الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع هل يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد
؟
أولاً: اتفق العلماء على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية، ومنها أمور الحرب، بدليل وقوعه منه صلى الله عليه وسلم؛ حيث صالح غطفان مقابل ثمار المدينة، ولم تتم هذه المصالحة بسبب مخالفة رؤساء أهل المدينة، ووقوعه في تأبير النخل - بعد قدومه المدينة.
ثانياً: اتفق العلماء - أيضا - على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق مناط الحكم، ومنه الأقضية، وفضل الخصومات، ونحو ذلك.
ثالثاً: اختلف العلماء في جواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في غير ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهو قول جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: عموم قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)
حيث إن اللَّه قد أمر أهل البصائر أن يعتبروا ويقيسوا الأشياء بما يماثلها
- كما سبق بيان ذلك في باب القياس - وهو عام وشامل لجميع أهل
البصائر، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعلى أهل البصائر، وأرفعهم منزلة، فكان بالاعتبار أولى.
الدليل الثاني: قياس نبينا صلى الله عليه وسلم على داود وسليمان عليهما السلام.
بيانه:
أنه لما اعتدت غنم قوم على زرع آخرين، ذهب صاحب الزرع
وصاحب الغنم يتخاصمان إلى داود عليه السلام ليحكم بينهما،
فحكم بينهما بحكم، وخالفه فيه سليمان عليه السلام وحكم
- أي: سليمان - بحكم آخر، فكان حكمهما بالاجتهاد، بدليل:
أن سليمان لو لم يحكم بالاجتهاد لما قال تعالى: (ففهمناهما سليمان) ،
وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد، لا بطريق الوحي.
وإذا جاز لداود وسليمان عليهما السلام الاجتهاد، فإنه يجوز
الاجتهاد لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا فرق،
والجامع: النبوة في كل.
الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشارك أُمَّته
فيما لم يرد فيه تخصيص له، أو تخصيص لهم - كما سبق بيانه -،
والاجتهاد قد أمرت أُمَّته به لإيجاد أحكام شرعية للحوادث المتجددة،
لكي تكون الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فهو يشارك أُمَّته في الاجتهاد، فيجوز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد مثل غيره، وليس في العقل ما يحيله في حقه ويصححه في حقنا، ولهذا أوجب عليه وعلينا العمل باجتهادنا في مضار الدنيا ومنافعها.
الدليل الرابع: أنه لا يلزم من فرض تعبده صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد محال عقلاً، ولا يؤدي إلى مفسدة، وكل ما كان كذلك كان جائزأ عقلاً، فتعبده بالاجتهاد جائز عقلاً.
الدليل الخامس: وقوع الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن متعبدا بالاجتهاد لما وقع منه، فقد اجتهد في حوادث شتى، منها: اجتهاده
في أسرى بدر، حيث أخذ الفداء مقابل إطلاق الأسرى، وهذا
بالاجتهاد، وستأتي أمثلة على ذلك في المسألة التالية.
المذهب الثاني: لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهو مذهب بعض الشافعية، وحكي عن أبي منصور الماتريدي من
الحنفية، وهو ظاهر مذهب ابن حزم، واختاره أبو علي وابنه أبو
هاشم.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قادر على معرفة الحكم بالوحي الذي يفيد العلم قطعا وصريحا، وكل من كان قادراً على العلم
القطعي لا يجوز له العمل بالظن، فلا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم العمل بالظن الحاصل بالاجتهاد، فلا يجوز له الاجتهاد.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادراً على معرفة الحكم بالوحي؛ لأن الوحي ليس في اختياره ينزل عليه متى شاء،
ولذلك قد يضطر إلى الاجتهاد في الأمور التي لا تقبل التأجيل.
الدليل الثاني: إنه ثبت - فيما سبق في حجية السُّنَّة -: أن قول
النبي صلى الله عليه وسلم نص قاطع، وحُجة قاطعة على من سمعه شفاها أو بلغه عن طريق التواتر، والاجتهاد لا يفيد إلا الظن.
فهنا حصل تضاد بين قوله صلى الله عليه وسلم، حيث قلنا بإفادته القطع، وبين اجتهاده حيث إنه لا يفيد إلا الظن، فالقطع غير الظن فكيف
يجتمعان؟!
جوابه:
أنه لو قيل له: إن ظنك علامة على حكم اللَّه - تعالى - فيكون
قد استيقن الظن والحكم معاً، فلا تنافي بين معرفته الحكم بالوحي،
ومعرفته إياه بالاجتهاد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما ظن الحكم بالاجتهاد فإنه يقطع بكونه حكم اللَّه في الحادثة.
الدليل الثالث: لو جاز الاجتهاد للرسول صلى الله عليه وسلم: لأجاب عن كل واقعة سئل عنها، ولما انتظر الوحي؛ لأن الاجتهاد هو الوسيلة لمعرفة الحكم فيما لا قاطع فيه، لكنه صلى الله عليه وسلم توقف في اللعان والظهار، وانتظر الوحي، فهذا يدل على عدم جواز القياس.
جوابه:
إن توقف صلى الله عليه وسلم عن الاجتهاد في بعض الوقائع والحوادث
وانتظاره للوحي لا يلزم منه عدم تعبده بالاجتهاد في جميع الحوادث؛
لأنا لا نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد حال حدوث الحادثة، بل كان ينتظر الوحي، فإذا لم ينزل عليه وحي وخشي الفوات اجتهد.
وعلى هذا، فإنه يحتمل أن يكون تأخره بسبب السعة في الوقت.
ويحتمل أن يكون بسبب أنه لم ينقدح في ذهنه اجتهاد الآن.
ويحتمل أن يكون بسبب توقفه؛ حيث إن بعض المسائل لا تقبل
الاجتهاد، أو هي مما نهي فيه عن الاجتهاد.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هو إلا
وحي يوحى) .
وجه الدلالة: أن هذه الآية بينت أن كل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم وحي، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يبقى للاجتهاد مجال، ولكان
الاجتهاد في حقه نطقاً عن الهوى المنفي عنه بالآية الكريمة، فالضمير
في قوله تعالى: (إن هو) يرجع إلى النطق المذكور في الآية في
ضمن قوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) وهو عام.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ عموم الآية، بل إن الآية وردت لرد ما
كان يقوله الكفار بأن ما يأتي به صلى الله عليه وسلم من القرآن ليس وحيا من عند اللَّه، بل هو افتراء منه على اللَّه - تعالى - فالضمير في قوله
تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) يرجع إلى القرآن، فيكون تقدير
الآية كذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق فيما ينطق به من القرآن من هوى نفسه، ما القرآن إلا وحي يوحى إليه من اللَّه تعالى، فعلى هذا تنفي الآية: أن يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بغير القرآن، ولا تمنع الآية من ذلك.
الجواب الثاني: سلمنا أن الآية عامة في جميع ما نطق به الرسول
صلى الله عليه وسلم من القرآن وغيره، إلا أن ذلك لا ينفي اجتهاده صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان متعبداً بالاجتهاد بواسطة الوحي لما كان اجتهاده نطقا عن الهوى، بل كان بالوحي، وما حكم به باجتهاده إما صواب من أول الأمر، أو يحتمل الخطأ في بادئ أمره، لكن اللَّه تعالى يرشده إلى الصواب، أو يقره عليه، فلا يحتمل غير الحق.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه بجوز بناء على المذهب الأول أن
يكتفي المجتهد بالاستدلال على حكم مسألة بدليل ظني مع أنه قادر
على الاستدلال عليه بدليل قطعي.
كما يجوز على هذا المذهب الاجتهاد في أوقات الصلاة والقِبْلة مع
إمكان الصبر إلى اليقين.
أما بناء على المذهب الثاني فلا يجوز كل ذلك.