الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
تفسير سُورَةِ النُّورِ
"
885 - " بَابٌ (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ)
"
ــ
أي جماعات جماعات " كل أمة تتبع نبيها " أي تذهب إليه تسأله الشفاعة فيعتذر عنها " حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم " أي حتى يصل إليه طلب الشفاعة، فيقول: أنا لها " فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود " أي ففي ذلك اليوم يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم المقام المحمود، وهو مقام الشفاعة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على إثبات الشفاعة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهي التي تكون لفصل القضاء وإراحة الناس من ذلك الموقف الشديد الذي تشتد فيه الأهوال وتتفاقم، ويلجأ الناس إلى الأنبياء، فيقولون نفسي نفسي، فيتصدى صلى الله عليه وسلم للشفاعة ويبتهل إلى الله ويخرّ ساجداً تحت العرش، فيقول الله تعالى له كما في حديث أبي هريرة:" سل تعطه، واشفع تشفع " الخ أخرجه البخاري وجميع هذه الأحاديث تدل على إثبات الشفاعة كما يدل عليه حديث الباب، وعلى أنّها هي المقام المحمود الذي وعده الله به في قوله:(عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) فقد أطمع الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأعطاه الشفاعة فأصبح ما أطمعه فيه حقيقة ثابتة لا يتخلف أبداً، ولهذا قال بعض المفسرين: الرجاء من الله بعسى ولعل وعد محقق. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على معنى المقام المحمود.
885 -
" باب (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) "
وهي تكملة لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ
1031 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:
أنَّ هِلالَ بْنَ أمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأتَهُ عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِشرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"البَيِّنةُ أوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ" فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ إِذَا رَأى أحَدُنَا على امْرَأتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنةَ، فَجعلَ النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ:
ــ
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) والمعنى أنه إذا رمى الرجل زوجته بالزنا دون بينة فعليه أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم تسأل المرأة فإن أقرت رجمت، وإن أنكرت أمرت أن تشهد أربع شهادات بالله أن زوجها لمن الكاذبين فيما رماها به من الفاحشة، وفي الشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيم اتهمها به، فإذا فعلت سقط عنها الحد، وهو معنى قوله:(وَيَدْرَأُ عَنْهَا (1) الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) إلخ.
1031 -
معنى الحديث: أن هلال بن أمية رضي الله عنه اتهم زوجته بشريك بن سحماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إما أن تقيم عليها البينة أو أقيم عليك حد القذف في ظهرك، فقال متعجباً:" إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً يذهب يلتمس البينة " أي كيف أكلف بالبينة وأنا لا يمكنني ذلك، لأنني متى ذهبت لاحضار الشهود فرَّ الرجل من البيت " فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول البينة " بالنصب أي أحضر البينة، أو الرفع على تقدير إما البينة " أو حدّ في ظهرك " يعني أو جزاؤك الحد في ظهرك، " فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد " أي ما يخلصني منه "فنزل جبريل وأنزل عليه
(1) أي يدفع عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات الخ.
" البَيِّنةُ وِإلَّا حَدّ في ظَهْرِكَ " فَقالَ هِلال: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ إني لَصَادِق، فَلَيُنْزِلَنَّ اللهُ مَا يُبَرِّىءُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فنزَلَ جِبْرِيلُ، وأنْزَلَ عَلَيهِ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) فَقَرأ حَتى بَلَغَ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فانْصَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم فأرسَلَ إليْهَا، فجاءَ هِلال فَشَهِدَ والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ أنَّ أحدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ، ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فلمَّا كَانَتْ عِنْدَ الخَامِسَةِ، وقَّفُوهَا وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَة، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأت ونكَصَتْ حتى ظَنَنَّا أنَّهَا تَرْجِعُ، ثم قَالَتْ: لا أفضَحُ قَوْمِي سَائِرَ اليَومِ، فَمَضَتْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
ــ
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) حتى بلغ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)" أي فنزل عليه جبريل بآيات الملاعنة التي تبرىء ظهره من الحد، وهي الآيات المذكورة " فأرسل صلى الله عليه وسلم إليها فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب " يعني فلما نزلت آيات الملاعنة أحضرهما النبي صلى الله عليه وسلم ووعظهما قبل إجراء الملاعنة، وحذرهما من غضب الله تعالى على من كان منهما كاذباً، وأخبرهما أن الله مطلع عليهما، عالم بالكاذب منهما، وسيجازيه على ذلك وعذاب الدنيا أهون من عذاب يوم القيامة، ولكنهما أصرا على موقفهما، فتقدم هلال، فشهد وقال في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قامت زوجته فشهدت. " فلما كانت عند الخامسة أوقفوها " أي أوقفوها عن النطق بهذه الشهادة " وقالوا: إنها موجبة " أي احذري أن تؤدي الشهادة الخامسة وأنت كاذبة، فإنها موجبة للعذاب الشديد يوم القيامة " فتلكأت " أي توقفت وترددت وتأخرت بعض الوقت في أدائها " ونكصت " أي رجعت إلى الوراء والمعنى أنها سكتت مدة من الزمن قبل أن تنطق بالشهادة
" أبصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أكحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابغَ الألْيَتَيْنِ خدَلَّجَ السَّاقَينِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ " فجاءَتْ به كَذَلِكَ، فقَالَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم:" لَوْلا مَا مَضى مِنْ كِتَابِ اللهِ لَكَانَ لِي ولَهَا شَأنٌ ".
ــ
الخامسة " حتى ظننا أنها سترجع " يعني عن إتمام الملاعنة، وتعترف بجريمتها " ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم " أي لا أجلب الفضيحة والخزي والعار لقومي مدى الحياة " فمضت " أي فاستمرت وأتمت الملاعنة حرصاً منها على سمعة قومها " فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها " أي انظروا إلى ولدها وتأملوا في صورة وجهه وجسمه " فإن جاءت به أكحل العينين " يعني أسود الجفون " سابغ الأليتين " بفتح الهمزة أي ضخم الأليتين " خدلّج الساقين " أي عظيم الساقين " فهو لشريك بن سحماء " أي فهو ابنه " فجاءت به كذلك " أي ولدت ولداً يشبه شريكاً في الصفات المذكورة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله تعالى لكان لي ولها شأن " أي لولا ما سبق من حكم الله تعالى بدرء الحد عن المرأة بلعانها، أي لأقمت الحد عليها. قال النووي: اختلفوا في نزول آية اللعان هل هو بسبب عويمر أم بسبب هلال، والأكثرون على أنها نزلت في هلال ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان سبب نزول آيات الملاعنة وتفسيرها تفسيراً عملياً، فإن هذه الآيات نزلت في قصة هلال بن أمية وزوجته على الأصح كما رجحه النووي، ولما نزلت طبق النبي صلى الله عليه وسلم الملاعنة المذكورة في الآية عليهما تطبيقاً عملياً كما في الحديث. ثانياً: دل الحديث على أن القذف بالزنا من الكبائر، وأن من قذف زوجته بذلك لزمه أحد أمرين، إما البينة وهي أربعة شهداء كما ذكر، أو اللعان، فإن عجز عن إقامة البينة، وامتنع عن اللعان، حُدَّ حَدَّ القذف ثمانين جلدة، وحكم بفسقه، ورد شهادته،
وهذا هو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور، لحديث الباب، ولعموم قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وقال أبو حنيفة: إن عجز عن البينة لزمه اللعان فإن لم يلاعن حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه فيحدُّ للقذف، وإذا امتنعت المرأة عن الملاعنة أقيم عليها حد الزنا وهو قول مالك والشافعي (1)، وذهب أحمد وأبو حنيفة إلى أنها تحبس حتى تلاعن أو تقرّ بالزنا فتحد. أما الأحكام التي تترتب عليها بعد الملاعنة فهي كما يلي:(أ) يفرّق بينهما فرقة مؤبدة، ويفسخ نكاحهما فسخاً يقتضي التحريم كالرضاع عند مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف، فلا تحل له أبداً، لما جاء في حديث سهل " فمضت السنة بعدُ في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً " أخرجه أبو داود والبيهقي والدارقطني، فلا يجتمعان ولو أكذب أحدهما (2) نفسه.
وقال أبو حنيفة: الفرقة الناشئة عن اللعان طلاق بائن لا يتأبد بها التحريم، وإن أكذب نفسه جاز له تزوجها. لما جاء في حديث عويمر أنه قال بعد الملاعنة:" كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأجاب أبو حنيفة عن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سهل " لا يجتمعان أبداً " بأن معناه لا يجتمعان ما داما على لعانهما، فإن أكذب الرجل نفسه جازت له زوجته وحاصل الخلاف أن مالك والشافعي وأحمد في رواية يرون أن اللعان يستوجب الفسخ والفرقة الأبدية بين الزوجين بنفس اللعان، إما بعد فراغ الرجل من شهادته كما يقول الشافعي، أو بعد فراغ المرأة من شهادتها كما يقول مالك، أما أبو حنيفة فإنه يرى أن اللعان يستوجب الطلاق البائن، ولا يتم الطلاق إلّا إذا أوقعه الزوج على نفسه، أو أوقعه الحاكم عليه نيابة عنه. (ب) أن الولد
(1) والسبب في اختلافهم هذا اختلافهم في معنى قوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) فإنهم اختلفوا في تفسير العذاب على قولين، أحدهما حد القذف وبه قال الشافعي ومن وافقه، والثاني: الحبس، وبه قالت الحنفية.
(2)
تكملة " المنهل العذب المورود على سنن أبي داود " ج 4.
إذا نفاه الزوج ألحق بأمه، ونسسب إليها، وانقطع نسبه بأبيه وميراثه منه، واقتصرت علاقته على أمّه فيرثها وترثه، وبه قال مالك ومن وافقه من أهل العلم والدليل على انقطاع نسب الولد من أبيه وإلحاقه بأمّه حديث ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة. أخرجه البخاري ومالك في " الموطأ " وإنما يؤثر اللعان في رفع حد القذف، وثبوت زنا المرأة فله أن يعتمد اللعان لانتفائه وذهب الحنابلة إلى أن الولد يلحق بأمّه ولو لم ينفيه الزوج لما جاء في حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن لا يدعى ولدها لأب ولم يذكر فيه أن الزوج قد نفاه، وأجيب عن ذلك بما جاء في بعض الروايات من حديث سهل " أنها كانت حاملاً فأنكر حملها " أخرجه البخاري. ثالثاً: بيان ألفاظ الملاعنة وكيفيتها أن يبدأ الإِمام بالزوج فيقيمه، ويقول له: قل أربع مرات أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ويشير إليها إن كانت حاضرة، ولا يحتاج مع الحضور إلى تسميتها، وإن كانت غائبة أسماها ونسبها، فقال: امرأتي فلانة بنت فلان، فإذا شهد أربع مرات أوقفه الحاكم، وقال له: اتق الله فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكل شيء أهون من لعنة الله، ويأمر رجلاً يضع يده على فيه قبل الخامسة حتى لا يبادر بالخامسة، فإذا رآه يمضي في ذلك قال له قل: إن لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ثم يأمر المرأة بالقيام، ويقول لها: قولي: أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتشير إليه، وإن كان غائباً أسمته ونسبته، فإذا كررت ذلك أربع مرات، أوقفها، ووعظها كما ذكرنا في الرجل، ويأمر امرأة تضع يدها على فمها، فإن رآها تمضي على ذلك قال لها: قولي: وأنّ غضب الله عليَّ إن كان زوجي هذا من الصادقين، ثم إن هذه الشهادات الخمس شرط، فإن أخل بواحدة منها، لم يصح اللعان، ولو أبدل لفظ أشهد بقوله أحلف فإنه لا يعتد بها عند الحنابلة، وللشافعي وجهان،