الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع عشر المجتهد الذي لم يجتهد في مسألة، ولكن العلوم
كلها حاصلة عنده، وعنده القدرة على الاجتهاد
فهل يجوز له أن يقلد غيره من المجتهدين
؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: لا يجوز له تقليد غيره مطلقا، أي: سواء مع
ضيق الوقت، أو سعته، لا فيما يخصه، ولا فيما يفتي به،
وسواء كان المجتهد الآخر مثله في العلم، أو أقوى منه.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن تقليد من لم تثبت عصمته ولا يعلم بالحقيقة
إصابته الحكم الشرعي، بل يجوز خطأوه، وتلبيسه لا يمكن أن يثبت
إلا بنص أو قياس على منصوص، ولا يوجد هنا نص، ولا قياس؛
لأن المنصوص عليه هو: أن العامي يقلد المجتهد؛ حيث إن المجتهد
له أن يأخذ بنظر نفسه، وللعامي أن يأخذ بقول المجتهد، بيان ذلك:
أما المجتهد فإنما جاز له الحكم بظنه؛ نظراً لعجزه عن العلم
القطعي بالحكم، فالضرورة دعت إلى ذلك في كل مسألة ليس فيها
دليل قاطع.
أما العامي فإنما جاز له تقليد غيره؛ نظراً لعجزه عن تحصيل العلم
والظن بنفسه.
والمجتهد غير عاجز، فلا يكون في معنى العاجز، فيجب عليه أن
يطلب الحق بنفسه، ولا يساوى بالعامي.
الدليل الثاثي: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) .
وجه الدلالة: أن المجتهد من أولي الأبصار الذين أمرهم الله
تعالى بالاعتبار والاجتهاد، فلو جاز له تقليد غيره: لكان تاركا ما
وجب عليه، وترك الواجب حرام، فكان تقليده لمجتهد آخر حراما.
الدليل الثالث - وهو: خاص للاستدلال على أن المجتهد لا يقلد
الآخر وإن كان مثله في العلم أو أقوى منه -: أن الواجب على
المجتهد أن ينظر في المسألة:
فإن غلب على ظنه أن الحكم في المسألة كذا، ووافق ذلك ما
غلب على ظن المجتهد الأقوى فحسن.
وإن غلب على ظن المجتهد الأقل علما خلاف ما غلب على ظن
المجتهد الأقوى علما، فماذا ينفع كونه أقوى علما، وقد صار ما
غلب على ظنه مزيفا وباطلاً عند المجتهد الأقل علما، والخطأ جائز
على الأعلم، وظن المجتهد الأقل علما أقوى في نفسه من ظن غيره،
وإن كان أعلم منه، وللمجتهد الأقل علما أن يأخذ بظن نفسه اتفاقا،
ولا يلزمه تقليد غيره وإن كان أعلم منه.
ويؤيد ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم قد سوغوا
الخلاف لصغار الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير،
وزيد، وغيرهم من أحداث الصحابة؛ حيث كانوا يخالفون كبار
الصحابة كأبي بكر، وعمر، وعلي، وغيرهم.
اعتراض على ذلك:
قال قائل - معترضا -: إن بعض الصحابة: مثل طلحة بن عبيد الله
والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن
عوف لم ينقل عنهم أنهم نظروا في الأحكام، واجتهدوا فيها، مع
ظهور الخلاف في عدة مسائل كمسالة: الجد والإخوة، والعول،
والتحريم، ونحوها مما يدل على أنهم أخذوا بقول غيرهم من
الصحابة الآخرين، وقلدوهم في ذلك.
جوابه:
أن ما ذكررم من الصحابة رضي الله عنهم وما ماثلهم كانوا لا
يفتون ولا ينظرون في الأحكام؛ لأنهم اكتفوا بغيرهم من الصحابة،
أما علمهم في حق أنفسهم فلم يكن إلا بما سمعوه من صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسّنَة، وعرفوه، فإن وقعت واقعة لم يعرفوا دليلها
شاوروا غيرهم؛ ليعرفوا الدليل، لا لأجل التقليد.
المذهب الثاني: أنه يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر مطلقا.
وهو مذهب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، وهو رواية
عن الإمام أحمد.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) .
وجه الدلالة: أن اللَّه قد أمر بالسؤال، وأدنى درجاته جواز اتباع
المسؤول، واعتقاد قوله، وليس المراد به من لم يعلم شيئاً أصلاً،
بل المراد به من لم يعلم تلك المسألة، وسواء كان عاميا أو لم يجتهد
فيها وإن كانت له أهلية الاجتهاد، فكان هذا داخلاً تحت عموم
الآية.
جوابه:
لا نسلم عموم الآية، بل هي خاصة بسؤال من ليس من أهل
العلم وهو العامي، فيكون المراد منها: أمر العوام بسؤال العلماء؛
لأنه ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول، فمن هو من أهل العلم
مسؤول، وليس بسائل، وكون حكم هذه المسألة غير حاضر في
ذهن المجتهد حال سؤال المستفتي عنه لا يخرجه عن كونه عالما؛ لأنه
متمكن من معرفة ذلك من غير أن يتعلم من غيره.
وعلى هذا: لا يكون داخلاً تحت هذه الآية؛ لأن الآية لا دلالة
لها على أمر أهل العلم بسؤال أهل العلم، فإنه ليس المسؤول أوْلى
بذلك السائل.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم) .
وجه الدلالة: أن المراد بأولي الأمر: العلماء، أي: أمر غير
العالم بحكم المسألة بطاعة العالم، وأدنى درجاته جواز اتباعه فيما
هو مذهبه، وهو عام.
جوابه:
أنه اختلف في المراد بـ " أولي الأمر " هنا على قولين:
القول الأول: إن المراد بهم الولاة، وعلى هذا فإن طاعتهم واجبة
على الجميع، ولا يجب على المجتهد اتباع وطاعة مجتهد آخر.
القول الثاني: أن المراد بهم: العلماء، وعلى هذا: وإن طاعتهم
واجبة على العوام، فلا تصلح الآية للاستدلال بها على ما زعمتم.
الدليل الثالث: أن المجتهد لا يقدر إلا على تحصيل ظن بالحكم،
وظن غيره من المجتهدين مثل ظنه، فما المانع من اتباع - ظن غيره؟!
إذ لا فرق.
جوابه:
أنه إذا حصل ظن المجتهد في مسألة لا يجوز له أن يتبع ظن غيره،
فكان ظنه أصلاً، وظن غيره بدلا منه، ولا يجوز العدول الأخذ
بالبدل مع القدرة على إيجاد المبدل كما في سائر الأبدال والمبدلات.
المذهب الثالث: أنه يجوز أن يقلد المجتهد مجتهدا آخر أعلم منه
إذا تعذر عليه الاجتهاد.
وهو مذهب ابن سريج.
المذهب الرابع: يجوز أن يقلد المجتهد الواحد من الصحابة إذا كان
قد ترجح في نظره على غيره ممن خالفه، وإن استووا في نظره فإنه
يتخير في تقليد من شاء منهم، ولا يجوز تقليد من عدى الصحابة.
وهو مذهب أبي علي الجبائي، وحكي عن الشافعي أنه قال بذلك.
المذهب الخامس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة
والواحد من التابعين فقظ، دون من عداهم.
المذهب السادس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهداً آخر فيما
يخصه، دون ما يفتي نجه.
المذهب السابع: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهداً آخر مطلقا إذا
خشي أن يفوت الوقت لو اشتغل بالاجتهاد.
جواب عن تلك المذاهب:
يقال في ذلك: إن صاحب كل مذهب قد قيد مذهبه بما سبق،
ولم يذكر دليلاً على هذا التقييد، لذلك لا يلتفت إلى ذلك ويبقي
الأصل وهو: إطلاق عدم الجواز.