الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس هل يشترط أن تكون العلَّة مناسبة أي: مشتملة على
حكمة قصدها الشارع من تشريعه للحكم
؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: يشترط أن تكون العِلَّة مشتملة على حكمة قصدها
الشارع.
والمراد بالحكمة: تحصيل مصلحة، أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو
تقليلها مثل: تعليل الترخص في قصر الصلاة بالسفر؛ لاشتماله
على الحكمة المناسبة للتخفيف، وهي المشقة، ومثل: جعل الزنا
علَّة لوجوب الحد على الزاني؛ لاشتماله على حكمة مناسبة،
وهي: اختلاط الأنساب.
فلا بد أن تكون العلَّة وصفا مناسبا يغلب على ظن المجتهد فيه
وجود المصلحة المقصودة للشارع من تشريع الحكم.
فالإسكار - مثلاً - مناسب لتحريم الخمر، وإيجاب العقوبة على
السكران.
والمصلحة في ذلك حفظ عقول الناس.
وقتل الوارث مورثه مناسب لحرمانه من الميراث؛ لأن ترتب
الحرمان على ذلك القتل يحقق مصلحة هي: دفع العدوان عن من
هو أوْلى الناس بالرعاية، والاحترام، والمحافظة عليه، وهو قريبه،
ولولا حرمان الوارث القاتل لمورثه الذي استعجل الشيء قبل أوانه؛
لأدى إلى أن يقوم كثير من الناس بقتل مورثيهم استعجالاً لذلك
المال، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى.
وعلى ذلك فلا يجوز التعليل بالأمارة المجردة، وهي العلامة
المحضة أو الوصف الطردي.
والوصف الطردي هو: ما ليس من شأنه تعليق الحكم عليه،
كأن يُعلل وجوب الحد في الزنى باسم الشخص الزاني، أو هيئته،
أو نحو ذلك، أو يعلل تحريم الربا في البر بكونه من المزروعات أو
نحو ذلك، أو يعلل حرمة الخمر بكونه شرابا أحمر، أو أنه عصير
عنب، أو أنه يحفظ في أوزان خاصة.
أو يعلل وجوب قطع يد السارق بكون السارق غنيا، أو نحو ذلك
من الأوصاف التي لا مناسبة بينها وبين الحكم.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن الحكم حينما
أثبتناه في الفرع، فإنما أثبتناه بواسطة وصف غلب على ظننا أن حكم
الأصل قد ثبت من أجله، وهذا غير متصوَّر في الأوصاف الطردية
المحضة، والأمارات غير المؤثرة.
المذهب الثاني: أنه لا يشترط ذلك، فيجوز أن يكون الوصف
مناسبا، وغير مناسب، متضمنا لمصلحة مناسبة وغير متضمن لذلك،
أي: يستوي المناسب وغيره.
وهو مذهب الغزالي، وتبعه على ذلك كثير من الحنابلة.
دليل هذا المذهب:
أن الوصف أمارة على الحكم ومعرفا له، فيُعلل به، سواء كان
مناسباً أو غير مناسب؛ لأنه معرف للحكم، فيصدق عليه تعريف
العلَّة.
جوابه:
إنه لو جاز تعليل الحكم بمجرد الأمارة لم تكن لها فائدة سوى
تعريف الحكم، وذلك يفضي إلى لزوم الدور، بيانه: أن العلَّة
مستنبطة من حكم الأصل فهي - إذن - فرع منه، وإذا صح القول
بأنها لمجرد تعريف الحكم - فقط - كان الحكم متفرعا عنها، وذلك
هو الدور، وهو ممنوع.
ونحن لما قلنا: إن العِلَّة هي: الوصف المعرِّف للحكم: قلنا:
إن الوصف يُشترط فيه: أن يكون ظاهراً، منضبطاً، مجاوزاً،
مشتملاً على معنى مناسب للحكم، فلم يطلق ذلك الوصف فتدبر
التعريف الذي سبق للعِلَّة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف فيما يظهر لي لفظي؛ لأنا نريد في المذهب الأول: العِلَّة
التي نلحق الفرع بالأصل بسببها، فلا يمكن هذا الإلحاق إلا إذا كان
الوصف مناسبا: غلب على ظننا وجود المصلحة المقصودة للشارع من
تشريع الحكم، وهذا لا يخالفه أصحاب المذهب الثاني.
وأصحاب المذهب الثاني يريدون العِلَّة المطلقة الشاملة للعِلَّة
المتعدية، أو العِلَّة القاصرة التي لا يمكن أنَ نلحق بواسطتها أي فرع
فلم يتوارد كلام الفريقين على محل واحد.