الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني في تعريف العِلَّة اصطلاحا
لقد عرفت العلَّة بتعريفات كثيرة، وأقربها إلى الصحة هو:
الوصف المعرِّف للحَكم.
الوصف معنى قائم بالموصوف.
وينبغي أن يكون هذا الوصف: وصفا ظاهراً منضبطا مجاوزاً
فشتملاً على معنى مناسب للحكم.
والمراد بالظاهر: ما كان من أفعال الجوارح كشرب الخمر علة
للحلد، والسرقة علة للقطع، والقتل العمد العدوان علة للقصاص،
وهكذا.
وقيدنا الوصف بكونه ظاهراً لتخرج الصفات غير الظاهرة
كالصفات الخفية كالرضى والسخط، كأن يعلل ثبوت البيع برضى
العاقدين، فهذا لا يجوز؛ لأنه وصف خفي غير ظاهر: حيث إن
الوصف المعلل به يكون معرفا للحكم الشرعي، والخفي لا يصلح أن
يكون معرفاً؛ نظراً لخفائه، فهو محتاج إلى التعريف.
اعتراض:
قال قائل - معترضا -: إن الوصف الخفي يجوز التعليل به،
فالوصف وإن كان خفيا، لكنه بدلالة الصيغ الظاهرة عليه كدلالة
الإيجاب والقبول على الرضى: يكون من الأوصاف الظاهرة.
جوابه:
التعليل بالوصف الخفي وإن صح في بعض الأحكام؛ لقرينة،
لكنه لا يصح في جميع الأحكام؛ لذلك يحصل اختلاف بين حكم
وحكم، بخلاف الوصف الظاهر فلا يحصل فيه ذلك.
وقيدنا الوصف بكونه منضبطا لبيان أن الوصف المعلل به ينبغي أن
يكون مستقراً على حالة واحدة لا يختلف باختلاف الأشخاص، ولا
الأزمان، ولا الأحوال: فالسفر ثلاثة فراسخ علة إباحة الفطر في
رمضان مطلقاً، أي: لجميع الأشخاص المكلَّفين كبيراً أو صغيراً،
يتحمل المشاق أو لا يتحمل في صيف أو شتاء، في حالة مرض أو
حالة صحة وفتوة.
فيخرج بذلك الوصف غير المنضبط كالمشقة، فإنها غير منضبطة؛
حيث إنها تختلف باختلاف الأزمان، والأشخاص، والأحوال،
فلو عللنا إباحة الإفطار في رمضان بالمشقة لوقع اضطراب واختلاف
بين الأشخاص والأزمان، فتجد بعض الناس يباح له الإفطار؛ لأنه
يجد مشقة، وتجد آخر لا يفطر؛ لأنه لا يجد تلك المشقة التي
وجدها الآخر، ولأبيح الإفطار في الشتاء دون الصيف أو العكس،
وتجد من ركب الراحلة لا يباح له الإفطار؛ حيث إن السفر عليه
أيسر، بينما الذي لا يملك الراحلة يباح له ذلك.
إذن لا بد من اشتراط الانضباط في الوصف حتى يتحد الناس في
الحكم وتسود العدالة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
وقيدنا الوصف بكونه مجاوزاً؛ لبيان أن هذا الوصف ينبغي أن
يكون موجوداً في غير محل الحكمْ كالطعم: فإنه موجود في البر
الذي هو محل الحكم، وموجود في غيره كالأرز والذرة، ومثل
القتل العمد العدوان: فإنه موجود في القتل بالحدد، وموجود في
غيره كالقتل بالمثقل، ويُسمَّى ذلك الوصف " علة متعدية ".
وخرج بذلك العلَّة القاصرة - وهي التي توجد في محل الحكم
ولا توجد في غيره - كالسفر الذي هو علَّة إباحة الفطر في رمضان،
والنقدية في الذهب والفضة؛ حيث إنهمَا وصفان لا يوجدان في غير
السفر، وغير الذهب والفضة.
وقيدنا الوصف بكونه مشتملاً على معنى مناسب للحكم لبيان أن
هذا الوصف ينبغي أن يكون مشتملاً على الحكمة التي من أجلها شرع
الحكم، فلا يجوز تعليل حكم بعِلَّة لا تناسب الحكم.
وقولنا: " المعرِّف " معناه: أن يكون هذا الوصف دالًّا على
وجود الحكم في محله، وأنه شُرع لهذا المعين.
وخرج بذلك الشرط؛ لأنه ليس معرِّفا للمشروط؛ حيث إنه
يصح وجود الشرط بدون وجود المشروط كالطهارة، فإنها شرط
للصلاة، لكن قد توجد الطهارة، ولا توجد الصلاة، بخلاف
العلَّة فإنها لا يمكن أن توجد بدون المعلول، فإنه كلما وجدت السرقة
وجد القطع، وكلما وجد الزنى وجد الجلد أو الرجم، وكلما وجد
القتل العمد العدوان وجد القصاص، وهكذا.
والمراد بلفظ " الحكم ": الحكم الشرعي، أي: أن هذا الوصف
قد عرفنا بالحكم الشرعي.
وهذا احتراز عن الوصف المعرف لنقيض الحكم وهو: المانع.
اعتراض على هذا التعريف:
لقد قال قائل - معترضا -: إنه يلزم من هذا التعريف:
أنه لا فرق بين العلَّة والعلامة؛ حيث إنه يصدق على العلامة: أنها معرفة
للحكم، وَهي ليست عِلَّة، مما يجعلنا أن نقول: إن التعريف غير
مانع من دخول العلامة فيه.
جوابه:
إن الأحكام تضاف إلى عللها، لا إلى علاماتها، فالقصاص
مضاف إلى علَّته وهي: القتل العمد العدوان، والرجم مضاف إلى
علَّته وهي: الزنى، ولا يضاف الحكم إلى العلامة، فالرجم لا
يضَاف إلى الإحصان، لأنه علامته، بل يضاف إلى الزنى.
تنبيه: لقد سبق في المسألة الرابعة من المطلب الأول من المبحث
الرابع من الفصل الرابع من الباب الثاني ذكر تعريفات العلماء للعلَّة،
وبيان أن الخلاف بينهم في تعريفها لفظي أثناء بحثنا للسبب من الحكم
الوضعي، فلا داعي لإعادته فراجعه من هناك.
وقد بينت ذلك بالتفصيل في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "
فراجعه فهو مطبوع متداول.