَه. وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه وردَّه خاسئًا، وأرضى ربَّه، وسرَّ صديقه، وساء عدوَّه، وحمل عن إخوانه وعزَّاهم هو قبل أن يُعزُّوه. فهذا هو الثَّبات
(1)
نتنصَّف: نخدم.
(2)
أخرجه ابن أبي الدُّنيا في «الاعتبار» (14). والبيتان في «حماسة أبي تمام» (ص 310) و «المؤتلف والمختلف» للآمدي (ص 145) و «مروج الذهب» (2/ 79) و «الجليس الصالح» (1/ 124 - 125).
(3)
لفظ «ثواب» ساقط من د.
والكمال الأعظم، لا لطمُ الخدود وشقُّ الجيوب، والدُّعاء بالويل والثُّبور، والسُّخط على المقدور.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ ما يُعقِبه الصَّبر والاحتساب من اللَّذَّة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه. ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذي يبنى له في الجنَّة على حمده لربِّه واسترجاعه. فلينظر: أيُّ المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنَّة الخلد؟
وفي الترمذي
(1)
مرفوعًا: «يودُّ ناسٌ يوم القيامة أنَّ جلودهم كانت تُقْرَض بالمقاريض في الدُّنيا لما يرَون من ثواب أهل البلاء» .
وقال بعض السَّلف: لولا مصائب الدُّنيا لوردنا القيامة مفاليسَ
(2)
.
(1)
برقم (2402) من طريق عبد الرَّحمن بن مغراء، عن الأعمش، عن أبي الزُّبير، عن جابر رضي الله عنه بنحوه. وأخرجه أيضًا ابن أبي الدُّنيا في «المرض» (202)، والطَّبراني في «الصَّغير» (241)، وغيرهما. قال التِّرمذيُّ:«حديث غريبٌ، لا نعرفه بهذا الإسناد إلَّا من هذا الوجه، وقد روى بعضُهم هذا الحديثَ عن الأعمش، عن طلحة بن مصرِّف، عن مسروق قولَه شيئًا من هذا» ، وفي «تاريخ دمشق» (35/ 457):«حديثٌ منكر، لا أصلَ له من حديث أبي الزُّبير، ولا من حديث الأعمش، ولا يُعرف للأعمش سماع من أبي الزُّبير، ولا رواية من وجه يصحُّ» ، وبالغ ابن الجوزيِّ فذكره في «الموضوعات» (3/ 202)، وقال النَّوويُّ في «الخلاصة» (2/ 898):«إسنادُه فيه ضعف» ؛ وذلك لأنَّهم تكلَّموا في حديث ابن مغراء عن الأعمش، ومع ذلك صحَّحه الضِّياء كما في «اللَّآلئ المصنوعة» (2/ 334)، وله شاهدٌ حسَّنه به الألبانيُّ في «السِّلسلة الصَّحيحة» (2206).
(2)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 164)، والبيهقيُّ في «الشُّعب» (9521)، من كلام إبراهيم المقري. وذكره ابن الجوزيِّ في «صفة الصَّفوة» (4/ 38) من كلام أمِّ إبراهيم العابدة.
ومن علاجها: أن يروِّح قلبه برَوْحِ رجاء الخَلَف من اللَّه، فإنَّه من كلِّ شيءٍ عوضٌ إلا اللَّه، فما منه عوضٌ كما قيل:
من كلِّ شيءٍ إذا ضيَّعتَه عوضٌ
…
وما من الله إن ضيَّعته عوضُ
(1)
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ حظَّه من المصيبة ما تُحْدِثه له، فمن رضي فله الرِّضى، ومن سَخِط فله السُّخط. فحظُّك منها ما أحدَثَتْه لك، فاختَرْ خيرَ الحظوظ أو شرَّها. فإن أحدثَتْ له سخطًا وكفرًا كُتِبَ في ديوان الهالكين. وإن أحدثت له جزعًا وتفريطًا في ترك واجبٍ أو فعل محرَّمٍ كُتِبَ في ديوان المفرِّطين. وإن أحدثَتْ له شكايةً وعدم صبرٍ كُتِب في ديوان المغبونين. وإن أحدثَتْ له اعتراضًا على الله وقدحًا في حكمته، فقد قرَع بابَ الزَّندقة أو وَلَجه. وإن أحدثَتْ له صبرًا وثباتًا للَّه كُتِبَ في ديوان الصَّابرين. وإن أحدثت له الرِّضى عن اللَّه كُتِب في ديوان الرَّاضين. وإن أحدثَتْ له الحمد والشُّكر كُتِبَ في ديوان الشَّاكرين، وكان تحت لواء الحمد مع الحمَّادين
(2)
. وإن أحدثَتْ له محبَّةً واشتياقًا إلى لقاء ربِّه كُتِبَ في ديوان المحبِّين المخلصين.
وفي «مسند الإمام أحمد» والتِّرمذيِّ
(3)
من حديث محمود بن لبيدٍ
(1)
لم أقف على قائله. وقد أنشده المؤلف في «الداء والدواء» (ص 173، 462) و «مفتاح دار السعادة» (2/ 1169). وانظر: «طبقات الشافعية» للسبكي (8/ 228).
(2)
ز، ث، ل، ن:«الحامدين» .
(3)
«مسند أحمد» (23623، 23633، 23641)، ولفظه:«إنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصَّبر، ومن جزع فله الجزع» ، ولم يخرجه التِّرمذيُّ من حديث محمود. وأخرجه أيضًا ابن شاهين في «فضائل الأعمال» (274)، والبيهقيُّ في «الشُّعب» (9327). ورجاله ثقات، إلَّا أنَّ محمودًا اختُلف فى سماعه من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد رآه وهو صغير. وحكم البيهقيُّ في «الآداب» (ص 295) بإرساله، وحسَّن إسناده الدِّمياطيُّ في «المتجر الرَّابح» (295)، وابن مفلح في «الآداب الشَّرعيَّة» (2/ 190). وأمَّا اللَّفظ الَّذي ذكره المصنِّف فأخرجه التِّرمذيُّ (2396)، وابن ماجه (4031)، وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه، قال التِّرمذيُّ:«حديث حسن غريب من هذا الوجه» ، وهو في «السِّلسلة الصَّحيحة» (146).
يرفعه «إنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم. فمن رضي فله الرِّضى، ومن سَخِط فله السُّخط» . زاد أحمد: «ومَن جَزِع فله الجزَع» .
ومن علاجها: أن يعلم أنَّه وإن بلغ في الجزع غايتَه فآخرُ أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غير محمودٍ ولا مثابٍ.
قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أوَّل يومٍ من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيَّامٍ
(1)
. ومن لم يصبر صبرَ الكرام سلا سلوَّ البهائم
(2)
.
وفي الصَّحيح
(3)
مرفوعًا: «الصَّبر عند الصَّدمة الأولى» .
وقال الأشعث بن قيسٍ: إنَّك إن صبرتَ إيمانًا واحتسابًا وإلَّا سلوتَ سلوَّ البهائم
(4)
.
(1)
أورده المؤلف في «عدة الصابرين» (ص 94) بنحوه. وانظر: «عيون الأخبار» (3/ 56) و «الثبات عند الممات» لابن الجوزي (ص 33) و «تسلية أهل المصائب» (ص 128، 151).
(2)
ذكر المؤلف هذه الفقرة في «عدة الصابرين» مفصولة عن السابقة كأنهما لقائلين.
(3)
أخرجه البخاري (1283) ومسلم (926) من حديث أنس بن مالك.
(4)
كذا في «ذمّ الهوى» لابن الجوزيِّ (ص 59). ولكنه عزاه في: «الثَّبات عند الممات» (ص 33) إلى علي بن أبي طالب، قاله للأشعث بن قيس. وأخرجه المدائنيُّ في «التَّعازي» (102)، وابن أبي خيثمة في أخبار المكِّيِّين من «تاريخه» (374، 884)، من كلام ابن جريج بنحوه. قال ابن عبد ربه في «العقد» (3/ 303):«هذا الكلام لعلي بن أبي طالب يعزِّي الأشعث بن قيس في ابن له. ومنه أخذ ابن جريج» . وقد ذكره حبيب ــ يعني أبا تمام ــ في شعره (3/ 259) فقال:
وقال عليٌّ في التعازي لأشعثٍ
…
وخاف عليه بعضَ تلك المآثمِ
أتصبر للبلوى عزاءً وحسبةً
…
فتؤجر أم تسلو سلوَّ البهائمِ
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ أنفعَ الأدوية له موافقةُ ربِّه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له، وأنَّ خاصِّيَّة المحبَّة وسرَّها موافقةُ المحبوب. فمن ادَّعى محبَّة محبوبٍ ثمَّ سخِط ما يحبُّه وأحبَّ ما يُسْخِطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وتمقَّتَ إلى محبوبه.
قال أبو الدَّرداء: إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به
(1)
.
وكان عمران بن حُصينٍ يقول في علَّته: أحبُّه إليَّ أحبُّه إليه
(2)
. وكذلك قال أبو العالية
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي الدُّنيا في «الرِّضا عن الله» (6، 47) وفي «المحتضرين» (125)، وابن زبر في «وصايا العلماء» (ص 55 - 56).
(2)
أخرجه ابن المبارك في «الزُّهد» (461، 462)، وابن سعد في «الطَّبقات» (4/ 490)، وابن أبي شيبة (35838)، وأحمد في «الزُّهد» (804)، وابن أبي الدُّنيا في «الرِّضا عن الله» (60، 61)، والطَّبراني في «الكبير» (18/ 104)، والبيهقيُّ في «الشُّعب» (9499، 9500). قال الهيثميُّ في «المجمع» (2/ 302): «رواه الطَّبراني في الكبير، وإسناده حسن» .
(3)
أخرجه ابن أبي الدُّنيا في «الرِّضا عن الله» (39)، وفي «المرض» (206)، وفي «المحتضرين» (308).
وهذا دواءٌ وعلاجٌ لا يعمل إلا مع المحبِّين، ولا يمكن كلَّ أحدٍ أن يتعالج به.
ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللَّذَّتين والتمتُّعَين
(1)
وأدوَنِهما
(2)
: لذَّة تمتُّعه بما أصيب به، ولذَّة تمتُّعه بثواب الله له. فإن ظهر له الرُّجحانُ، فآثر الرَّاجحَ، فليحمد الله على توفيقه. وإن آثر المرجوحَ من كلِّ وجهٍ، فليعلم أنَّ مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظَمُ من مصيبته الَّتي أصيب بها في دنياه.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ الذي ابتلاه بها
(3)
: أحكم الحاكمين، وأرحم الرَّاحمين؛ وأنَّه سبحانه لم يرسل إليه البلاء لِيُهلكه به، ولا ليعذِّبه
(4)
، ولا ليجتاحَه. وإنَّما افتقده به ليمتحن صبرَه ورضاه عنه وإيمانه، وليسمعَ تضرُّعه وابتهالَه، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعًا قصصَ الشَّكوى إليه.
قال الشيخ عبد القادر: يا بُنيَّ، إنَّ المصيبة ما جاءت لِتُهلكك، وإنَّما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك. يا بُنيَّ، القدرُ سَبُعٌ، والسَّبُع لا يأكل الميتة
(5)
.
والمقصود: أنَّ المصيبة كِيرُ العبد الذي يُسبَك به حاصله، فإمَّا أن يخرج
(1)
ث: «النعمتين» . وفي ل: «النعيمين» ، وكلاهما تصحيف.
(2)
هذا في الأصل (ف) وس. وفي غيرهما والنسخ المطبوعة: «وأدومهما» من الدوام، ولعله تصحيف.
(3)
بعده في ز: «هو» ، وأخشى أن يكون زيادة من بعض القراء.
(4)
في ث، ل بعده زيادة:«به» .
(5)
لم أجده. وفي تشبيه القدر بالسبع نظر.
ذهبًا أحمر، وإمَّا أن يخرج خَبَثًا كلُّه كما قيل:
سبكناه ونحسبه لُجَينًا
…
فأبدى الكِيرُ عن خَبَث الحديدِ
(1)
فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ في الدُّنيا، فبين يديه الكِيرُ الأعظم. فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدُّنيا ومَسْبِكَها خيرٌ له من ذلك الكِيرُ والمَسْبِك، وأنَّه لا بدَّ من أحد الكِيرَين، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه في الكِير العاجل.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّه لولا محن الدُّنيا ومصائبها لأصاب العبدَ من أدواء الكِبْر والعُجْب والفَرعنة وقسوة القلب، ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا. فمن رحمة أرحم الرَّاحمين أن يتفقَّده في الأحيان بأنواعٍ من أدوية المصائب تكون حِمْيةً له من هذه الأدواء، وحفظًا لصحَّة عبوديَّته، واستفراغًا للموادِّ الفاسدة الرَّديَّة المهلكة منه. فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه كما قيل:
قد يُنعِم الله بالبلوى وإن عظمت
…
ويبتلي الله بعضَ القوم بالنِّعم
(2)
فلولا أنَّه سبحانه يداوي عبادَه بأدوية المحن والابتلاء لطغَوا وبغَوا وعتَوا. والله سبحانه إذا أراد بعبده
(3)
خيرًا سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به منه
(4)
الأدواءَ المهلكةَ، حتَّى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه أهَّله لأشرف مراتب الدُّنيا وهي عبوديَّته، وأرفعِ ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه.
(1)
البيت دون عزو في «عيون الأخبار» (2/ 4) و «العقد» (3/ 455) و «الصداقة والصديق» (ص 208) و «التمثيل والمحاضرة» (ص 288).
(2)
البيت لأبي تمام من قصيدة له في «ديوانه» (3/ 280).
(3)
ث، ل، ن:«بعبد» . وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
ث، ل:«من» .
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ مرارة الدُّنيا هي بعينها حلاوة الآخرة يقلبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدُّنيا هي بعينها مرارة الآخرة، ولَأن ينتقل من مرارةٍ منقطعةٍ إلى حلاوةٍ دائمةٍ خيرٌ له من عكس ذلك. فإن خفي عليك هذا
(1)
، فانظر إلى قول الصَّادق المصدوق:«حُفَّت الجنَّةُ بالمكاره، وحُفَّت النَّارُ بالشَّهوات»
(2)
.
وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرِّجال. فأكثرهم آثَرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدَّائمة الَّتي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعةٍ لحلاوة الأبد، ولا ذلَّ ساعةٍ لعزِّ الأبد، ولا محنةَ ساعةٍ لعافية الأبد؛ فإنَّ الحاضرَ عنده شهادةٌ، والمنتظَر غيبٌ، والإيمانَ ضعيفٌ، وسلطانَ الشَّهوة حاكمٌ. فتولَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة. وهذا حال النَّظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها. وأمَّا النَّظر الثَّاقب الذي يخرق حُجُبَ العاجلة، ويجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخر.
فادعُ نفسَك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النَّعيم المقيم والسَّعادة الأبديَّة والفوز الأكبر، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعذاب
(3)
والحسرات الدَّائمة، ثمَّ اختر أيّ القسمين أليق بك. وكلٌّ يعمل على شاكلته، وكلُّ أحدٍ يصبو إلى ما يناسبه وما هو الأولى به.
ولا تستطِلْ هذا العلاجَ، فشدَّةُ الحاجة إليه من الطَّبيب والعليل دعت إلى بسطه. وباللَّه التَّوفيق.
(1)
ز، د:«ذلك» .
(2)
أخرجه مسلم (2822) من حديث أنس.
(3)
ن: «العقاب» .
فصل
في هديه في علاج الكرب والهمّ والغمّ والحزن
أخرجا في «الصَّحيحين»
(1)
من حديث ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السَّماوات والأرض ربُّ العرش الكريم» .
وفي «جامع الترمذي»
(2)
عن أنسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبه
(3)
أمرٌ قال: «يا حيُّ يا قيُّوم، برحمتك أستغيث» .
وفيه
(4)
عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أهَّمه الأمرُ رفع طرفه إلى السَّماء، فقال:«سبحان الله العظيم» . وإذا اجتهد في الدُّعاء قال: «يا حيُّ، يا قيُّوم» .
(1)
البخاري (6346) ومسلم (2730).
(2)
برقم (3524) ولفظه: «إذا كربه أمر» ، وقال:«هذا حديث غريبٌ» . وأخرجه أيضًا ابن السُّنِّيِّ في «عمل اليوم واللَّيلة» (337). قال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (2/ 409): «في سنده يزيد بن أبان الرَّقَاشيُّ وهو ضعيفٌ» ، وله شاهد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قوَّاه به الألبانيُّ في «السِّلسلة الصَّحيحة» (3182).
(3)
د: «أحزنه» .
(4)
برقم (3436) وقال: «هذا حديثٌ غريب» . وأخرجه أيضًا أبو يعلى (6545، 6546) ــ وعنه ابن السُّنِّيِّ في «عمل اليوم واللَّيلة» (338) ــ، وابن عديٍّ في «الكامل» (1/ 376) مقتصرًا على شطره الأوَّل، والبيهقيُّ في «الدَّعوات الكبير» (229) مقتصرًا على شطره الثَّاني. قال ابن القيسرانيِّ في «الذخيرة» (3/ 1745):«فيه إبراهيم بن الفضل متروك» ، وضعَّف إسناده ابن مفلح في «الآداب الشَّرعيَّة» (1/ 166)، وهو في «السِّلسلة الضَّعيفة» (6345).
وفي «سنن أبي داود»
(1)
عن أبي بَكْر الصِّدِّيق
(2)
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دعوات المكروب: اللَّهمَّ رحمتَك أرجو
(3)
، فلا تكِلْني إلى نفسي طرفةَ عينٍ. وأصلِحْ لي شأني كلَّه، لا إله إلا أنت».
وفيها
(4)
أيضًا عن أسماء بنت عُمَيس قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلِّمكِ كلماتٍ تقوليهنَّ
(5)
عند الكَرْب ــ أو في الكَرْب ــ: الله ربِّي لا أُشْرِك به شيئًا». وفي روايةٍ: أنَّها تقال سبع مرَّاتٍ
(6)
.
(1)
برقم (5090). وأخرجه أيضًا النَّسائيُّ في «الكبرى» (10412)، والطَّيالسيُّ (869)، وابن أبي شيبة (29764)، وأحمد (20430)، والبخاريُّ في «الأدب المفرد» (701)، وغيرهم عن أبي بكرة رضي الله عنه، وصحَّحه ابن حبَّان (970)، والإشبيليُّ في «الأحكام الصُّغرى» (2/ 898 - 899)، وحسَّنه ابن حجر كما في «الفتوحات الرَّبَّانيَّة» (4/ 8)، والهيثميُّ في «المجمع» (10/ 197)، والألباني في «الإرواء» (3/ 357).
(2)
كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة إلا طبعة الرسالة التي أثبتت دون تنبيه: «أبي بكرة» ، وهذا هو الصواب.
(3)
د: «نرجو» .
(4)
برقم (1525). وأخرجه أيضًا النَّسائيُّ في «الكبرى» (10408، 10410)، وابن ماجه (3882)، وابن أبي شيبة (29766)، وأحمد (27082)، وغيرهم، واختُلف في إسناده، وحسَّنه ابن حجر كما في «الفتوحات الرَّبَّانيَّة» (4/ 9)، وصحَّحه الألبانيُّ في «السِّلسلة الصَّحيحة» (6/ 593). وفي الباب عن ابن عبَّاس وأنس وعائشة رضي الله عنهم.
(5)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة بحذف نون الرفع.
(6)
هذه رواية النَّسائيِّ في «الكبرى» (10411)، والطَّبراني في «الدُّعاء» (1026)، وهي مُرسلةٌ.
(1)
عن ابن مسعودٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما أصاب عبدًا همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللَّهمَّ إنِّي عبدُك، ابنُ عبدك، ابنُ أمتك؛ ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك؛ أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سمَّيت به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك= أن تجعل القرآن العظيم ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجِلاءَ حزني، وذَهابَ همِّي= إلا أذهبَ الله حزنَه وهمَّه، وأبدله مكانه فرحًا» .
وفي «الترمذي»
(2)
عن سعد بن أبي وقَّاصٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النُّون إذ دعا ربَّه وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كنت من الظَّالمين. لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلا استجيب له» .
وفي روايةٍ: «إنِّي لأعلم كلمةً لا يقولها مكروبٌ إلا فرَّج الله عنه: كلمةَ أخي يونس»
(3)
.
(1)
برقم (3712، 4318). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (29930) ، وأبو يعلى (5297)، والطَّبراني في «الكبير» (10352)، والحاكم (1/ 509). وصحَّحه ابن حبَّان (972)، والمصنِّف في «أعلام الموقِّعين» (1/ 325) وفي غيره، وحسَّنه ابن حجر كما في «الفتوحات الرَّبَّانيَّة» (4/ 13)، وهو في «السِّلسلة الصَّحيحة» (199). وفي الباب عن أبي موسى رضي الله عنه.
(2)
برقم (3505). وأخرجه أيضًا النَّسائيُّ في «الكبرى» (10417)، وأحمد (1462)، والبزَّار (1186)، وأبو يعلى (772)، والطَّبراني في «الدُّعاء» (124)، وغيرهم. وفي إسناده بعضُ الاختلاف، وصحَّحه الحاكم (1/ 504، 2/ 384، 582)، والضِّياء في «المختارة» (1041، 1042)، وحسَّنه ابن حجر كما في «الفتوحات الرَّبَّانيَّة» (4/ 11)، وهو في «السِّلسلة الصَّحيحة» (1744). وله طرقٌ عن سعدٍ رضي الله عنه.
(3)
هذه رواية أبي يعلى في «المعجم» (263)، وعنه ابن السُّنِّيِّ في «عمل اليوم واللَّيلة» (343)، وابن عديٍّ في «الكامل» (6/ 257). وإسنادها ضعيفٌ جدًّا؛ فيه عمرو بن الحصين العقيليُّ شيخ أبي يعلى، وهو متروكٌ.
وفي «سنن أبي داود»
(1)
عن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ المسجدَ، فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال:«يا أبا أمامة، مالي أراك في المسجد في غير وقت الصَّلاة؟» . فقال: همومٌ لزمتني وديونٌ يا رسول الله. فقال: «ألا أعلِّمك كلامًا إذا أنت قلته أذهَبَ الله عز وجل همَّك وقضى دينَك؟» . قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن، وأعوذ بك من العَجْز والكسَل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلَبة الدَّين وقهر الرِّجال» . قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله عز وجل همِّي، وقضى عنِّي دَيني.
وفي «سنن أبي داود»
(2)
عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لزم
(1)
برقم (1555)، ومن طريقه البيهقيُّ في «الدَّعوات الكبير» (305). وإسناده ضعيف؛ فيه غسَّان بن عوف ضعَّفه غير واحد، وقال أبو داود كما في «سؤالات الآجرِّيِّ» (2/ 101):«شيخ بصريٌّ، وهذا حديث غريب» . وانظر: «نتائج الأفكار» (2/ 397) و «ضعيف سنن أبي داود» (272/ 2). ولكن قد ثبت عند البخاري (2893) من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكثر الاستعاذة من الأمور المذكورة.
(2)
برقم (1518). وأخرجه أيضًا النَّسائيُّ في «الكبرى» (10217)، وابن ماجه (3819)، وأحمد (2234)، والطَّبراني في «الأوسط» (6291)، وغيرهم. وصحَّحه الحاكم (4/ 262)، والإشبيليُّ في «الأحكام الصُّغرى» (2/ 892)، وتُعُقِّبا؛ لأنَّ في إسناده الحَكَم بن مصعب وهو مجهول. وضعَّفه البغويُّ في «شرح السنة» (5/ 79)، والذَّهبيُّ في «المهذَّب» (3/ 1278)، وهو في «السِّلسلة الضَّعيفة» (705). وأمَّا ابن حجر فحكم بجهالة الحَكَم في «التَّقريب» (1469)، وقوَّى أمره في «الأمالي المطلقة» (ص 25، 251 - 252) بإخراج النَّسائيِّ له، فحسَّن الحديث.
الاستغفارَ جعل الله له من كلِّ همٍّ فَرَجًا، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ورزَقه من حيث لا يحتسب».
وفي «المسند»
(1)
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حزَبه
(2)
أمرٌ فزع إلى الصَّلاة.
وقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].
وفي «السُّنن»
(3)
: «عليكم بالجهاد، فإنَّه بابٌ من أبواب الجنَّة يدفع الله به عن النُّفوس الهمَّ والغمَّ» .
ويذكر عن ابن عبَّاسٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «من كثرت همومه وغمومه فليُكْثِرْ من قول
(4)
لا حول ولا قوَّة إلا باللَّه»
(5)
.
(1)
برقم (23299) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه أيضًا أبو داود (1319)، والبيهقيُّ في «الشُّعب» (2912، 2913)، وهو عندهم جميعًا بلفظ:«إذا حزبه أمرٌ صلَّى» ، واللَّفظ الذي ذكره المصنِّف أخرجه الطَّبريُّ في «تفسيره» (1/ 618). وفي إسناده اختلاف، ويُروى مرسلًا، وصحَّحه أبو عوانة (6842)، وحسَّن إسناده ابن حجر في «الفتح» (3/ 172).
(2)
حط، د:«أحزنه» .
(3)
«السُّنن الكبرى» للبيهقيِّ (20/ 9، 103) من حديث عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه. وأخرجه أيضًا أحمد (22719)، والشَّاشيُّ (1174)، وغيرهما. وفي إسناده اختلاف، وصحَّحه ابن حبان (4855)، والحاكم (2/ 74 - 75)، والضِّياء في «المختارة» (8/ 291، 292، 295، 297)، وهو في «السِّلسلة الصَّحيحة» (1941).
(4)
«من قول» ساقط من د.
(5)
كذا في كتاب الحموي (ص 316) عن عكرمة عن ابن عباس، ولعل المؤلف عنه صدَر. وتكملته عنده:«والذي نفس محمد بيده، إنَّ لا حول ولا قوة إلا بالله شفاء من سبعين داء، أدناها الهمّ والغم والحزن» ، وقال:«رواه ابن الجوزي» . وانظر مخطوطه (ق 91). والأثر أخرجه ابن شاهين بنحوه في «الترغيب في فضائل الأعمال» (341) عن تميم بن عذلم عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: «من قال لا حول ولا قوة إلا بالله= صرف الله عنه سبعين بابًا من البلاء، أهونهن الهم والغم» . إسناده مسلسل بالضعفاء. وبنحوه أخرج الطبراني في «الأوسط» (6555) و «الدعاء» (1793) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «من كثرت همومه فليستغفر الله، ومن أبطأ عنه رزقه فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله» ، قال الذهبي في «الميزان» (4/ 478):«خبر باطل» . وبنحوه روي عن غير واحد من الصحابة بأسانيد واهية.
وثبت في «الصَّحيحين»
(1)
أنَّها كنزٌ من كنوز الجنَّة.
وفي «الترمذي»
(2)
أنَّها بابٌ من أبواب الجنَّة.
هذه الأدوية تتضمَّن خمسة عشر نوعًا من الدَّواء، فإن لم تَقْوَ على إذهاب داء الهمِّ والغمِّ والحزن، فهو داءٌ قد استحكم، وتمكَّنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغٍ كلِّيٍّ:
الأوَّل: توحيد الرُّبوبيَّة.
الثَّاني: توحيد الإلهيَّة.
الثَّالث: التَّوحيد العلميُّ الاعتقاديُّ.
(1)
البخاري (4205) ومسلم (2704) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
برقم (3581) من حديث قيس بن سعد رضي الله عنه، وقال:«هذا حديث صحيحٌ غريب من هذا الوجه» . وأخرجه أيضًا النَّسائيُّ في «الكبرى» (10115)، وأحمد (15480)، والطَّبراني في «الكبير» (18/ 351)، وغيرهم. وصحَّحه الحاكم (4/ 290)، وأُعلَّ بالانقطاع، وله شواهد، وهو في «السِّلسلة الصَّحيحة» (4/ 35)، وبرقم (1746).
الرَّابع: تنزيه الرَّبِّ تعالى عن أن يظلم عبدَه أو يأخذَه بلا سببٍ من العبد يوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنَّه هو الظَّالم.
السَّادس: التَّوسُّل إلى الرَّبِّ تعالى بأحبِّ الأشياء إليه، وهو أسماؤه وصفاته. ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصِّفات: الحيُّ القيُّوم.
السَّابع: الاستعانة به وحده.
الثَّامن: إقرار العبد له بالرَّجاء.
التَّاسع: تحقيق التَّوكُّلِ عليه، والتَّفويضِ إليه، والاعترافِ له بأنَّ ناصيته في يده يصرِّفه كيف يشاء، وأنَّه ماضٍ فيه حكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه.
العاشر: أن يُرْتِعَ قلبَه في رياض القرآن ويجعلَه لقلبه كالرَّبيع للحيوان، وأن يستضيء به في ظُلَمِ الشُّبهات والشَّهوات، وأن يتسلَّى به عن كلِّ فائتٍ، ويتعزَّى به عن كلِّ مصيبةٍ، ويستشفي به من أدواء صدره، فيكون جِلاءَ حزنه وشفاءَ همِّه وغمِّه.
الحادي عشر: الاستغفار.
الثَّاني عشر: التَّوبة.
الثَّالث عشر: الجهاد.
الرَّابع عشر: الصَّلاة.
الخامس عشر: البراءةُ من الحول والقوَّة، وتفويضُهما إلى من هما بيده.