الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني كيفية الجواب عن منع الحكم في الأصل
إذا منع المعترض ثبوت الحكم في الأصل، وأراد المستدل الجواب
عن هذا المنع، فإن الجواب يختلف باختلاف أحوال مذهب المعترض
وهي:
الحالة الأولى: أن يكون مذهب المعترض معلوما، وهو متحد مع
مذهب المستدل.
الحالة الثانية: أن يكون مذهب المعترض معلوما، وهو مختلف مع
مذهب المستدل.
الحالة الثالثة: أن يكون مذهب المعترض غير معلوم.
وإليك بيان تلك الحالات مع أمثلتها:
أما الحالة الأولى - وهي: كون مذهب المعترض معلوما متحداً -
فإن المستدل يجيب عن منعه للحكم في الأصل بثلاث طرق:
الطريق الأول: أن يقوم المستدل بتفسير حكم الأصل بما يسلم به
المعترض:
مثاله: قول المستدل: الإجارة عقد على منفعة، فبطل هذا العقد
بموت المعقود له؛ قياساً على النكاح.
فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل، حيث إن النكاح لا
يبطل بالموت، وإنما ينقضي وينتهي بالموت كالإجارة إذا انتهت مدتها،
فإنه لا يقال: بطلت، وإنما يقال: انتهت وانقضت.
فيجيب المستدل بقوله: إني أردت ببطلان العقد بالموت: أن يرتفع
بالموت: وحينئذ يسلم حكم المستدل من ورود المنع؛ لأنه لا خلاف
بين المعترض والمسًتدل في أن العقد يرتفع بالموت.
فهنا فسر المستدل حكم الأصل بتفسير يسلِّم به المعترض، وسبب
ذلك: أن مذهب المعترض معلوم متحد مع مذهب المستدل.
الطريق الثاني: أن يُبيِّن المستدل محلا من المسألة متفقا عليه بينهما.
مثاله: قول المستدل: لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم؛ لأنه
مأموم، فوجب أن يسقط عنه فرض القراءة؛ قياسا على ما إذا أدرك
المأموم الإمام، وهو راكع.
فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل؛ حيث إن المأموم إذا
أدرك الإمام وهو راكع وأمكنه قراءة الفاتحة وإتمامها قبل فوات الركعة
وجبت عليه قراءتها.
فيجيب المستدل بقوله: لا خلاف بيننا وبينكم أنه إذا خاف فوات
الركعة لم تجب عليه قراءة الفاتحة، وهذا يكفي أن تسلم به.
الطريق الثالث: أن يورد المستدل دليلاً على ثبوت الحكم في
الأصل.
مثاله: قول المستدل: الوضوء عبادة يفسدها الحدث، فيكون
الترتيب فيها واجباً قياساً على الصلاة.
فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل، وهو وجوب
الترتيب في الصلاة.
فيجيب المستدل بقوله: إن الحكم في الأصل وهو وجوب الترتيب
في الصلاة ثبت بقوله لمجفه: "صلوا كما رأيتموني أصلي "،
ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم: أنه صلى إلا مرتبا،
فدل على وجوب الترتيب.
مثال آخر: قول المستدل: الخنزير حيوان نجس العين، فوجب
غسل الإناء من ولوغه سبعا؛ قياسا على الكلب.
فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل، فالكلب عندي لا
يغسل من ولوغه سبعاً.
فيجيب المستدل بقوله: لقد ثبت الحكم في الأصل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسنله سبع مرات ".
وهذا على رأي جمهور العلماء، أي: أن المعترض إذا منع الحكم
في الأصل، فإن المستدل يثبت حكم الأصل بأي نوع من أنواع
الأدلة، فإذا أثبت ذلك فإن قياسه صحيح.
لكن هل ينقطع المعترض إذا أقام المستدل دليلاً على حكم الأصل
- كما سبق -؟
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن المعترض لا ينقطع إذا أثبت
المستدل الحكم في الأصل؛ بل للمعترض أن يسعى إلى إبطال دليل
المستدل؛ لأن المستدل إذا علم أن المعترض لن يعترض عليه إذا أورد
الدليل لإثبات الحكم في الأصل، فإنه يحتمل أن يورد المستدل دليلاً
لا يصلح أن يكون مثبتا للحكم، وهذا يجعل المعترض لا يورد
الاعتراض ابتداء؛ لأنه يعلم أنه سيقبل من المستدل أيمما دليل يثبت به
الحكم في الأصل، وعلى هذا: لا يكون لمنع الحكم ابتداء معنى،
ومنعا لهذا الاحتمال، فللمعترض أن يسعى إلى إبطال دليل المستدل
الذي أورده لإثبات الحكم في الأصل حتى يعجز، وهو رأي
الآمدي، وابن الحاجب، وابن الهمام، وغيرهم.
وهناك رأي آخر في المسألة وهو: أن المعترض ينقطع إذا أقام
المستدل دليلاً على ثبوت الحكم في الأصل، ولا يجوز المعترض أن
يعترض على ذلك، وهذا الرأي ضعيف لما قلناه.
هذا الكلام عن الحالة الأولى - وهي: كون مذهب المعترض
معلوماً متحداً -.
أما الحالة الثانية - وهي: كون مذهب المعترض معلوماً وهو
مختلف - فإن المستدل يجيب عن منعه للحكم في الأصل بالطرق
الثلاث التي ذكرناها في الحالة الأولى، وهي: " تفسير حكم
الأصل بما يسلم به المعترض "، و " بيان محلاً من الحكم يسلم به
المعترض "، و " إقامة الدليل على حكم الأصل "، والأمثلة نفس
الأمثلة السابقة، لكن يراعى فيها أن الحكم مختلف فيه في المذهب.
وتزيد هذه الحالة طريق رابع وهو: أن يبين المستدل أن الصحيح
من مذهب المعترض هو التسليم بحكم الأصل.
مثاله: قول المستدل الشافعي: من أحرم بالحج نفلاً وعليه فرض،
فإن إحرامه ينعقد فرضا؛ لأنه إحرام بالحج ممن عليه فرضه،
فانصرف إحرامه إلى ما عليه من الفرض؛ قياسا على ما لو أحرم
إحراما مطلقا.
فيقول المعترض الحنفي: أنا أمنع الحكم في الأصل؛ حيث إن
الإحرام الذي أطلق فيه النية أنه يكون تطوعا، وهذا قد نقله الحسن
ابن زياد عن أبي حنيفة.
فيجيب المستدل بقوله: إن أبا الحسن الكرخي - وهو الذي ينقل
الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة - قد نقل عن أبي حنيفة التسليم
بحكم الأصل، فإذا ثبت أنها الرواية الصحيحة، فإن المنع يبطل.
أما الحالة الثالثة - وهي: كون مذهب المعترض غير معلوم - فإن
المستدل يجيب عن منعه للحكم في الأصل بطريقين:
الطريق الأول: أن يبين المستدل رأي إمام المعترض.
هذا خاص فيما إذا كان رأي إمام مذهب المعترض موافقا لما يراه
المستدل.
مثاله: قول المستدل: العيوب في النكاح تثبت الخيار، لأنها تمنع
معظم المقصود بالنكاح، فيثبت بها الخيار؛ قياسا على الجُب.
فيقول المعترض: لا أعلم لإمام مذهبي رأيا في هذا.
فينقل المستدل عن إمام مذهب المعترض ما يدل على أن تلك
العيوب تثبت الخيار.
الطريق الثاني: أن يورد المستدل دليلاً على ثبوت الحكم في
الأصل.
مثاله: قول المستدل: من قتل بآلة غير السيف لم يقتص منه إلا
بالسيف؛ لأنها آلة لا يقتص بها لو كان القتل بالسيف، فلم يجز
القصاص بها إذا كان القتل بها؛ قياسا على ما إذا سقى القاتل
المقتول خمراً، فإنه لا يجوز أن يسقى القاتل خمراً حتى يموت،
وإنما يقتص منه بالسيف.
فيقول المعترض: لا أعلم لإمام مذهبي رأيا في هذا، فلا يلزمني
التسليم به.
فيجيب المستدل بقوله: إن الحكم في الأصل قد ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم: -
" لا قود إلا بالسيف ".