الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فو الله ما قتل منهم رجل قط فى جاهلية ولا إسلام، ولين ابتليت بالمصيبة لمصعب، لقد ابتليت قبله بالمصيبة بإمامى عثمان. ألا وإنما الدنيا عاريّة من الملك الجبار الذى لا يبيد ملكه ولا يزول سلطانه. فإن تقبل علىّ لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عنّى لا أبكى عليها بكاء الخرف الهتر.
ثم نزل، وهو يقول <من البسيط>:
لقد عجبت وما بالدهر من عجب
…
أنّى قتلت وأنت الحازم البطل
وفيها نفذ عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف لحصار ابن الزبير كما يأتى ذلك بعد ذكر الحجاج وأخباره فى سياق ما نذكر إنشاء الله تعالى.
ذكر الحجاج ونسبه ولمعا من خبره
أما نسبه فيكنى بأبى محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبى عقيل الثقفى. أمه الفارغة بنت مسعود الثقفية، وكانت تحت المغيرة بن شعبة (117) من قبل ولم تلد له. فدخل عليها ذات يوم حين أقبل من صلاة الغداء وهى تخلل. فقال: يا فارغة، لين كان هذا التخلل من غداء اليوم إنك لشجعة، وإن كان من عشاء البارحة إنك لبشعة، اعتدّى فأنتى
(9 - 15،176) ذكر. . . العراقين: قارن وفيات الأعيان 2/ 29 - 54
(14)
لشجعة: فى وفيات الأعيان 2/ 30: «شرهة» //لبشعة: فى وفيات الأعيان 2/ 30:
«قذرة»
طالق. فقالت: سخنت عينك من مطلاق، ما هو والله من ذا ولا من ذاك، ولكنى استكت فتخللت من شضية من السواك. قال: فاسترجع وندم.
ثم خرج فلقى يوسف بن الحكم أبى الحجاج فقال: إنى نزلت الساعة عن سيدة نساء ثقيف، فتزوّجها فإنها ستنجب لك، فتزوّجها.
فولدت له الحجاج. وكان يسمى كليبا، وسبب ذلك أنه لما ولدته أمه امتنع من أخذ الثدى، فاغتم أبوه لذلك. وأقام كذلك ثلثة أيام حتى يأس من حياته، فحضر إليهم شيخ اللحى أعور باليمين فى زى حكيم من حكماء العرب، فشكى أبو الحجاج له أمر ولده فقال: ينظر إلى كلبة سوداء ليس بها بياض ذات جرى فيذبح له من جراها جروا أسودا ويلطخ بدمه فاه وثدى المرضعة. ففعل ذلك فقبل الثدى لوقته. وقيل: إن ذلك الشيخ الأعور كان إبليس لعنه الله، وانتشأ الحجاج ولقب بكليب بهذا السبب.
ثم إنه صار فى شرطة روح بن زنباع الجذامى كاتب عبد الملك، وكان شهما مقداما، وكان روح بن زنباع يخصّه بالمعضلات من الأمور، فشكى عبد الملك يوما لروح بن زنباع: تخلّف العسكر، وأنهم لا يركبون لركوبه ويتثاقلون فى المسير. فقال له روح بن زنباع: يا أمير المؤمنين، فى شرطتى رجل، إن وليته هذا الأمر كفاك همه. فأمر بإحضاره وسأله عن نسبه فانتسب له، فولاه أمر الجيش. فقام بذلك أحسن قيام وعاد لا (118) يستقر أحد بعد ركوب أمير المؤمنين. فبينا هو ذات يوم يطوف على ركوب الجيش، وقد نفر الجيش، بكماله لهيبته، إذ وقف بمخيم روح بن زنباع، وهو على حاله،
وحاشيته جلوس يصطبحون، فوقف بهم وقال: ما تخلّفكم بعد ركوب أمير المؤمنين؟ فقالوا له: بدالية لهم عليه: أنزل واصطبح لا أمّ لك. فأمر بهم فسحبوا، وقطع أطناب المخيم وهدمه على رؤوس القوم ودكّهم فى أسرع وقت وأعجله، وهم لا يعقلون بعد تخريق المخيم والإيقاع بهم.
فلحقوا بروح بن زنباع صارخين لما نالهم من الحجاج. فعظم ذلك عليه وشكاه لعبد الملك فأحضره وقال: ما حملك على ما فعلت بحاشية أبى زرعة؟ فقال: لست الفاعل أنا، يا أمير المؤمنين. فقال: فمن فعل بهم ذلك وتلك؟ قال: هو أمير المؤمنين، فإن أمرى من أمره وفعلى من فعله، ولو كنت أنا المستبد بذلك لعجزت عن تحريك أثان. فإن رأى أمير المؤمنين أعزه الله أن يعوّض أبا زرعة عن مخيمه من مخيم أمير المؤمنين خاصة نفسه ويطلق لحاشيته إنعاما يظهر لكافة الجيش ويدع أمرى مستقيما فالأمر لأمير المؤمنين. فاستعظم عبد الملك فعله وأعجب بفصاحته وقوة جنانه، وأمر لروح بن زنباع مخيما من خاصه وإنعاما على ساير حاشيته، واستقر بالحجاج على أمره فعظم، فى أعين الناس وهابوه. وأخبأها عبد الملك فى نفسه إلى أن ولاه العراقين.
ومن نوادر أخباره أنه لما ولى أسد بن عبد الله عمل ميسان، وكان أسد هذا أحد إخوة لإحدى زوجاته، وهى أسماء بنت عبد الله (119) فانهمك أسد على اللذة، وشرب الخمر، وعسف الناس، فسعوا به إلى
الحجاج فأحضره وأوقفه. وقال له: قبحك الله، لقد أثمت ضراير أختك بها بما فعلت، فقال: وما الذى فعلته أصلح الله الأمير؟ فقال الحجاج:
علىّ بالسعاة من أهل إقليمه. فأحضروا جماعة فقال الحجاج: لا يتكلم منكم إلا رجل واحد. فقدموا من بينهم شيخ كوسج اللحية. فقال: ما الذى تشكون من واليكم هذا؟ فقال الشيخ: إنه نعم الأمير. فقال الحجاج: وكيف ويلك، وأنتم السعاة به؟ فقال: أصلح الله [الأمير] إنه أحسن إلينا من جهة أنه أغلا الخمر ببلادنا لكثرة استعماله إياه، ونحن قوم أكثر غلاّتنا الخمر، فتحسنت أسعارها منذ ولى علينا. فقال الحجاج:
قبحك الله من شيخ. فما أوجز شكواك وأبلغ سعايتك. فبينا هو فى الكلام، إذ دخل الحاجب مستأذن على بعض أصحاب محمد بن الأشعث، وأنه قد أحضر مستأسرا، فأمر بإحضاره. فلما مثل كلمه ثم أمر بضرب عنقه فضربت، وصارت الرأس بين رجلى أسد بن عبد الله. ثم نظر إليه الحجاج فقال: ما تقول ويلك فيما قال هذا الشيخ عنك؟ فقال: أيها الأمير، إن لى ولك مثلا. فقال: وما هو ويلك؟
فقال: زعموا أن أسدا وذيبا وثعلبا اصطحبوا فحصل لهم ذات يوم من الصيد حمارا وحشيا وضبيا وأرنبا، فوضعهم الأسد بين يديه وقال
(15 - 5،178) زعموا. . . يدى: ورد النص فى كتاب الأذكياء 242 - 243 باختلاف بسيط فى اللفظ
للذيب: كيف القسمة يا با جعدة؟ فقال: القسمة بيّنة، الحمار لك والضبى لى والأرنب لأبى الحصين. قال: فلطمه الأسد، أطاح رأس الذيب إلى بين يدى الثعلب ونظر إليه وقال: كيف القسمة يابا الحصين؟ فقال:
الحمار لغداك، والضبى لعشاك، والأرنب ما بين ذاك وذاك. فقال: لله درّك، من علّمك هذه القسمة؟ قال: رأس أبا جعدة [التى] بين يدى، وأنا كذلك أيها الأ [مير]. (120) وهل ترك لى هذا الرأس التى بين رجلى من جواب؟ فقال: أغرب إلى لعنة الله.
قلت: وقد ذكرنى هذا المثل نظيره، وفيه موعظة حسنة: زعموا أن أسدا وذيبا وثعلبا اصطحبوا برهة من الزمان. فكان الذيب والثعلب يعيشا بفضلات ما يكسّره الأسد ولا يحتاجا إلى سعى فى تحصيل ما يقتاتاه.
فحصل للأسد مرضا منعه عن الحركة، وضاق الأمر بالذيب والثعلب، فخرج الثعلب يتسبب له فيما يقتاته. وأفكر الذيب فى حيلة يغير قلب الأسد على الثعلب حتى يكسره ويقتات به. فسأل الأسد وقال: يا با جعدة، ما أرى أبو الحصين. فقال: ترى أن أبا الحصين كان يلوذ بالملك
إلا لما كان يجده عنده من فضلات أبا. . . فلما انقطع لم يكن له صبرا.
فخرج يسعى فى مصالح نفسه. فتنمر الأسد غيضا، وظن الذيب أنه أصاب فيه حاجته.
فلما عاد الثعلب أخبر بما جرا فدخل على الأسد فوجده متغيرا عليه. فقال: أين كنت، يا خبيث؟ فقبّل الأرض وبكا وقال: إنى أقصد الخلوة بالملك فى مصلحة شأنه. فأخ. . . فقال: اعلم أيها الملك أننى لما رأيتك فى هذا المرض الشديد علمت أنك إن هلكت هلكنا لهلكك إذ نحن ما نعيش إلا من فضلك، فدرت على الأطباء والحكماء أستوصف للملك دواء يبريه من علته. فقال الأسد وقد رقّ له وصدقه: فهل علمت لنا بدواء؟ قال: نعم، وهو شيين أحدهما متعذر علينا والآخر حاصلا، وهو أسرعهما نفعا. فقال الأسد: وما هما يا با الحصين جزاك الله عن سعيك خيرا؟ قال: المتعذر منهما قلب فيل يأكله الملك فيبرأ بعد مدة، وهذا متعذر علينا فى هذا الوقت. والآخر خصوتى ذيب تأكلهما فتبرأ فى ساعتك. فقال الأسد: اخرج يا با الحصين واكتم ما معك. (121) وخرج الثعلب وجلس على باب العيصة واستدعى الأسد للذيب فظن أنه يستشيره فيما يصنع بالثعلب. فلما قرب منه وثب الأسد عليه فالتقم
خصوتيه، وقفز الذيب هاربا فجاز على الثعلب، ودمه على ساقيه، فناداه الثعلب: يا صاحب السراويل الأحمر، إذا حضرت مجالس الملوك فلا تذكر إلا خيرا.
ولنعود إلى نبذ من ذكر الحجاج، روى أن الحجاج جمع فقهاء العراق الأربعة، منهم الحسن البصرى وعمر بن عبدل والشّعبى، وسألهم عن القضاء والقدر. فقال أحدهم: سمعت أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب صلوات الله عليه يقول: ما حمدت الله عليه فهو منه وما استغفرته منه، فهو منك. وقال الآخر: سمعت أمير المؤمنين علىّ عليه السلام يقول:
إذا كانت الخطية على بن آدم حتما كان القصاص عليها. . . وقال الآخر:
سمعت أمير المؤمنين علىّ كرّم الله وجهه يقول: يابن آدم، من وسع عليك الطريق لم يأخذ عليك المضيق. وقال الآخر: سمعت أمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه يقول: يابن آدم، انظر أنّ الذى نهاك دهاك إنما دهاك أسفلك وأعلاك، والله برئ من ذاك. فقال الحجاج: أكلّ عن أبى تراب؟ قالوا: نعم. قال: لقد أغرقتموها فى عين طافية.
ومما روى أنه قام إلى الحجاج رجل فقال: أيها الأمير، إنّ أبى مات وأنا حمل، وإنّ أمى ماتت وأنا أرضع، وإنّ الرجال كفلتنى حتى بلغ الله بى ما ترى، وإنّ صنيعة لى تقوتنى غلبنى عليها غالب، والأمير أحقّ
(13)
أبى تراب: يعنى علىّ بن أبى طالب
من ردّ الله به ظلامة المظلوم وردع به ظلم ظالم. فقال الحجاج: أيموت أبوك، وأنت حمل، وتموت أمك، وأنت ترضع، وتكفلك الرجال، وهـ [ذا](122) بيانك عن نفسك، هو والله أدب الله لا أدب الرجال، يا غلام اصرف المؤدبين عن محمد بن الحجاج. ووقع له بما سأله.
وروى أنه قدم أسرى فأمر بقتلهم، فقتل ساعة طويلة. فقام رجل منهم فقال: يا حجاج، لين كنا أسأنا فى الذنب فما أحسنت أنت فى العفو. فقال الحجاج: أفّ لهذه الجيف، أما كان فيهم أحد يحسن يتكلم بمثل هذا؟ ثم أمسك عن القتل، وأما شهادته على نفسه بعيده ما قتل.
فقد روى أنه لما حج مع عبد الملك بن مروان بعد قتله ابن الزبير عبر على ناد، وفيه جماعة من قريش فيهم بعض ولد يزيد بن معوية، فنظر إلى الحجاج وهو يتبخطر فى مشيته. فقال: يتبخطر ولا يتخطّر عمرو بن معدى كرب. فسمعه فرجع إليه وقد عرفه فقال: كيف لا أتبخطر وقد قتلت بقا [مة] سيفى ماية ألف، كل منهم يشهد على أبيك يزيد بالزنا وشرب الخمر. فهذه شهادته على نفسه أنه قتل ماية ألف فنعوذ بالله مكر الله.
(5 - 8) وروى. . . القتل: انظر البيان 1/ 214؛ وفيات الأعيان 2/ 39
(7)
العفو: فى وفيات الأعيان 2/ 39: «العقوبة»
(11 - 12) عمرو. . . كرب: انظر وفيات الأعيان 8 (كتاب الفهارس)
وكان آخر من قتل سعيد بن جبير رضى الله عنه، ومن حين قتله اختل فى عقله وعاد يقول: ما لى وما لجبير؟ ما لى وما لجبير؟ حتى مات.
ومن مستطرفاته قيل: إن رجلا أهدى للحجاج تينا فى غير أوانه وجلس على الباب ينتظر الجايزة، فأحضرت أناس للقتل، فتسحب منهم شخص واحد فخشى المتستّر على نفسه أن يطالب بتكملة العدة، فأخذ صاحب التين فجعله مكان المتسحب، وأحضروا بين يدى الحجاج فضربت رقابهم، وقدّم صاحب التين لضرب العنق، فصاح وقال: وما جرمتى أنا أيها الأمير؟ فقال: ألست منهم؟ فقال: لا والله، أنا صاحب التين. فضحك الحجاج، وقال: تمنّ علىّ. فقال: لست أسأل غير ثلاث الدراهم. فقال: (123) ويحك وما تصنع بها؟ قال: أشترى بها فاسه وأقطع أصل هذه التينة التى كانت سبب قدومى عليك. قال: فضحك الحجاج حتى فحص برجله وأجازه وأحسن إليه.
ويروى أنه قال يوما للشعبى: كم عطاءك فى السنة؟ فقال: ألفين.
فقال: ويحك! كم عطاؤك؟ قال: ألفان، قال: كيف لحنت أولا؟ قال:
لحن الأمير فلحنت. فلما أعرب الأمير أعربت. وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا. فاستحسن ذلك منه وأجازه.
(1 - 2) وكان. . . مات: انظر وفيات الأعيان 2/ 374
(2)
ما لى. . . ما لجبير: فى وفيات الأعيان 2/ 374، «ما لى ولسعيد بن جبير»
(13 - 8،183) ويروى. . . الله: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 12 - 13،15
قلت: الشعبى هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذى كبار، وذو كبار قيل من أقيال اليمن من حمير وعداده فى همدان، وهو كوفى تابعى جليل القدر وافر العلم. روى عن بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعن عثمان وعلىّ رضى الله عنهما. ومر به يوما عبد الله بن عمر وهو يحدث بالمغازى. فقال: شهدت القوم وإنه أعلم بها منى. وقال الزهرى رضى الله عنه: العلماء أربعة: بن المسيب بالمدينة والشعبى بالكوفة والحسن البصرى بالبصرة ومكحول بالشام. ويقال إنه أدرك خمس ماية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم طرفا من ذكره فى أول جزؤ من هذا التاريخ مما يغنى عن تكراره.
[كان مولد الشعبى لأربع سنين من خلافة عمر بن الخطاب. وروى عن خليفة قال: ولد الشعبى والحسن البصرى فى سنة إحدى وعشرين.
وقال الأصمعى: فى سنة سبع عشرة بالكوفة، وكان ضييلا نحيفا. فقيل له فى ذلك. فقال: زوحمت فى الرحم، وكان قد ولد هو وأخ له فى بطن.
وتوفى بالكوفة سنة خمس وماية وفيه اختلاف. وكان موته فجأة رضى الله عنه. والشعبى بفتح الشين وسكون العين وبعدها باء موحدة، وهذه النسبة
(8 - 9) تقدم. . . التاريخ: انظر كنز الدرر 1/ 430؛ فى كنز الدرر 3/ 233 (حوادث 21):
(10 - 3،184) مولد. . . ذا شعبين: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 15 - 16
(11)
خليفة: يعنى خليفة بن خياط، انظر وفيات الأعيان 3/ 15 - 16