الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع هل يجوز الترجيح بكثرة الأدلة
؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: قياس الأدلة على الرواة، بيان ذلك:
أن رواية الاثنين أقرب إلى الصحة وأبعد عن السهو والغلط من
رواية الواحد؛ حيث إن الشيء عند الجماعة أحفظ منه عند الواحد،
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "الشيطان مع الواحد،
وهو مع الاثنين أبعد "،
فيجب تقديم ما كثرت رواته، وإذا كان كذلك فإنه يجب تقديم
الحكم الذي كثرت أدلته.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل بقول ذي اليدين: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللَّه " حتى أخبره أبو بكر وبعض الصحابة.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رجح بكثرة العدد.
الدليل الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجحون
بكثرة العدد، من ذلك:
1 -
أن أبا بكر لم يعمل بخبر المغيرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم الجدة السدس " حتى شهد معه محمد بن مسلمة.
2 -
أن عمر لم يعمل بخبر: " من استأذن ثلاثا ولم يؤذن له
فليرجع " حتى شهد مع الراوي بعض الصحابة، والأمثلة كثيرة.
الدليل الرابع: أن مخالفة الدليل خلاف الأصل؛ لأن الأصل في
الدليل الإعمال، واستنباط الأحكام منه، فكثرة المخالفة أكثر
مخالفة من قلتها، فإذا وجد في جانب دليلان، ووجد في جانب
آخر دليل واحد: كان ترك العمل بالأول أكثر مخالفة ومحذوراً من
الثاني، فيؤخذ بالأقل محذوراً، والأخف ضرراً.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز الترجيح بكثرة الأدلة، بل يشترط أن
يكون المرجح به وصفاً للدليل المرجح، لا دليلاً مستقلا.
وهو مذهب الحنفية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قياس الأدلة على الشهادات، بيان ذلك:
أنه لا ترجح الشهادة بكثرة العدد؛ حيث إن شهادة شاهدين
وشهادة أربعة سواء، فإذا كان الأمر كذلك في الشهادة، فكذلك
يمنع الترجيح بكثرة الأدلة.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحكم في الأصل المقاس عليه وهو: " عدم
الترجيح في الشهادة بكثرة العدد " مختلف فيه؛ حيث إن بعض
العلماء أثبتوا الترجيح في الشهادة بكثرة العدد، ومنهم الإمام مالك،
ولا قياس على أصل حكمه مختلف فيه.
الجواب الثاني: سلمنا الحكم في الأصل وهو: " أنه لا ترجح
الشهادة بكثرة العدد "، فإن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع
الفارق، ووجه الفرق: أن الشارع منع الترجيح في الشهادة بكثرة
العدد ومقصوده سد باب الخصومات، حيث إنه يترتب على ذلك أن
يقول الخصم: أنا آتي بعدد أكثر من عدده، فيقول الآخر: وأنا
أفعل كذلك، فلا تنتهي الخصومة.
بخلاف الترجيح بكثرة الأدلة، فلا يكون فيه ذلك.
الدليل الثاني: أنه لو جاز الترجيح بكثرة الأدلة، للزم من ذلك
تقديم القياس على خبر الواحد عند تعارضهما، وهذا ليس
بصحيح، إذ لو وجد مائة قياس، وعارضت تلك الأقيسة خبر واحد
كان ذلك الخبر راجحا، كما لو كان القياس راجحا، ولو كان
للكثرة أثر في قوة الظن لترجحت الأقيسة على الحديث الواحد.
جوابه:
إن اتحد أصل تلك الأقيسة المتعددة المعارضة للخبر: كانت كلها
في الحقيقة قياساً واحداً، وليست أقيسة متعددة، فإذا قدمنا الخبر
عليها فإنا نقدمه على قياس واحد لا غير.
وإن لم يتحد أصل تلك الأقيسة المتعددة فتكون مخالفة للقياس
المعارض للخبر في الأصل.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي؛ حيث إنه أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها:
إذا ادَّعى رجلان شيئاً وهو في يد أحدهما، وأقام كل منهما بيّنة،
فإنه بناء على المذهب الأول: تقدم بيِّنة ذي اليد على بيِّنة الآخر؛
لأنهما استويا في إقامة البيِّنة، وترجحت بينة ذي اليد لكون الشيء
المتنازع عليه معه.
أما على المذهب الثاني: فإنه لا تسمع بيّنة ذي اليد؛ لأن اليد
دليل مستقل بإثبات الحكم، فلا يصلح لترجيح بيِّنة؛ لأنها منفصلة
عن البيِّنة.