الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع في طرق ثبوت العِلَّة " مسالك العِلَّة
"
علة حكم الأصل تثبت بطرق ومسالك كثيرة، وهي تنقسم إلى
قسمين:.
القسم الأول: إثبات العِلَّة عن طريق النقل.
القسم الثاني: إثبات العِلَّة عن طريق الاجتهاد.
وإليك بيان كل قشم مع الأمثلة فأقول:
القسم الأول إثبات العلَّة عن طريق النقل
" مسالَك العِلَّة النقلية "
ويشتمل على ما يلي:
الطريق الأول: النص الصريح.
الطريق الثاني: النص الظاهر.
الطريق الثالث: الإجماع.
وفيما يلي بيان كل طريق فأقول:
الطريق الأول: النص الصريح المثبت للعلية:
وهو: ما وضع للتعليل من غير احتمال، فيكون قاطعا في تأثيره.
أي: ما صرح فيه الشارع بكون الوصف علَّة أو سببا للحكم،
فيقول - مثلاً -: " اقطعوا يد السارق؛ لعلةَ كذا "، أو " لسبب
كذا "، أو " لموجب كذا "، أو " لأجل كذا "، أو " من أجل
كذا"، أو " لمؤثر كذا ".
ومن أمثلته: قولك: " اقطعوا يد السارق؛ لعلة سرقته، أو
لسبب سرقته ".
ومنه قوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل) ،
وقوله عليه الصلاة والسلام: " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر"،
وقوله: " إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة ".
والخلاصة: أن أي صيغة موضوعة للتعليل، ولا تحتمل غيره تعد
من قبيل النص الصريح في التعليل.
شرط التعليل بالنص الصريح:
يشترط في صيغ النص الصريح في العلية: أن لا يقوم دليل يدل
على أنه لم يقصد بها التعليل.
فإن قام دليل على أن المتكلم لم يقصد التعليل الحقيقي فلا تكون
صيغة للتعليل كما لو قلنا لشخص: لِمَ فعلت كذا؛ فقال: لأجل
إني أردت، فإن هذه الصيغة وإن كانت صريحة في التعليل إلا أنها
ملغاة، حيث إن قرينة الحال هنا تنبي إلى أنه لم يقصد التعليل،
ولهذا يقال: إنه استعمل اللفظ في غير محله، فيكون مجازاً.
الطريق الثاني: النص الظاهر المثبت للعلية:
والمراد به: ما لا يكون فاطعا في تأثيره، فيكون يحتمل التعليل
ويحتمل غيره، ولكن التعليل به أرجح.
وألفاظ النص الظاهر في العلية هي كما يلي:
1 -
لفظ " كي "، سواء كانت مجردة عن " لا "، كقوله
تعالى: (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) أو كانت مقرونة بها كقوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) .
ويشترط فيها: أن تكون بمنزلة لام التعليل معنى وعملاً.
وبعضهم جعلها من النص الصريح.
2 -
لفظ " اللام "، كقوله تعالى:(وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) ،
وقوله: (ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) .
3 -
لفظ " أنْ " بفتح الهمزة، وتخفيف النون، ومنه قوله
تعالى: (يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا)، ومنه قولك:
"جئت أن أعطى " أي: للإعطاء.
4 -
لفظ " إنْ " بكسر الهمزة، وتخفيف النون، وهي الشرطية،
والشروط اللغوية أسباب كقولك: " إن تقم أقم معك " يعني: علة
قيامي هي: قيامك.
5 -
لفظ " أنَّ " بفتح الهمزة وتشديد النون كقوله تعالى:
(وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) ، ودخلها التعليل
بسبب تقدير لام العِلَّة، والمراد: لئلا يرجعون.
6 -
لفظ " إن" بكسر الهمزة، وتشديد النون، ومنه قوله
تعالى: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) ،
وقوله: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ،
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات "،
وقوله في المحرم الذي وقصته ناقته فمات:
" اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه،
فإن اللَّه يبعثه يوم القيامة ملبياً ".
و" أنَّ "، و " إنَّ " تكونان من ألفاظ النص الظاهر في العلية،
سواء دخلت عليهما الفاء أو لا، فيقال:" فأنَّ " أو " فإنَّ ".
7 -
لفظ " الباء " كقوله تعالى: (إنكم ظلمتم أنفسكم
باتخاذكم العجل) ، وقوله:(ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) ،
وقوله: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم) .
والباء تأتي للتعليل إذا كانت سببية، وهي التي تصلح في الغالب
أن تحل اللام محلها.
8 -
لفظ " إذ " بكسر الهمزة، وسكون الذال، كقوله تعالى:
(ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون)
أي: لأجل ظلمكم في الدنيا، وهي بمنزلة اللام،
ومنهم من قال: إنها للتعليل، ولكن هذا التعليل لم يستفد من لفظها،
ولكنه مستفاد من المعنى.
وقال بعض العلماء: إنها لا تكون - للتعليل، ومعنى الآية هنا: إذ
ثبت ظلمكم.
9 -
لفظ " الفاء " التي بمعنى السببية، ومثالها في النفي المحض
قوله تعالى: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) ، ومثالها في الطلب
المحض قوله تعالى: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) .
وبعضهم منع أن تكون الفاء للتعليل.
10 -
لفظ " لعل "، ومنه قوله تعالى: (اعبدوا ربكم الذي
خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) ، وهو مذهب الكوفيين.
وبعضهم منع أن تكون " لعل " تفيد التعليل.
11 -
لفظ " حتى " المرادفة للفظ " كي " كقوله تعالى: (ولا
يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم) ، ومنه قولك: " راجع دروسك
حتى تنجح "، ومنه قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين
منكم) ، وقوله تعالى:(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) .
ولفظ " حتى " تحتمل أن تكون للاستثناء، ومنه قوله تعالى:
(فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) .
12 -
ذكر المفعول له كقوله تعالى: (لأمسكتم خشية الإنفاق) ،
وقوله: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) .
13 -
لفظ " إذن "، ومنه قوله تعالى:
(إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) .
والخلاصة: أن أي لفظ يحتمل التعليل، ويحتمل غيره احتمالاً
مرجوحاً، أو أخذ التعليل من معنى النص لا من لفظه: فهو من
قبيل النص الظاهر المثبت للعلية.
***
الطريق الثالث: الإجماع المثبت للعلية:
والمراد به: اتفاق مجتهدي العصر على أن هذا الوصف المعين علَّة
للحكم المعين.
ومن أمثلة العِلَّة المجمع عليها: أن البكر الصغيرة يولى عليها،
والعِلَّة هي: الصغر اتفاقا، ويقاس عليها الثيب الصغيرة في وجوب
التولية عليها بجامع: الصغر.
مثال آخر.: أن الأخ الشقيق مقدم في الإرث على الأخ لأب،
والعلَّة هي: امتزاج النسبين: نسب الأم ونسب الأب واختلاطهما
إجماعا.
ويقاس على ذلك: تقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب في ولاية
النكاح، وتحمل العاقلة بجامع: امتزاج النسبين.
مثال ثالث: أن الغاصب يضمن ما أتلف من مال، والعلَّة:
كون التالف مالاً قد تلف تحت اليد العادية إجماعا.
فيقاس على ذلك: السارق، فإنه يضمن ما أتلف - وإن قطعت
يده - والعِلَّة: أنه مال تلف تحت اليد العادية.
القسم الثاني من أقسام طرق ثبوت العلَّة:
ثبوت العلَّة عن طريق الاجتهاد
" مسالكَ العِلَّة الاجتهادية "
ويشتمل على ما يلي:
الطريق الأول: الإيماء إلى العِلَّة.
الطريق الثاني: المناسبة والإخالة.
الطريق الثالث: السبر والتقسيم.
الطريق الرابع: تنقيح المناط.
الطريق الخا مس: الدوران.
الطريق السادس: الوصف الشبهي " الشبه ".
الطريق الأول في الإيماء إلى العِلَّة
ويشتمل على بيان الإيماء وهو التمهيد، وبيان أنواعه:
أما التمهيد فهو في تعريف الإيماء، والفرق بينه وبين النص والظاهر
على العلة.
أما الأنواع فهي:
النوع الأول: أن يذكر الوصف، ثم يذكر الحكم بعده، وهو مقترن
بالفاء.
النوع الثاني: ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء والشرط.
النوع الثالث: أن يذكر الشارع حكما بعد سؤال سائل مباشرة.
النوع الرابع: أن يذكر الشارع وصفا مع حكم لو لم يكن الحكم
معللاً به لما كان لذكره فائدة.
النوع الخامس: أن يفرق الشارع بين أمرين بذكر صفة تشعر بأنها هي
علة التفرقة في الحكم.
النوع السادس: أن يأتي أمر الشارع أو نهيه في شيء ما، ثم يذكر
في أثنائه شيئاً آخر لو لم يقدر كونه علة لم يكن له
تعلق بأول الكلام ولا بآخره.
النوع السابع: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا لأن يكون
علة لذلك الحكم.
التمهيد في تعريف الإيماء والفرق بينه وبين النص
والظاهر على العِلَّة
أولاً: الإيماء لغة هو: بمعنى الإشارة، مأخوذ من " وما إليه "
"يمأ"، و " - مئا "، ويأتي الإيماء بمعنى الإشارة بالرأس، أو باليد.
وبعضهم يطلق على ذلك: " الإيماء والتنبيه "، وهما لفظان
متقاربان في المعنى لغة.
ثانيا: الإيماء اصطلاحا هو: اقتران وصف بحكم لو لم يكن هو
أو نظيره للتعليل لكان بعيداً، فيحمل على التعليل؛ دفعا للاستبعاد.
ويراد به: أن يكون التعليل مفهوما من لازم مدلول اللفظ وضعا.
والفرق بينه وبين النص الصريح والظاهر على العلية: أن النص
الصريح على العلية يشترط فيه: أن يكون اللفظ موضوعا للتعليل،
ولا يحتمل غيره.
والنص الظاهر على العلية يشترط فيه: أن يترجح أن اللفظ
موضوعا للتعليل مع احتمال غيره.
أما الإيماء إلى العِلَّة فهو: أن اللفظ فيه لا يكون موضوعا للتعليل،
وإنما يفهم التعليل منه من السياق، أو القرائن اللفظية الأخرى.
النوع الأول - من أنواع الإيماء -: أن يذكر الوصف ثم يذكر
الحكم بعده وهو مقترن بالفاء:
أولاً: بيان ذلك با لأمثلة والدليل:
ومن الأمثلة: قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) ،
وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)
وقوله؛ (قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) ، وقوله عليه
الصلاة والسلام: " من بدل دينه فاقتلوه "،
وقوله: " من أحيا أرضا ميتة فهي له ".
فإن في هذه الأمثلة دلالة على أن الوصف المتقدم - وهو السرقة،
والزنى، والأذى، وتبديل الدين، وإحياء الأرض - علَّة للحكم
وهو: وجوب القطع، والجلد، والاعتزال، والقتل، وتمليك
الأرض.
ودليل ذلك: أن الفاء ظاهرة في أنها للتعقيب، ولهذا فإنه لو
قيل: " جاء زيد فعمرو "، فإن ذلك يدل على مجيء عمرو عقيب
زيد من غير مهلة، فكذلك هنا فإن ذكر الحكم وهو مقترن بالفاء بعد
وصف مباشرة يلزم منه أمران:
أولهما: ثبوت الحكم عقيب ذلك الوصف من غير مهلة.
ثانيهما: السببية؛ لأنه لا معنى لكون الوصف سببا إلا ما ثبت
الحكم عقيبه وبعده مباشرة.
وليس ذلك قطعا، بل ثبت ذلك بالاجتهاد؛ لأن الفاء في اللغة
ترد بمعنى الواو في إرادة الجمع المطلق، وقد ترد بمعنى " ثم " في
إرادة التأخير مع المهلة، غير أنها ظاهرة في التعقيب.
ثانيا: هل تشترط المناسبة للوصف المومأ إليه؟
لقد اختلف العلماء في الحكم المترتب على الوصف هل يشترط
لإشعاره بكون الوصف عِلَّة: أن يكون الوصف مناسباً لذلك الحكم،
أو لا يشترط ذلك؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا تشترط المناسبة للحكم.
أي: أن ذكر الوصف أولا، ثم ذكر الحكم بعده، وهو مقرون
بالفاء يدل على أن ذلك الوصف سبب وعلَّة لذلك الحكم مطلقا،
أي: سواء كان ذلك الوصف مناسباً للحكم، كقوله تعالى:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، وما ذكر معه من الأمثلة،
أو لم يكن مناسباً للحكم كقوله صلى الله عليه وسلم:
"من مس ذكره فليتوضأ "،
فإن عِلَّة وجوب الوضوء هي: مس الذكر، وإن لم نعلم مناسبة هذا
الوصف لذلك الحكم.
وهذا هو مذهب الغزالي، وفخر الدين الرازي، وابن الحاجب،
وصفي الدين الهندي، وهو الحق؛ لأنا لو قلنا: إن الوصف المومأ
إليه الخالي عن المناسبة لا يصلح أن يكون عِلَّة للحكم، فإنه يلزم
على هذا القول أحد أمرين هما:
الأمر الأول: إما أن لا يكون للحكم عِلَّة أصلاً.
الأمر الثاني: إما أن تكون له عِلَّة أخرى غير ذلك الوصف.
أط الأمر الأول - وهو: أن لا يكون للحكم عِلَّة أصلاً - فهو
باطل لوجهين:
الأول: أن الحكم بدون العِلَّة والحكمة عبث، والعبث محال على
الله سبحانه.
الوجه الثاني: أن الحكم مع عِلَّته أكثر فائدة مما إذا لم يكن
كذلك، ومما لا شك فيه أن حمل تصرفات الشارع على ما هو أكثر
فائدة أوْلى وأليق، لا سيما إذا علمنا أن الغالب في تصرفات الشارع
أن تكون على وفق تصرفات العقلاء والعرف.
أما الأمر الثاني - وهو: أن تكون له علَّة أخرى غير ذلك
الوصف فهو باطل - أيضا -؛ لأن ذلك الغيرَ معدوم، والأصل
بقاء ما كان على ما كان.
وعلى هذا: فإنه يتعين ذلك الوصف الخالي عن المناسبة علَّة
للحكم.
المذهب الثاني: أنه تشترط المناسبة للحكم.
أي: أن الوصف المذكور قبل الحكم المقرون بالفاء لا يدل على
العلية إلا إذا كان مناسبا لذلك الحكم، وهو لبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أنه قد استقبح عرفا أن يقال: " أكرموا الجهال "، وهذا
الاستقباح إنما جاء من أن الجهل مانع من الإكرام، فالأمر بإكرام
الجاهل إثبات للحكم مع قيام المانع وهو: الجهل، إذن لا بد أن
يكون الوصف الدال على العلية مناسبا للحكم.
جوابه:
إن الجاهل قد يستحق الإكرام بسبب جهة أخرى غير جهله، كان
يكون ذلك لكرمه، أو لشجاعته، أو لنسبه، فيتضح أن الجهل لا
يكون مانعا من الإكرام.
ثالثاً: بيان أن كلام الراوي مثل كلام الشارع في ذلك:
قول الراوي: " سهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسجد"،
وقوله: "رض يهودي رأس جارية فأمر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين "،
وقوله: " زنا ماعز فرجم "،
فإن هذا القول مثل كلام الشارع - السابق الذكر -.
أي: أن الراوي إذا ذكر وصفاً ثم ذكر بعده حكما مقروناً بالفاء،
فإنه يُفهم أن ذلك الوصف سبب وعِلَّة لذلك الحكم.
ففي الأمثلة السابقة: يكون السهو هو علَّة وسبب السجود،
ويكون رض اليهودي رأس الجارية هو سببَ وعلَّة رض رأسه بين
حجرين، ويكون الزنا هو سبب رجم ماعز، وهكذا في جميع
الأمثلة المماثلة لذلك، كما قلنا فيما صدر من الشارع من غير فرق،
إلا أن كلام الشارع - سواء كان من اللَّه أو من رسوله - أقوى في
الدلالة على العلية والسببية من كلام الراوي؛ لأن كلام الشارع لا
يتطرق إليه من الخلل والزلل والخطأ الذي يمكن أن يتطرق لكلام
الراوي.
أدلة ذلك:
لقد دلَّ على أن كلام الراوي مثل كلام الشارع في فهم السببية
والعلية أدلة من أهمها:
الدليل الأول: أن الراوي وهو الصحابي الذي شهد له اللَّه تعالى
ورسوله بالعدالة، وبذل النفس والنفيس لإعلاء كلمة اللَّه لا يمكن أن
يُعبر بلفظ يفهم السببية والعلية إلا إذا كان الأمر كذلك حقيقة، ذلك
لأنه يعلم - تمام العلم - أنه لو عبر بهذا اللفظ الذي يفهم السببية
وهو ليس كذلك، فإنه يكون ملبساً ومدلسا في دين اللَّه، ويعم
فساده؛ لأن هذه الشريعة عامة وشاملة لجميع المكلفين إلى قيام
الساعة، وهذا كله يتنزه عنه الصحابى الذي اختاره اللَّه لصحبة نبيه،
ولنقل الشريعة كما هي إلى من بعده.
الدليل الثاني: أن الصحابي لا يمكن أن يعبر بلفظ يفهم السببية
والعلية إلا إذا كان كذلك بحكم كونه من فصحاء العرب، وكونه
عارفاً: لمواقع الكلام، ومجاري اللغة، وعالما بدلالات الألفاظ
واشتقاقاتها، وأساليبها.
رابعا: هل يشترط الفقه في الراوي الذي فهمنا
من كلامه السببية أو لا؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يشترط في الراوي: أن يكون فقيهاً.
أي: أن الراوي الفقيه إذا ذكر وصفا ثم ذكر بعده حكما مقرونا
بالفاء، فإنه يفهم أن ذلك الوصف سبب وعلة لذلك الحكم.
وهو مذهب أكثر العلماء.
وهو الحق؛ لأن احتمال الخطأ والوهم في كلام الراوي غير الفقيه
أقوى من احتماله في كلام الراوي الفقيه.
المذهب الثاني: أنه لا يشترط ذلك، فالراوي إذا ذكر وصفا، ثم
ذكر بعده حكما مقرونا بالفاء، فإنه يفهم أن ذلك الوصف سبب
وعلة لذلك الحكم مطلقا، أي: سواء كان الراوي فقيها، أو غير
فقيه.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن التعبير بلفظ يفهم منه السببية والعلية لا يقتبس من الفقه، ولكنه
يستفاد من اللغة ودلالات الألفاظ، لذلك اشتراط الفقه من الراوي
لامعنى له.
جوابه:
أن الراوي لو نقل إلينا نص اللَّه تعالى، أو نص رسوله صلى الله عليه وسلم فنحن نوافقكم على هذا.
أما إذا رأى عملأ عمله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يعبر عنه بلفظه وأسلوبه الخاص، فلا بد أن يكون عالما ومدققا بدلالات الألفاظ
- كما قلتم - وعالماً بفقه الأحكام ومقاصد الأفعال، ومراد الشارع
من كلامه وفعله.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي؛ فبناء على المذهب الأول: فإن كلام الراوي
الفقيه في ذلك يفيد السببية والعلية بدون قرائن أخرى، أما كلام
الراوي غير الفقيه فإنه لا يفهم السببية والعلية إلا بواسطة قرائن
أخرى، وبناء على المذهب الثاني: فإن كلام الراوي يفيد السببية
مطلقا وبدون قرائن.
***
النوع الثاني - من أنواع الإيماء -: ترتيب الحكم على الوصف
بصيغة الجزاء والشرط:
فإذا وردت أداة من أدوات الشرط، فإن فعل الشرط يكون وصفا
وعلة، وجواب الشرط يكون هو الحكم.
ومن أمثلته: قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) .
فورود الوصف وهو تقوى اللَّه - فعلاً للشرط " من " يدل على
أنه عِلَّة وسبب للحكم وهو: إخراجه من الضيق الذي هو فيه.
وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم:
"من اتخذ كلباً - إلا كلب ماشية أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان ".
فيكون هنا: سبب وعِلَّة نقصان أجره هو اتخاذه للكلب.
ووجه جعل ذلك من الإيماء إلى العِلَّة: أن الجزاء والجواب يتعقب
فعل الشرط ويلازمه، ولا ينفك عنه، ومعروف: أن السبب يثبت
الحكم عقيبه، ويوجد بوجوده.
وهذا يعني: أن الشرط في مثل هذا المقام سبب للجزاء والجواب.
تنبيه: بعض العلماء جعلوا هذا النوع من النص الظاهر على
العلَّة.
والحق أنه من ثبوت العِلَّة عن طريق الاجتهاد، من نوع الإيماء؛
حيث يحتاج إلى بعض النظر والاستدلال.
النوع الثالث: أن يذكر الشارع حكما بعد سؤال سائل مباشرة
فإن ذلك يغلِّب على الظن: كون ذلك السؤال عِلَّة لذلك الحكم:
مثاله: حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت يا رسول اللَّه، قال:" ماذا صنعت؟ "
قال: وقعت على أهلي في نهار رمضان،
قال: " اعتق رقبة.. ".
أي: أسألك عن حكم ذلك، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"اعتق رقبة " غلب على الظن: أن الوقاع - وهو الجماع في نهار رمضان -
عامداً عِلَّة لوجوب الكفارة.
ووجه كون الوقاع سببا وعِلَّة للحكم: أنه لما كان الحكم الذي
ذكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جوابا عن سؤال الأعرابي، فإنه يتضمن أن يكون السؤال معاداً في الجواب تقديراً، فكأنه قال له: إذا واقعت أهلك في نهار رمضان فكفِّر بكذا.
اعتراض على ذلك:
قال قائل - معترضا -: إن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون جواباً عن سؤال الأعرابي، ويحتمل أن يكونه جوابا عن سؤال آخر، أو هو ابتداء كلام مستأنف، أو هو زجر للأعرابي عن الكلام،
وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال.
جوابه:
إن هذه الاحتمالات قد تتصور عقلاً، لكنها ممتنعة هنا؛ لأن قول
الرسول صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة " لو لم يكن جوابا عن سؤال الأعرابي: للزم خلو سؤال الأعرابي عن الجواب مما يؤدي إلى تأخير البيان عن
وقت الحاجة، وهذا غير جائز اتفاقا.
اعتراض على هذا الجواب:
قال قائل - معترضا -: لا نُسَلِّمُ أنه يلزم منه تأخير البيان عن
وقت الحاجة؛ لأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه لا حاجة للمكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت.
جوابه:
أن الغالب في السؤال: أن يكون في وقت الحاجة، ونحن نعمل
على الغالب الأعم، أما ما قلتموه - وإن كان محتملاً - لكنه
مرجوح؛ لأنه نادر الوقوع، ولا يعمل على النادر.
***
النوع الرابع: أن يذكر الشارع وصفا مع حكم، ولم يصرح
بالتعليل به، ولكن لو لم يكن الحكم معللاً به لما كلان لذكره
فائدة: -
ولذلك نقول: إن هذا يفيد العلية ظنا؛ لأمرين:
أولهما: أنه لو لم يكن كذلك لكان ذكره لغواً وعبثاً لا فائدة فيه.
ثانيهما: أنه إذا كان ذكر عديم الفائدة في كلام العقلاء لا يجوز،
فعدم وروده في كلام الشارع أوْلى.
فيجب تقدير الكلام على وجه مفيد، وذلك صيانة لكلام الشارع
عن اللغو والعبث وعدم الفائدة.
حالات هذا النوع:
الحالة الأولى: أن يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم شيء ما، فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف له، وبعد إخباره بالوصف يقول حكمه فيه، فهذا يفيد أن ذلك الوصف الذي أخبروه به علَّة لذلك الحكم الذي نطق به بعده.
مثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر، فقال عليه الصلاة والسلام:" أينقص الرطب إذا جف؟ "،
فقالوا: نعم، فقال:" فلا إذن ".
فقد دلَّ سؤاله واستكشافه عن نقصان الرطب عند الجفاف على أن
هذا النقصان عِلَّة لعدم جواز بيعه رطبا.
ولو لم يفهم منه ذلك: لا كان للسؤال عنه وذكر الحكم بعده
فائدة.
الحالة الثانية: أن يتوجه سؤال إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم واقعة معينة، فيذكر الرسول صلى الله عليه وسلم حكم حادثة أخرى مشابهة لها منبها على وجه الشبه بذكر وصف مشترك بينهما، فيفيد أن ذلك الوصف عِلَّة لذلك الحكم.
مثاله: أن امرأة من جهينة جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، إن أمي أدركتها الوفاة وعليها فريضة الحج، فهل يجزئ أن أحج عنها؛ فقال: " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان
يجزئ عنها؟ " قالت: نعم، قال: " فدين اللَّه أحق أن يقضى ".
فهنا: قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نظير دين اللَّه، وهو دين الآدمي، ونبه على التعليل به؛ لكونه عِلَّة الانتفاع، ولو لم يكن قد ساقه لهذا الغرض - وهو التعليل به - لكان عبثا، ففهم من هذا: أن نظيره
في المسؤول عنه - وهو دين اللَّه وهو: الحج - كذلك عِلَّة لمثل ذلك
الحكم، وهو النفع.
الحالة الثالثة " أن يذكر الشارع وصفا ظاهراً في محل الحكم ابتداء
من غير سؤال، لو لم يكن هذا الوصف مؤثرأ في الحكم لكان ذكره
عبثاً.
مثاله: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن مسعود بعد ما توضأ بماء نُبذت فيه تمرات لتجذب ملوحته: " تمرة طيبة وماء طهور "،
فقد نبَّه صلى الله عليه وسلم على تعليل الطهورية ببقاء اسم الماء عليه.
الحالة الرابعة: أن يذكر الشارع الحكم لدفع إشكال في محل
آخر، ويردفه بوصف، فحينئذ يغلب على الظن: أن ذلك الوصف
عِلَّة لذلك الحكم.
مثاله: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب، فقيل له: إنك تدخل على بني فلان وعندهم هرة،
فقال صلى الله عليه وسلم:
"إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ".
بيان ذلك: أنه حصل عند الناس إشكال وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه الناس قد امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب استشكلوا دخوله عند قوم آخرين وعندهم هرة، اعتقاداً منهم أن الكلب والهرة في الحكم سواء، فبين لهم صلى الله عليه وسلم: أن الحكم مختلف، فإن الهرة طاهرة، وليست بنجسة، وعلَّة طهارتها: كثرة تطوافها وصعوبة التحرز منها، ولو لم يكن لذكر تطوافها عقيب الحكم أثر في
الطهارة لما كان لذكره فائدة.
تنبيه: ويمكن أن يعرف أن كثرة التطواف عِلَّة الطهارة سؤر الهرة
بطريق النص الظاهر على العلية - كما سبق بيانه -.
***
النوع الخامس: أن يفرق الشارع بين أمرين في الحكم:
بأن يذكر صفة ما تشعر بأنها هي علَّة التفرقة في الحكم ما دام قد
خصها بالذكر دون غيرها، فلو لم تكن علَّة لكان ذلك على خلاف
ما أشعر به اللفظ، وذلك فيه إلباس لا يمكن أن يرد من الشارع:
وهذا يكون على حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون حكمهما مذكوراً في خطاب واحد،
وتقع التفرقة فيما يلي:
1 -
أن تقع التفرقة بلفظ الاستدراك كقوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) ، فقد فرق
بينهما في أن تعقيد الأيمان هي المؤثرة في المؤاخذة.
2 -
أن تقع التفرقة بلفظ الاستثناء كقوله تعالى: (فنصف ما
فرضتم إلا أن يعفون) ، فقد فرق بين لزوم النصف وعدمه في
ضمن الاستثناء.
3 -
أن تقع التفرقة بلفظ الغاية كقوله تعالى: (ولا تقربوهن
حتى يطهرن) ، فقد فرق في الحكم بين الطهر والحيض في جواز
القربان من عدمه.
4 -
أن تقع التفرقة فيه باستئناف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته
بعد ذكر الآخر كقوله صلى الله عليه وسلم:
" للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم "
فهنا: فرق بين الراجل والفارس، ووجه الفرق بين الموصوفين في
الحكم: هو ذكر وصفين هما الراجلية والفارسية.
5 -
أن تقع التفرقة بلفظ الشرط والجزاء كقوله صلى الله عليه وسلم
: " لا تبيعوا البر بالبر
…
" إلى قوله: " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد "، فهنا: قد حصل التفريق بين منع بيع الجنس بجنسه
متفاضلاً، وبين جواز بيعه بغير جنسه، ولو لم يكن ذلك لعلية
الاختلاف بين الأمرين، لكان بعيداً عن المراد.
الحالة الثانية: أن يكون حكم أحد الأمرين مذكوراً في هذا
الخطاب كقوله صلى الله عليه وسلم:
"القاتل لا يرث "،
فإن هذا مشعر بأن عِلَّة حرمانه من الإرث هو: القتل.
النوع السادس: أن يأتي أمر الشارع أو نهيه في شيء ما، ثم
يذكر في أثناء هذا الأمر أو هذا النهي شيئاً آخر:
لو لم يقدر لمحونه عِلَّة لذلك الحكم المطلوب لم يكن له تعلق
بالكلام لا بأوله، ولا بآخره مما قد يعتبر خبطا واضطراباً في الكلام
يتنزه الشارع عنه.
مثاله: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) .
فيفهم من هذا: أن عِلَّة النهي عن البيع هي: كونه مانعا من
السعي إلى الجمعة؛ لأنناً لا يمكن أن نقدر النهي عن البيع مطلقا،
فإنه متناقض مع قوله تعالى: (وأحل اللَّه البيع) ، ويكون خبطا في
كلام الشارع واضطرابا فيه.
فلم يبق إلا أن يكون النهي عن البيع في وقت محدد، وهو
وقت: كونه شاغلاً عن السعي للجمعة.
***
النوع السابع: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا لأن
يكون عِلّة لذلك الحكم:
كقوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم)
فعِلَّة جعل الأبرار في الجنة هي: البر، وعِلَّة جعل الفجار في النار
هي: فجورهم.
وهذا الحكم عام في كلام الشارع، وكلام المكلَّفين، ولا فرق
بينهما: فغالب كلام وألفاظ الشارع قد اعتبرت فيه المناسبة.
وكذلك كلام المكلَّفين العقلاء قد اعتبرت فيه المناسبة، ومن ذلك
قولهم: " أكرم العلماء وأهن الفساق "، فهنا يفهم: أن علَّة إكرام
العلماء هي: العلم، وعِلَّة إهانة الفساق هي: الفسق.
حالات هذا النوع:
الحالة الأولى: الوصف الذي اعتبر وكان عِلَّة في نفسه وذاته كما
مثلنا فيما سبق: فإن العلم هو بنفسه الوصف الذي اعتبر عِلَّة لإكرام
العلماء.
الحالة الثانية: الوصف الذي اعتبر وكان اعتباره؛ لكونه يحتمل:
أن العِلَّة ما تضمنه ذلك الوصف واشتمل عليه.
ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ".
فهنا: نرى أن الشارع قد نهى عن القضاء مع الغضب، والعلَّة
ليست هي نفس الوصف المناسب - وهو الغضب - ولكن العلَّة
هي: " الدهشة المانعة من تركيز الفكر "، التي تضمنها وصف
الغضب.
وسبب قولنا ذلك: أنا لما علمنا أن الغضب اليسير الذي لا يمنع
من استيفاء الفكر ولا يشوش عليه لا يمنع من القضاء، وأن الجوع
المبرح والألم المبرح ومدافعة الأخبثين يمنع من استيفاء الفكر وتركيزه:
علمنا أن عِلَّة المنع ليست هي الغضب، بل تشويش الفكر.
وهذا ما ذهب إليه الغزالي، وفخر الدين الرازي، وكثير من
العلماء.
أما كثير من العلماء فقد ذهبوا إلى أن علَّة النهي عن القضاء هي:
نفس الغضب، فالغضب - عند هؤلاء - هي: العِلَّة المانعة من
القضاء؛ لأن فيه تشويشاً للفكر، واضطراب الحال يؤدي إلى عدم
العدل والإنصاف والدقة التي ينبغي للقاضي أن يكون حكمه على
وفْقها، ولهذا تجدهم قد جعلوا الوصف - وهو الغضب - من أمثلة
الحالة الأولى.
وذكروا: أن الحديث وإن دلَّ بظاهره على أن مطلق الغضب علَّة
إلا أن جواز القضاء مع الغضب اليسير يدل على أن مطلق الغضَب
ليس بعلَّة، بل المقصود بالغضب المانع من القضاء إنما هو الغضب
الشديد الذي يشوش الفكر، ويمنع القاضي من استيفاء النظر والفكر.
جوابه:
أنا نمنع كون نفس الغضب هو العلَّة؛ لأن الحكم لما دار مع
تشويش الفكر وجوداً وعدماً، وانقطع عن الغضب وجوباً وعدما،
وليس بين التشويش والغضب ملازمة أصلاً؛ لأن تشويش الفكر قد
يوجد حيث لا غضب، والغضب يوجد حيث لا تشويش، فعلمنا
بذلك أنه ليس بينهما ملازمة، وحينئذٍ: نعلم أنه لا يمكن أن يكون
الغضب عِلَّة، بل العِلَّة إنما هو التشويش - فقط -.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي؛ حيث إنه بناء على المذهب الأول يجوز قياس
كل ما يشوش الفكر على الغضب كالجوع، والعطش، وحصر
البول، والألم، ونحو ذلك؛ حيث إن العِلَّة متعدية.
أما بناء على المذهب الثاني - وهم القائلون: إن العِلَّة هي نفس
الغضب - فلا يجوز القياس على الغضب غيره - حيث إن العلَّة
عندهم قاصرة، فلا يجوز قياس الجوع والألم عليه.
تنبيه: لا مانع من أن يكون مثال واحد ينطبق على أكثر من نوع
من أنواع الإيماء إلى العِلَّة، وحيمئذ يكون الإيماء فيه من عدة جهات
بحسب جهة النظر فيه.
الطريق الثاني من طرق ثبوت العلَّة بالاجتهاد
ثبوت العِلَّة بالمناسَبة والإخالة
ويشتمل على ما يلي:
أولاً: تعريف المناسبة، وسبب تسميتها بالإخالة.
ثانيا: الدليل على أن المناسبة قفيد العلية.
ثالثاً: أقسام المناسب.
رابعا: هل المناسبة تبطل بمعارضة مفسدة مساوية أو راجحة؟
أولاً: تعريف المناسبة وسبب تسميتها بالإخالة:
1 -
المناسب لغة يأتي بمعنى المشاكل للشيء، يقال:، ليس
بينهما مناسبة " أي: مشاكلة.
ويأتي لفظ " ناسب " بمعنى: أشرك في النسب، يقال:" ناسبه "
أي: أشركه في نسبه.
ويطلق على الملائمة، ومنه قولهم:" تلائم القوم والتأموا " إذا
اجتمعوا، واتفقوا، وتناسبوا.
2 -
والمناسب في الاصطلاح هو: وصف ظاهر منضبط يحصل
عقلاً من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء من
حصول مصلحة أو دفع مفسدة.
والمراد بالمصلحة: اللذة ووسيلتها، والمراد بالمفسدة: الألم
ووسيلته.
وكل من المصلحة والمفسدة يكون على البدن، والنفس، ويكون
في الدنيا والآخرة.
وإنما أتي بعبارة: " يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء "؛ لأن
العاقل متى ما خير، فإنه مما لا شك فيه يختار المصلحة ودفع المفسدة.
وأتي بلفظ: " الظاهر المنضبط "؛ لأن الخفي منه وغير المنضبط
غير معتبر؛ لأنه غير معلوم، فلا يمكن أن يعرف الحكم به.
وما خفي من الأوصاف يلجأ فيها إلى مظنتها الظاهرة المنضبطة.
فمثلاً وجوب القصاص لم يُعلل بالعمد؛ لأن العمدية فيه خفية؛
حيث إن القصد وعدمه من الأمور النفسية التي لا يدرك شيء منها،
وإنما علل القصاص وأنيط بما يلازم العمدية من الأعمال المخصوصة
التي يتحقق فيها العمدية، وهو القتل بأحد الآلات الجارحة،
فصارت العِلَّة: " القتل العمد العدوان ".
كذلك: المشقة قد تظهر أنها مناسبة لترتب الحكم - وهو الإفطار
في السفر - عليها تحصيلاً للمصلحة المقصودة وهي التخفيف، لكن
المشقة لما كانت غير منضبطة؛ حيث إنها تختلف باختلاف الأزمان
والأشخاص: تعذر جعلها عِلَّة الحكم، وجعل نفس السفر هو
العِلَّة؛ لأنه مظنتها.
وتسمى المناسبة بالإخالة؛ لأن بها يخال ويظن أن الوصف هو
العلَّة.
***
ثانياً: الدليل على أن المناسبة تفيد العلية:
الدليل يتكون من مقدمتين، ونتيجة، وإليك بيان ذلك:
المقدمة الأولى: أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد.
المقدمة الثانية: أن هذا الحكم مشتمل على هذه الجهة من المصلحة.
النتيجة: أنه يغلب على الظن أنه إنما شرع الحكم الفلاني لأجل
تلك المصلحة.
وإليك الاستدلال على المقدمة الأولى، والثانية، والنتيجة فأقول:
أما المقدمة الأولى - وهي: أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد -
فإنه قد دلَّ عليها ما يلي:
الدليل الأول: أن اللَّه تعالى حيم بإجماع المسلمين، ولا معنى
لحكمته إلا أنه لا يفعل شيئاً إلا وفيه مصلحة؛ لأن هذا شأن الحكيم.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) ، ومن
مقتضى التكريم والتشريف الذي خلق اللَّه الإنسان عليه أن لا يكلف
بما لا فائدة له فيه؛ لأن ذلك ينافي تكريمه وتشريفه، ومفهوم هذا:
أنه لو كلف فإنه لا يكلف إلا بما فيه مصلحة.
الدليل الثالث: أنه ثبت من استقراء النصوص الشرعية أن الله
رحيم بعباده، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه أرسل الرُّسُل
رحمة بالناس أجمعين، مما لا يقبل معه شك في أنه سبحانه أراد
مصلحتهم، ولم يشرع ما فيه ضرر عليهم، وأنه تعالى لم يرد بعباده
العسر، وإنما أراد لهم اليسر، وكل هذا يدل بوضوح على أن
التكاليف بأسرها للمصالح؛ لأن تكليف الناس بما لا فائدة معه في
غاية العسر والمشقة والحرج، وليس فيه رحمة، ولا رأفة، بل
يتحقق معه من الضرر ما ينافي كونه رحيما رؤوفا بالعباد.
الدليل الرابع: أن أحكام اللَّه: إما أن تكون مشروعة للإضرار
بالعباد، أو مشروعة لا لمصلحة لهم، ولا له، أو مشروعة لمصلحة
عباده.
أما الأول - وهو كونها مشروعة للإضرار بالعباد - فهو باطل؛
لأنه يكون بذلك ظالماً، والظلم عليه سبحانه محال؛ لقوله تعالى:
(وما الله يريد ظلما للعالمين)، وقوله:(وما ربك بظلام للعبيد) ،
ولإجماع المسلمين على أن الظلم منتف عليه تعالى.
وأما الثاني - وهو: كون الأحكام ليست مشروعة لمصلحة عباده
ولا له - فهو باطل - أيضاً -؛ لأنه يؤدي إلى القول بأنه شرعها
عبثا، والعبث على اللَّه محال؛ لقوله تعالى:(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) ،
وقوله: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً) ، ولإجماع
المسلمين على أنه تعالى محال أن يوصف بالعبث.
فلم يبق إلا الثالث - وهو: أن اللَّه تعالى إنما شرع الأحكام
لمصلحة العباد ونفعهم -.
أما المقدمة الثانية - وهي: أن هذا الحكم مشتكل على هذه الجهة
من المصلحة - فالدليل عليها: أن القول بأن الحكم الفلاني مشروع
للمصلحة الفلانية مبني على أننا وجدناه كذلك من اشتماله على تلك
المصلحة.
وأما النتيجة - وهي: أنه غلب على الظن أنه إنما شرع الحكم
الفلاني لأجل تلك المصلحة - فالدليل عليها أن يقال: إن الحكم لم
يشرع إلا لمصلحة - كما سبق -، وهذه المصلحة إما أن تكون هي
نفس المصلحة الظاهرة لنا، أو غيرها.
أما الثاني - وهو: أن تكون غير المصلحة الظاهرة لنا - فهو
باطل؛ لأن الأصل عدم مصلحة أخرى يضاف إليها الحكم.
وإذا ثبت أن غير هذا الوصف ليس عِلَّة لهذا الحكم ثبت ظن
غالب أن هذا الوصف هو العِلَّة لهذا الحكم.
***
ثالثاً: أقسام المناسب من حيث تأثيره وعدم تأثيره:
المناسب بهذا الاعتبار ينقسم إلى خمسة أقسام هي كما يلي مرتبة
على حسب القوة:
القسم الأول: المناسب المؤثر وهو: ما ظهر تأثير عين الوصف
في عين الحكم المتنازع فيه بالإجماع أو النص، أو ما ظهر تأثير عينه
في جنس الحكم.
مثال ما ظهر تأثير عين الوصف في عين الحكم: أن الحرة الحائض
تسقط عنها الصلاة بالنص والإجماع لوصف مناسب وهو: مشقة
التكرار؛ حيث إن الصلاة تتكرر، فلو وجب قضاؤها لشق عليها
ذلك، فهنا قد ظهر تأثير عين الوصف - وهو المشقة - في عين
الحكم وهو: سقوط الصلاة.
فنقيس الأُمَّة على الحرة في ذلك؛ لأنهما يشتركان في مشقة
التكر ار.
مثال آخر: أن الثيب الصغيرة تزوج لصغرها، ثم يبين أن عين
الصغر ظهر تأثيره بالإجماع في الولاية في حق الابن، وفي ولاية
المال، فهنا قد ظهر عين هذا المعنى في عين هذا الحكم في محل
آخر، فعدي ذلك الحكم بعينه - وهو الولاية - بتلك العِلَّة بعينها
- وهو: الصغر - إلى محل النزاع، وهو الثيب الصغيرة.
ومثال ما ظهر تأثير عين الوصف في جنس الحكم: أن الأخ
الشقيق مقدم على الأخ لأب في الميراث، فيقاس على ذلك تقديمه
في ولاية النكاح، فهنا: قد أثر امتزاج النسبين - وهو عين
الوصف - في جنس الحكم وهو مطلق الولاية.
القسم الثاني: المناسب الملائم وهو:
ما ظهر تأثير جنس الوصف في جنس ذلك الحكم مثل: سقوط
قضاء الصلاة إذا علل بالحرج والمشقة، فإن هذا من جنس معاني
الشرع وملائم له إذا نظرنا إلى إسقاط الشرع كثيراً من التكاليف
بأنواع من الكلفة، كما هو الشأن في السفر والمرض.
القسم الثالث: المناسب الغريب وهو: الذي لم يظهر تأثيره ولا
ملائمته لجنس تصرفات الشرع مثل: أن المطلقة ثلاثا في مرض الموت
ترث، لأن الزوج قصد الإضرار بها، والفرار من ميراثها، فيعامل
بنقيض قصده على ما هو متبع في القواعد الشرعية، قياسا على
القاتل في عدم توريثه؛ لأنه استعجل الإرث بجامع وهو: أن كلاً
منهما قد استعجل أمراً قبل أوانه، ومن استعجل أمراً قبل أوانه
عوقب بحرمانه.
فتعليل حرمان القاتل بهذا الوصف لم يناسب جنسا من تصرفات
الشرع، مع أنه يبدو مناسبا.
تنبيه: لقد اختلف العلماء في المراد بالمناسب المؤثر، والملائم
والغريب اختلافا عظيما حتى أن بعض العلماء قد عرف المؤثر بما
عرف به الآخرون الملائم، وعرف بعضهم الغريب بما عرف به
الآخرون الملائم، وعرف بعضهم المؤثر تعريفا شاملاً لأنواع أربعة،
وبعضهم حصره في نوعين وهكذا، وقد ذكرت بعضا من ذلك في
كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " فراجعه فهو مطبوع
متداول.
القسم الرابع: المناسب المرسل، وهو الذي لم يشهد له أصل
معين بالاعتبار، ولا بالإلغاء، وهو موضوع المصلحة المرسلة التي
سبق الكلام عنها في الأدلة المختلف فيها.
ومثاله: قياس شارب الخمر على القاذف؛ حيث إن الناس لما
استحقروا الحد المشروع في الخمر جمع عمر بن الخطاب كثيراً من
الصحابة وشاورهم في الأمر، فقال علي رضي الله عنه: " من
شرب سكر، ومن سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى أن عليه
حد المفتري " فأخذوا بقوله؛ أخذاً بالمصلحة.
القسم الخامس: المناسب الملغى، وهو: الوصف الذي لم يشهد
له أصل بالاعتبار بوجه من الوجوه، وقد ظهر إلغاؤه، وإعراض
الشارع عنه في جميع صوره.
مثاله: أن بعض فقهاء الأندلس قد أفتى بأن على المجامع في نهار
رمضان: كفارة وهي: صيام شهرين متتابعين، فهذا فيه مصلحة
وهي: منع هذا المكثر من الجماع في نهار رمضان من فعله، ولكن
هذه المصلحة قد خالف نصا وهو حديث الأعرابي الذي رتب الكفارة
على ما يلي: عتق الرقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين،
فإن لم يجد فإطعام ستين مسكين.
لذلك اتفق العلماء على عدم الأخذ بهذا القسم.
***
رابعاً: هل المناسبة تبطل بمعارضة مفسدة مساوية أو راجحة؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المناسبة تبطل بمعارضة مفسدة مساوية أو راجحة.
وهو مذهب الآمدي، وابن الحاجب، والصفي الهندي، وبعض
العلماء، ونسبه بعضهم إلى أكثر العلماء، وهو الحق عندي؛ للأدلة
التالية:
الدليل الأول: أن المصلحة متى ما عورضت بمفسدة مساوية، أو
راجحة، فإن العمل بالمصلحة حينئذِ لا يُعدُّ من المصلحة عند
العقلاء، بل يكون عبثا يخرجه العقل عن كونه مناسبا إلى كونه غير
مناسب.
الدليل الثاني: أن المفسدة إذا كانت مساوية للمصلحة أو راجحة
عليها، فإن هذا يقتضي عقلاً أن لا مصلحة حينئذِ.
فلو أن رجلاً - مثلاً - اشترى ثوباً بعشرة ريالات، ثم قال
لوكيله: " بع هذا الثوب بعشرة ريالات، أو بثمانية "، فإن هذا
القول لا يقبل منه؛ لأنه يؤدي أن لا يربح، ولو فعل رجل ذلك
لعد منه خروج عن تصرفات العقلاء.
الدليل الثالث: استقراء أحكام الشريعة والعقل قد دلا على أن
دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، بيان ذلك:
أنه بعد استقراء وتتبع الأحكام الشرعية وجدنا أنه عند تعارض
المفسدة مع المصلحة، فإنه يقدم دفع المفسدة على جلب المصلحة في
كثير من الأمور.
والعقل حاكم في ذلك أيضاً؛ لأن في دفع المفسدة مصلحة أيضاً،
وعلى هذا لا يجوز العمل بمصلحة معارضة بمفسدة مساوية لها أو
راجحة عليها.
المذهب الثاني: أن المناسبة لا تبطل بمعارضة المفسدة مطلقا.
وهو مذهب فخر الدين الرازي، والبيضاوي، وكثير من العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: الوقوع؛ حيث إنه قد ورد من الشارع ما يدل على
إعمال المناسبتين المتعارضتين، وعدم بطلانهما بذلك التعارض.
كالصلاة في الدار المغصوبة، فقد رتب عليها الثواب من حيث
كونها صلاة، والعقاب من حيث كونها مغصوبة، وكذلك البيع
وقت النداء الثاني للجمعة قد رتب عليه الملك؛ لأنه بيع صحيح
الأركان، والعقاب؛ لأنه وقع في وقت النداء المنهي عنه.
ففي هذين المثالين نرى الشارع قد رتب على جهة المصلحة
والمفسدة مقتضاهما.
جوابه:
إن الكلام في مصلحة تعارضها مفسدة في شيء واحد، أما ما
ذكرتموه في المثالين فإنه ليس كذلك؛ حيث إن مفسدة الغصب لم
تكن قد نشأت من الصلاة، بدليل: أنه يأثم إذا أشغل المغصوب
واستعمله ولو لم يصل، وكذلك فإن مصلحة الصلاة لم تنشأ من
الغصب بدليل: أن صلاته صحيحة إذا أداها في غير الأرض
المغصوبة، فلم يحصل التعارض بين مصلحة الصلاة، ومفسدة
الغصب؛ حيث لا تعارض بين المقتضى الذاتي، والمقتضى الخارجي.
الدليل الثاني: أن السلطان لو ظفر بجاسوس من أعدائه، فإنه
يحسن منه أمران: " عقابه "، و " العفو عنه ": فقد يعاقبه زجراً
لأمثاله وتأديبا لهم، وقد يحسن إليه ويعفو عنه إما لكشف أسرار
عدوه عن طريق هذا الجاسوس، وإما أنه عفى عنه للاستهانة بعدوه،
وفعل السلطان هذا لا يعد خارجاً به عن مقتضى المناسبة والحكمة،
وسواء في ذلك ما إذا كانت المناسبتان متساويتين، أو إحداهما أرجح
من الأخرى.
جوابه:
لا نسلم أن هذا التصرف من السلطان حسن على الإطلاق، بل
لا بد أن يفعل الأرجح منهما، ولو فعل المرجوح منهما لا يكون
تصرفه وفعله موافقاً لتصرفات العقلاء، ولا يكون مناسبا.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني - وهم
القائلون: بعدم بطلان المناسبة بمعارضة المفسدة الراجحة أو المساوية -
أرادوا من العلَّة الوصف المؤثر المعرف للحكم، ولم يريدوا جملة ما
يتوقف عليه المعلول، ولا دخل لوجود الشرط، وعدم المانع في
التأثير اتفاقا، بل المؤثر نفس الوصف، وقد تخلف الحكم عنه،
وهو موجود قطعا.
أما أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون ببطلان المناسبة
بمعارضة المفسدة الراجحة أو المساوية - فإنهم أرادوا من العِلَّة أنها
جملة ما يتوقف عليه المعلول من وصف مؤثر معرف للحكم،
ووجود شرط وعدم مانع، ولا شك أن هذه الجملة تزول إذا تخلف
الحكم لفقد شرط، أو وجود مانع.
وهذا لا يمنع اتفاق أصحاب المذهبين على أن العِلَّة في غير موضع
التخلف تامة صحيحة يترتب عليها المعلول، وفي موضع التخلف
غير تامة، والحكم معدوم، وهو لم يترتب على العِلَّة إلا أن العدم
عند أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون ببطلان المناسبة - مضاف
إلى عدم وجود العلَّة، أي: أن المناسبة لما بطلت بمعارضة مفسدة
راجحة أو مساوية كأنها لم توجد.
والعدم عند أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون بعدم
بطلانها - مضاف إلى وجود المانع، أو تخلف شرط.
أي: أن المناسبة موجودة لم تبطل بمعارضة تلك المفسدة الراجحة،
أو المساوية، ولكن لم يعمل بها؛ نظراً لوجود مانع، أو تخلف شرط.
إذن اتفق الفريقان على المعنى وهو: أنه لا يُعمل بالمناسبة المعارضة
بمفسدة راجحة أو مساوية، ولكن اختلفوا في سبب عدم العمل.
فأصحاب المذهب الأول قالوا: إن السبب هو: كون المناسبة
معارضة بالمفسدة فأسقطتها.
وأصحاب المذهب الثاني قالوا: إن السبب هو: وجود المانع.
الطريق الثالث من طرق ثبوت العلَّة بالاجتهاد
ئبوت العِلَّة بالسبر والتقسيم
ويشتمل على ما يلي:
أولاً: تعريف السبر والتقسيم.
ثانيا: أسماء هذا الطريق.
ثالثا: أقسام التقسيم، وتعريف كل قسم، وشروطه، وبيان إفادة
كل قسم للعلية.
رابعا: بيان كيفية سبر الأوصاف غير الصالحة للعلية وحذفها
وإبطالها.
أولأ: تعريف السبر والتقسيم:
1 -
السبر والتقسيم لغة:
السبر لغة: الأصل، واللون، والهيئة، والمنظر، ومنه قولهم:
" حسن السيرة " أي: حسن الهيئة.
وهو يطلق على الاختبار، ومنه قولهم:" سبرت الجرح " أي:
نظرت ما غوره.
والتقسيم لغة هو: مأخوذ من قسم الشيء إذا جزأه وفرقه.
2 -
السبر والتقسيم اصطلاحا:
السبر اصطلاحا هو: اختبار الوصف في صلاحيته وعدمها للتعليل
والتقسيم اصطلاحا هو: حصر الأوصاف المحتملة للتعليل بان
يقال: العِلَّة إما كذا أو كذا.
3 -
المراد بهذا الطريق هنا:
المراد بالسبر والتقسيم: حصر الأوصاف التي تحتمل أن يُعلل بها
حكم الأصل في عدد معين، ثم إبطال ما لا يصح بدليل، فيتعين
أن يكون الباقي عِلَّة.
فمثلاً: أن يقول المجتهد: إن تحريم الربا في البر ثبت لعلة،
والعلة هذه يحتمل أن تكون: كونه مكيلاً، أو كونه مطعوما، أو
كونه مقتاتا، أو كونه مدخراً، أو كونه موزونا، أو كونه مالاً،
وعجز عن استنباط عِلَّة أخرى فوق هذه العلل الست، فهذا يُسمَّى
بالتقسيم.
ثم يبدأ بسبر واختبار تلك الأوصاف، وينظر فيها، ويسقط ما لم
يجده مناسبا، وما لا يصلح لتعليل الحكم به بحيث يبقى ما يمكن
التعليل به وعجز عن إبطاله، وهو كونه مكيلاً - مثلاً - فهذا يُسمى
بالسبر.
مثال آخر: أن يقول المجتهد في ولاية الإجبار على النكاح: إن
هذا الحكم إما أن يعلل بالصغر، أو يعلل بالبكارة.
أما تعليل الإجبار على النكاح بالصغر فإنه باطل؛ لأنها لو كانت
العلَّة الضغر لثبتت ولاية الإجبار على الثيب الصغيرة؛ نظراً لوجود
نفسَ العلَّة فيها، وهذا مخالف لنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"الثيب أحق بنفسها"،
وهو عام للثيب الصغيرة والكبيرة، فلم يبق إلا أن يعلل
بالثاني وهو: البكارة.
***
ثانيا: أسماء هذا الطريق:
بعض العلماء يطلق عليه: " السبر " فقط، وبعضهم يطلق عليه
"التقسيم " فقط، وبعض ثالث يطلق عليه " السبر والتقسيم " معا،
وهذا هو المنتشر، وهو الصحيح؛ لأن هذا الطريق لثبوت العِلَّة
يتكون منهما معا، فلا يغني السبر عن التقسيم، ولا يغني التقسيم
عن السبر.
اعتراض على عبارة: " السبر والتقسيم ":
قال قائل - معترضا -: إنه من خلال معرفتنا لتعريف السبر
والتقسيم، فإنه من الأنسب تقديم التقسيم على السبر في الذكر ما
دام أنه متقدم عليه في الواقع ونفس الأمر، فيقال: " التقسيم
والسبر؛ حيث إن التقسيم متقدم في الوجوب على السبر كما سبق في
التعريف، والأمثلة.
جوابه:
إن التسمية الصحيحة هي: " السبر والتقسيم " كما صححنا ذلك؛
لأمرين:
أولهما: أن الأصل هو السبر؛ لأنه هو الذي يؤثر في معرفة
العلية، وأما التقسيم فقد وجد بسبب: أن السبر يحتاج إلى شيء
يسبر.
ثانيهما: أن محل السبر هو التقديم على التقسيم في العمل،
وذلك لأن المجتهد أولاً يسبر ويختبر المحل هل فيه أوصاف، أو هو
تعبدي؛ ثم إذا أثبت أن فيه أوصافاً فإنه يحصر تلك الأوصاف،
ويقسمها، ثم يسبر ثانياً، فقدم السبر في اللفظ باعتبار السبر الأول.
***
ثالثاً: أقسام التقسيم:
ينقسم التقسيم إلى قسمين:
القسم الأول: التقسيم الحاصر، وهو ما يكون دائراً بين النفي
والإثبات.
وطريق معرفة العِلَّة فيه: أن يقوم المجتهد بحصر الأوصاف التي
تنقدح في الذهن مما يمكن تعليل حكم الأصل فيه، ثم يختبرها
بالأدلة والأمارات التي سلكت في اعتبار الوصف المنايسب للعلية،
ثم يبطل ما لا يصلح منها بواحد من طرق الإبطال والحذف التي
ستأتي - إن شاء اللَّه - فما يتبقى بعد هذا الحذف والإبطال يعتبر هو
الوصف الذي يتعين للتعليل به عند المجتهد.
فمثلاً: يقول المجتهد في ولاية الإجبار على النكاح: إن هذا
الحكم إما أن لا يكون معللاً بعلَّة أصلاً، أو يُعلل بالصغر، أو يعلل
بالبكارة، أو يعلل بغيرهما.
أما الأول - وهو: أن يكون الحكم غير معلل - فهو باطل
بالإجماع؛ حيث أجمع العلماء على تعليل هذا الحكم.
وأما الثاني - وهو أنه معلل بالصغر - فهو باطل أيضا؛ لأن
الحكم لو كان معللاً بالصغر للزم عليه ثبوت ولاية الإجبار على الثيب
الصغيرة، وهذا مخالف للنص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"الثيب أحق بنفسها".
وأما الرابع - وهو أن الحكم معلل بغير الصغر والبكارة - فهو
باطل بالإجماع؛ حيث أجمع العلماء على عدم وجود غير هذين
الأمرين لتعليل الحكم بهما.
فلم يبق إلا الثالث وهو: أن الحكم معلل بالبكارة.
مثال آخر: أنه اختلف العلماء في جارية بين رجلين جاءت بولد
فادعياه، فقال بعض الغلماء: بالرجوع إلى قول القائف، وقال
آخرون: نقبل القرعة فيه، وقال فريق ثالث: بالتوقف، فلا ينسب
الولد إلى واحد منهما، وقال فريق رابع: يثبت النسب منهما جميعاً.
فإذا أفسدنا وأبطلنا الأقوال الثلاثة الأولى بأي طريق من طرق
الإبطال، فإنه يصح القول الرابع، وهكذا في جميع الأمثلة.
بيان أن هذا القسم يفيد العلية بالاتفاق:
التقسيم الحاصر يفيد العلية إما قطعاً، وإما ظنا.
فيفيد العلية قطعا في حالة كون الحصر للأقسام وإبطال الأوصاف
غير الصالحة بطريق قطعي، وهذا قليل في الشرعيات، لكنه يكثر
في العقليات.
ويفيد العلية ظنا إذا كان الحصر وإبطال الأوصاف غير الصالحة،
ورد بطريق ظني، وهو كثير في الشرعيات، ومن أمثلته ما سبق.
شروط هذا القسم:
هذا القسم - وهو الحاصر - لا يصح ولا يُثبت العِلَّة إلا بشروط
هي كما يلي:
الشرط الأول: أن يكون حكم الأصل معللاً بالاتفاق؛ لأن الحكم
إذا لم يجمع على تعليله وحصر المجتهد جميع علل هذا الحكم، فإنه
لا يلزم من إبطال جميع تلك العلل صحة العِلَّة التي عجز عن إبطالها.
الشرط الثاني: أن لا تكون العلَّة مركبة، أما إن كان هناك احتمال
لتركيب العِلَّة: فإن إبطال بعض الأوصاف المحتملة غير كاف في
الاستدلال لعلية المتبقي؛ لأن الساقط وإن صح أن لا يكون عِلَّة
مستقلة، إلا أنه لا يزال الاحتمال قائما في أنه جزء من أجزاء العَلَّة
بحيث إذا انضم إلى غيره يكون عِلَّة مستقلة، فلا بد - إذن - في
مثل هذه الحالة من إبطال كون المجمَوع عِلَّة أو جزءا من العِلَّة.
الشرط الثالث: أن يكون سبره حاصراً بجميع الأوصاف التي يمكن
أن تكون علَّة، واشترطنا ذلك لأنه إذا كان سبره لم يكن حاصراً
بجميع عللَ الحكم لجاز وجود عِلَّة لم يذكرها قد تكون هي العِلَّة
الحقيقية لمشروعية الحكم، فيكون القياس خطأ.
كيف يثبت المجتهد حصر العلل؟
لقد ذكرنا في الشرط الثالث: أنه لا بد أن يكون سبره حاصراً
لجميع علل الحكم، ويثبت حصر العلل بأمرين:
الأمر الأول: أن يسلم الخصم - ويوافق على أن ما ذكره المستدل من
الأوصاف هي الممكنة لأن تكون علَّة، ولا يوجد غيرها كانحصار
عِلَّة تحريم الربا في البر بكونه مكيلاً، أو موزونا، أو مطعوما، أو
مدخراً، أو مقتاتا، وكانحصار عِلَّة وجوب الكفارة في الجماع في
نهار رمضان في: " جماع مكلَّف في نهار رمضان "، أو في " إفساد
الصوم المحترم "، وكانحصار عِلَّة الإجبار في النكاح في " الصغر "
أو " البكارة ".
الأمر الثاني: أن لا يسلم الخصم ولا يوافق على هذا الحصر الذي
ذكره المستدل، فهنا ننظر إلى المستدل:
فإن كان المستدل مجتهداً فعليه السبر للأوصاف بقدر إمكانه،
بحيث يعجز عن إيراد غير ذلك من الأوصاف والعلل.
وإن كان المستدل مناظراً - أي: أمامه خصم يناظره في مسألة ما -
فإنه يكفيه أن يقول: هذا ما استطعت التوصل إليه من أوصاف
وعلل، وقد بحثت فلم أجد غير ذلك، وعليك أيها الخصم أن
يلزمك ما يلزمني إذا كنت تشاركني في الجهل بغير ذلك من الأوصاف.
أما إن كنت مطلعا على وصف آخر غير ما ذكرت، فعليك التنبيه
عليه وإظهاره لأنظر في صحته وفساده، فإن كتمان ذلك الوصف أو
العلَّة محرم، حيث إن من كتم ذلك إما أن يكون كاذبا وهو حرام،
وإما أن يكون كاتما لدليل مست الحاجة إلى إظهاره وهو محرم أيضا،
وكلاهما يتسببان في جعل هذا الخصم لا يعول على قوله، ولا يُعتد
بما صدر عنه.
القسم الثاني - من أقسام التقسيم -: التقسيم المنتشر، وهو: ما
لا يكون دائراً بين النفي والإثبات، أو كان دائراً بينهما، ولكن
الدليل على نفي عِلته فيما عدا الوصف المبين فيه ظني.
وطريق معرفة العِلَّة فيه: أن يقال: الحكم إما أن يكون معللاً، أو
لا يكون كذلك.
أما كونه غير معلل فبعيد؛ لأن الغالب المألوف من الشارع - على
حسب ما دلَّ عليه الاستقراء - أن أحكام اللَّه - كلها - معللة - كما
سبق بيان ذلك -.
وإذا ثبت أن الحكم معلل، فإن العِلَّة إما أن تكون غير ظاهرة لنا،
أو تكون ظاهرة.
أما كون العِلَّة غير ظاهرة لنا: فهو بعيد؛ لأمور هي كما يلي:
الأمر الأول: أن الغالب في علل الأحكام إنما هو الظهور، وإذا
وجد فرد منها غير ظاهر، فإنه يندرج تحت الأعم والأغلب على
الظن، فيكون ظهورها أغلب على الظن.
الأمر الثاني: أن الحكم إذا كان معقول المعنى كان على وفق المعتاد
من تصرفات العقلاء وأهل العرف، والأصل مطابقة الشرع للعقل
والعرف.
الأمر الثالث: أن عدم ظهور العِلَّة يبطل فائدة التعليل؛ لأن
فائدته التوسع في معرفة الأحكام، وانقياد المكلف لها، وتلقيها
بالقبول ما دامت نفسه مطمئنة أن الحكم ملائم لطبيعته.
وإذا ثبت أن عدم ظهور العلة بعيد: فإنه يكون الغالب ظهورها.
وإذا كان الغالب ظهور العلة، فإنه يقال:
العلة إما هذا الوصف أو ذاك الوصف، أو الوصف الثالث إلى
آخر الأوصاف التي تكون محتملة للتعليل في نظر المعلل.
ولما كان المعلل سليم الحس والعقل عدلا ثقة: فإنه يحصل غلبة
الظن بانحصار صفات محل الحكم فيما ذكره من الأوصاف، ولم
يجد سواها.
ثم بعد أن يُثبت حصر الأوصاف بالطريقة السابقة يسقط بعد ذلك
بعضها عن درجة الاعتبار بدليل صالح يغلب على الظن منه عدم
صلاحية ما أسقط للتعليل به، فيلزم من ذلك انحصار التعليل فيما
استبقاه؛ بناء على قولنا: يمتنع خلو محل الحكم عن عِلَّة ظاهرة.
بيان أن هذا القسم يفيد العلية:
هذا القسم يفيد العلية؛ وهو حُجَّة للمستدل وهو المجتهد الناظر -
وهو: من بحث لنفسه، فما غلب على ظنه وجب عليه العمل به،
ولا يكون حُجَّة على الغير، وهو اختيار الآمدي، وبعض العلماء.
وهو الحق؛ لأن هذا التقسيم - وهو: المنتشر - يثير غلبة الظن
عند المجتهد، فيجب أن يتبع ما غلب على ظنه؛ لأن المجتهد مهما
غلب على ظنه شيء: فإنه يجب أن ياخذ به.
وبعض العلماء ذهبوا إلى أنه حُجَّة مطلقا للناظر، وهو المجتهد
المستدل، وللمناظر، وهو الخصم.
وبعض العلماء ذهبوا إلى أنه حُجَّة في الأحكام العملية دون العلمية.
وبعض العلماء ذهبوا إلى أنه ليس بحجة مطلقا.
وقد ذكرت هذه المذاهب مع أدلتها في كتابي " إتحاف ذوي البصائر
بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه.
رابعا: بيان كيفية سبر الأوصاف غير الصالحة للعلية وحذفها
وإبطالها:
قلنا في تعربف السبر والتقسيم: إن المجتهد والمستدل يقوم باختيار
علَّة واحدة، ويعلل الحكم الشرعي بها، ويحذف العلل والأوصاف
غير الصالحة للعلية، ويسلك في حذف تلك الأوصاف وإبطالها
المسالك الآتية:
المسلك الأول: الإلغاء، وهو: بيان أن الحكم في الصورة
الفلانية ثابت بالوصف الذي استبقاه - فقط - دون غيره، ويتبين
بهذا أن المحذوف من الأوصاف لا أثر له في الحكم؛ لأنه لو كان
المحذوف من الأوصاف له أثر في الحكم لما جاز إثبات الحكم بدونه.
وكيفية ذلك: أن يقوم المجتهد ببيان أن الوصف الذي أبقاه للتعليل
به قد ثبت الحكم به في صورة من الصور من غير أن يقترن
بالأوصاف التي تم إلغاؤها وحذفها، وهذا يوضح أن الوصف الذي
أبقاه مستقل بالتعليل، وعند ظهور ذلك يمتنع إضافة الحكم في محل
التعليل إلى الوصف الذي تم حذفه، لأن في هذا إثباتا للحكم
بوصف لم يثبت استقلاله، وإلغاء للوصف الذي ثبت استقلاله وهو
ممتنع.
المسلك الثاني: أن يكون الوصف المحذوف قد ألف من الشارع
إلغاءه في جنس ذلك الحكم المعلل، وحيحئذ يكون إلغاؤه واجباً وإن
كان مناسبا.
فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه الباقي من نصيب شريكه "،
فهنا حذف العلماء وصف الذكورة وإن أمكن
تقرير مناسبة بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنا لما عهدنا من
الشارع التسوية بين الذكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذكورة
في السراية، بخلاف ما عداه من الأحكام، حيث اعتبر الشارع
وصف الذكورة في الشهادة والقضاء، والإمامة، وولاية عقد النكاح.
المسلك الثالث: الحذف وهو: أن يبين المجتهد - وهو: المستدل -
أن ما يحذفه من الأوصاف من جنس الأوصاف التي عهدنا وألفنا
وعرفنا من الشارع عدم الالتفات إليها في إثبات الأحكام كالأوصاف
الطردية كالطول، والقصر، والسواد، والبياض، ونحو ذلك.
المسلك الرابع: عدم وجدان مناسبة بين الوصف والحكم.
وبيانه: أن لا يجد المجتهد - وهو العدل الثقة المؤهل للنظر
والبحث - مناسبة بين الوصف والحكم أو ما يوهم المناسبة، وحينئذ
لو قال: لم أجد فيه ذلك لصدق في كلامه، فيكون الوصف غير
مناسب، فيلزم حذفه.
الطريق الرابع من طرق ثبوت العِلَّة بالاجتهافى
ثبوت العِلَّة عن طريق تنقيح المناط
ويشتمل على ما يلي:
أولاً: تعريفه.
ثانيا: بيان أن تنقيح المناط يُعتبر من طرق ثبوت العِلَّة.
ثالثا: الفرق بين تنقيح المناط والسبر والتقسيم.
رابعاً: الفرق بين تنقيح المناط وتخريج المناط، وتحقيقه.
أولاً: تعريف تنقيح المناط:
1 -
التنقيح لغة: التشذيب، والتهذيب، ومنه: " تنقيح الجذع
من النخلة " أي: تشذيبه حتى يُخلص من السعف والأغصان التي لا
فائدة منها، ولا تؤثر على ثمرة النخلة، ويقال: " نقح الشاعر
قصيدته " إذا هذبها وخلصها من الأبيات التي لا دخل لها في
الموضوع.
والمناط مأخوذ من ناط الشيء ينوطه نوطا، أي: علقه، فالمناط
ما يتعلق به الشيء، يقال: نطت الحبل بالوتد أنوطه نوطاً: إذا
علقته به، ومنه: ذات أنواط وهي: الشجرة التي يعلق عليها
المشركون أسلحتهم، والمناط من أسماء العِلَّة، وقد سبق بيان ذلك.
2 -
تنقيح المناط اصطلاحا هو: أن ينص الشارع على الحكم،
ويضيفه إلى وصف فيقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة،
فيقوم المجتهد بحذف ما لا يصلح عِلَّة ليتسع الحكم.
أو تقول هو: أن ينص الشارع على الحكم عقيب أوصاف يعرف
فيها ما يصلح للتعليل، وما لايصلح للتعليل، فينقح المجتهد
الصالح ويلغي ما سواه.
فلا بد في تنقيح المناط من توفر شرطين:
أولهما: أن يكون النص دالًّا عليه وصف خاص بالأصل، ويكون
دور المجتهد حذف خصوص الأصل، وحينئذ يشترك الأصل والفرع
في الحكم معاً.
ثانيهما: أن يدل النص على علية أوصاف أخرى، ويقوم المجتهد
بحذف ما لا دخل له في العلية ليصبح الباقي عِلَّة للحكم.
مثاله: حديث الأعرابي، وهو: أنه قد أتى أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول اللَّه، قال:" ما لك؟ "
قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة ".
فهنا: قد أشار النص إلى أوصاف وهي: " كون المواقع أعرابيا "
و" كون الموطوءة زوجته "، و " كون الوقاع حصل في رمضان
معين "، و " كون الوقاع حصل في رمضان من مكلف "، و " كونه
أفسد صوما محترماً ".
فحذف بعض العلماء جميع هذه الصفات إلا وصفا واحداً هو:
"كونه واقع في نهار رمضان "، فخصص الحكم بهذا الوصف،
فأوجب الكفارة - على من واقع في نهار رمضان فقط، دون غيره،
فتكون هذه العِلَّة قاصرة.
وبعض العلماء الآخرين حذفوا جميع تلك الأوصاف إلا وصفا
واحداً هو؛ " كونه أفسد صوماً محترما "، لذلك أوجبوا الكفارة
على كل من أفسد الصوم المحترم، سواء أفسده بالجماع، أو بالأكل
والشرب عمداً بلا عذر، فتكون العِلَّة هنا متعدية.
ولا يجوز لأي عالم مهما كان أن يحذف أي وصف إلا بدليل
شرعي مقبول، وقد بيَّنت الأدلة على حذف تلك الأوصاف بإسهاب
في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " فارجع إليه.
***
ثانيا: بيان أن تنقيح المناط يعتبر طريقا من طرق ثبوت العِلَّة:
من دقق في تعريف تنقيح المناط، فإنه يجزم بأنه طريق من طرق
إثبات العِلَّة، حيث إن حاصله: هو حصر العلل التي وردت في
النص الخاص بذلك الحكم، ثم اختبار وسبر تلك العلل من قبل
المجتهد فيحذف ويبطل ما لا يصلح أن يعلل به الحكم، فإذا أبطلها
كلها إلا واحدة جعلها هي العِلَّة مثل ما قلناه في حديث الأعرابي
السابق الذكر، وهذا قريب من السبر والتقسيم.
وبعض العلماء سماه بالاستدلال كالحنفية، وهم قد وافقوا
الجمهور في طريقة حذف الأوصاف إلا وصفا واحداً، فيكون
الخلاف بيننا وبين الحنفية لفظياً.
***
ثالثا: الفرق بين تنقيح المناط والسبر والتقسيم:
قد يقول قائل: إن حقيقة تنقيح المناط قريبة من حقيقة السبر
والتقسيم الذي هو الطريق الثالث من طرق ثبوت العلية، فهل هما
واحد، أم بينهما فرق؟
أقول: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يوجد فرق بينهما.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لذلك جعلناه طريقا
لإثبات العِلَّة غير طريق السبر والتقسيم.
واختلف هؤلاء في وجه الفرق على أقوال:
القول الأول: أن تنقيح المناط خاص في الأوصاف التي دلَّ عليها
ظاهر النص، وهي محصورة بواسطة هذا الظاهر، أما السبر
والتقسيم فإنه خاص في الأوصاف المستنبطة الصالحة للعلية، ثم
إلغاؤها إلا ما ادعي أنه عِلَّة، وهذا هو الحق عندي.
القول الثاني: إن تنقيح المناط اجتهاد في الحذف والتعيين معا، أما
السبر والتقسيم فهو اجتهاد في الحذف، فيتعين الباقي.
جوابه:
لا نسلم ذلك، بل إن السبر والتقسيم لا بد فيه من الاجتهاد في
الحذف، والتعيين؛ حيث لا يمكننا أن نعين هذه العِلَّة ونقول: إنها
هي العِلَّة الحقيقية إلا بعد عدة اجتهادات فيها.
القول الثالث - في وجه الفرق بينهما -: إن السبر والتقسيم لابد
فيه من تعيين الجامع والاستدلال على عليته، أما تنقيح المناط فإنه لا
يجب فيه تعيين العِلَّة.
جوابه:
لا نسلم ذلك، بل يجب تعيين العِلَّة في تنقيح المناط والاستدلال
عليها، وإلا لما جاز العمل بها؛ لأنه لا يمكن ثبوت شيء بدون دليل
فالمجتهد لا يمكنه أن يحذف أي عِلَّة، أو يعينها إلا بدليل.
هذه أقوال جمهور العلماء القائلين بوجود الفرق بين تنقيح المناط،
والسبر والتقسيم.
المذهب الثاني: أنه لا فرق بين تنقيح المناط، وبين السبر والتقسيم؛
لأن تنقيح المناط في الحقيقة:. استخراج للعِلَّة بالسبر.
وهو مذهب إعام الحرمين.
جوابه:
لا نسلم ذلك، بل يوجد فرق بينهما كما سبق بيانه.
ثم لا نُسَلِّمُ أن تنقيح المناط هو: استخراج للعِلة بالسبر، بل هو
تعيين وصف من الأوصاف التي ذكرت في النص، وبيان أنه هو العِلَّة
دون غيره من الأوصاف، فهو تعيين لا تخريج.
أما السبر والتقسيم فهو خاص في العِلَّة المستنبطة المستخرجة فقط.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي؛ حيث اتفق أصحاب المذهبين على العمل بتنقيح
المناط على أنه طريق من طرق إثبات العِلَّة بالاجتهاد إلا أن أصحاب
المذهب الثاني أدخلوا تنقيح المناط ضمنَ السبر والتقسيم؛ حيث إن
السبر والتقسيم عندهم عام وشامل للمنصوصة والمستنبطة لذلك
جعلوهما طريقاً واحداً.
أما أصحاب المذهب الأول، فإنهم فرَّقوا بين المنصوصة والمستنبطة،
وجعلوا تنقيح المناط خاصا بالعلَّة المنصوص عليها ظاهراً وجعلوا
السبر والتقسيم خاصاً بالعلَّة المستنبطة، وجعلوا ذلك طريقين لإثبات
العلَّة:
طريق السبر والتقسيم وهو خاص بالمستنبطة.
طريق تنقيح المناط وهو خاص بالمنصوصة.
رابعاً: الفرق بين تنقيح المناط وتخريجه، وتحقيقه:
الاجتهاد في العِلَّة ينحصر في ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تحقيق المناط.
النوع الثاني: تنقيح المناط.
النوع الثالث: تخريج المناط.
وهذه الأنواع تختلف باختلاف ظهور العِلَّة وعدم ذلك، وإليك
بيان كل نوع:
أما النوع الأول - وهو: تحقيق المناط - فهو: أن المجتهد قد
تحقق من وجود العِلَّة والمناط في الأصل، ولكنه يجتهد من تحقيق
وجودها في الفرع، وآحاد الصور.
أي: أنه اتفق على أن هذا الوصف هو عِلَّة حكم الأصل بنص،
أو إجماع، فيقوم المجتهد بالتحقق والتأكد من وجود هذا الوصف
في الفرع - الذي يراد إلحاقه بالأصل -.
إذن وظيفة المجتهد هنا سهلة؛ حيث إن عِلَّة الأصل موجودة،
ولكنه يتأكد من وجودها في الفرع بنوع اجتهاد.
مثاله: الاجتهاد في القِبْلة؛ حيث إن استقبال القِبْلة معلوم بالنص،
أما أن تكون جهة القبْلة هذه أو تلك عند الاختلاف فهو معلوم بنوع
اجتهاد، حيث إنه لا يجتهد المجتهد - هنا - في وجوب القبْلة،
ولكنه يجتهد في هذه هل هي قِبْلة أم لا؟
وكذلك: علل الشارع وجوب نفقة القريب بالكفاية، وهو ثابت
بالنص، وهذا لا يجتهد فيه المجتهد، بل يجتهد في بعض الصور
الفرعية، فيقول: الكفاية واجبة في النفقة، وهذا معلوم بالنص،
والرطل من الأكل يكفي هذا الشخص بعينه، إذن: يكون هو
الواجب في نفقة القريب، وهذا معلوم بالاجتهاد.
وكذلك: فإن الشارع قد علل قبول الشهادة بالعدالة، وهو
معلوم بالإجماع، والنص، أما تحقق العدالة في زيد أو عمرو، فإنه
معلوم بالاجتهاد.
وهذا لم يختلف العلماء فيه؛ لأن العِلة معلومة بنص أو إجماع.
أما النوع الثاني - وهو: تنقيح المناط فهو: أن ينص الشارع على
العلة نصاً غير صريح، فيقوم المجتهد بالاجتهاد في تعيين عِلَّة حكم
الأَصل وإبرازها، وحذف ما علق بها من أوصاف بأنواع من
الاجتهادات، ثم يجتهد في تحقق هذه العِلَّة في الفرع - كما سبق
بيانه.
ووظيفة المجتهد هنا أصعب من وظيفته في النوع الأول؛ حيث إنه
يبذل جهداً في إبراز عِلَّة الأصل وتعيينها في هذا النوع، ثم يجتهد
مرة أخرى في تحققها في الفرع.
أما النوع الأول: فلا يجتهد المجتهد في عِلَّة الأصل؛ لأنها منصوص
عليها أو مجمعا عليها، ولكنه يجتهد فقطَ في تحققها في الفرع.
أما النوع الثالث: وهو تخريج المناط فهو: أن ينص الشارع على
حكم في محل، ولا يتعرض لمناطه وعلته لا صراحة ولا إيماء،
فيقوم المجتهد باستنباط واستخراج عِلَّة حكم الأصل أولاً، ثم يتحقق
من وجود هذه العِلَّة في الفرع.
ووظيفة المجتهد في هذا النوع أصعب من وظيفته في النوعين
السابقين، بيان ذلك:
أن العلَّة في النوع الأول منصوص عليها أو مجمع عليها، فهي
واضحة هنا جلية، فيتحقق من وجودها في الفرع فقط لذلك سمي
بتحقيق المناط، حيث يتحقق من وجود المناط والعِلَّة في الفرع فقط.
أما العلَّة في النوع الثاني فهي منصوص عليها نصاً غير صريح،
حيث أضيفَ الحكم إليها وإلى عدد من الأوصاف الأخرى، فيقوم
المجتهد بإبرازها عن غيرها وتعيينها وتهذيبها وحذف ما سواها، ثم
يقوم بالتحقق من وجودها في الفرع لذلك سمي بـ " تنقيح المناط ".
أما العِلَّة في النوع الثالث، فلم ينص عليها لا نصاً صريحاً ولا
غير صريح، فيقوم المجتهد باستنباط عِلَّة حكم الأصل بأي طريق من
طرق إثبات العلَّة كالمناسبة، أو الدورَان، أو السبر والتقسيم، أو
الوصف الشبهي، ثم يقوم بالتأكد والتحقق من وجودها في الفرع،
لذلك سمي هذا بتخريج المناط؛ لأن المجتهد أخرج العِلَّة من خفاء
إلى وضوح.
مثاله من الكتاب: قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر
…
) فهنا
قد نص الشارع على تحريم الخمر، ولم يتعرض هذا النص للعلة لا
صراحة ولا إيماء، فقام المجتهد باستنباط العِلَّة بطريق المناسبة وقَال:
إن عِلَّة تحريم الخمر: الإسكار بعد تدبر واخَتبار واستقصاء واستقراء
وتتبع، ثم تأكد من وجودها في الفرع وهو النبيذ، قألحق النبيذ
بالخمر بواسطة هذه العِلَّة.
ومثاله من السُّنَّة: قوله صلى الله عليه وسلم -:
" لا تبيعوا البر بالبر إلا مثل بمثل
…
"
فهنا لم يتضمن هذا النص لا صراحة ولا إيماء ما يدل على
علَّة تحريم الربا، لكن المجتهد استنبط العلَّة بالنظر والاجتهاد
واستعمال طرق استنباط العلل، فقال: إن الربا في البر قد حرم،
لكونه مكيلاً، أو مطعوماً، وهذه العِلَّة موجودة في الأرز، فيلحق
الأرز بالبر في تحريم الربا فيهما بجامع الكيل أو الوزن.
ونظراً لقلة اجتهاد المجتهد في النوعين الأول والثاني وهما:
تخريج المناط وتنقيحه، فإنه قد اتفق على الاحتجاج بهما، وأقرَّ
بهما أكثر منكري القياس.
أما النوع الثالث - وهو: تخريج المناط فقد اختلف العلماء فيه،
نظراً إلى كثرة وظائف المجتهد، واعتماده على كثير من الظنون فيه،
وهذا هو الاجتهاد القياسي الذي وقع الخلاف فيه.
الطريق الخامس من طرق ثبوت العلَّة بالاجتهاد ثبوت العِلَّة بالدَوران
ويشتمل على ما يلي:
أولاً: في تعريفه.
ثانيا: هل الدوران يفيد العلية؟
أولأ: في تعريف الدوران:
1 -
الدوران لغة: مأخوذ من دار الشيء يدور دوراً، ودورانا،
أي: طاف، ومنه قولهم:" يدور حول البيت " إذا طاف به،
وليس عنده طرف يقف عنده.
2 -
الدوران اصطلاحاً هو: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف
وينعدم عند عدمه.
مثاله: دوران حكم العصير مع وجود الإسكار وعدم وجوده،
فإن عصير العنب قبل وجود الإسكار كان حلالاً، فلما حدث
الإسكار: حرم، فلما زال الإسكار وصار خلا صار حلالاً.
فهنا تلاحظ: أن الحكم - وهو التحريم - قد دار مع الإسكار
وجوداً وعدماً، فلما وجد وصف كونه مسكراً وجد الحكم وهو
التحريم، ولما انتفى عنه وصف الإسكار انتفى عنه الحكم وهو:
التحريم.
فقد دلنا هذا الدوران على أن العِلَّة في تحريم العصير إنما هي
السكر.
ويُسمَّى هذا ب " الدوران الوجودي والعدمي "، أو " الدوران
المطلق ".
أما إذا وجد الحكم عند وجود الوصف، ولا ينعدم الحكم عند
عدم الوصف، فهذا يسمى:" الدوران الوجودي ".
أما إذا انعدم الحكم عند عدم الوصف، ولا يوجد الحكم عند
وجود الوصف، فهذا يسمى:" الدوران العدمي ".
ثانياً: هل الدوران يفيد العلية؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن الدوران يفيد العلية ظنا بشرط: عدم المزاحم،
وعدم المانع.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:
الدليل الأول: العادة والعقل، بيانه: أنا نجد العقلاء من الناس
يفزعون في أمور الأدوية والأغذية إلى التجربة، فهم - على اختلاف
عقائدهم ومللهم ومعادنهم ولغاتهم - يرون أن التجارل أثبتت أن
الأثر الفلاني مما يعد صحة ونشاطا قد حصل عند استعمال هذا
الدواء، أو ذاك الغذاء الفلاني وتكراره، ولم يحصل ذلك حالة
انعدامه، فيستمسكون به عندما يريدون الحصول على ذلك الأثر،
ولولا غلبة ظنهم أن استعماله سبب لذلك الأثر لما فزعوا إليه عند
إرادتهم له، ولم يفزعوا لغيره، فإذا كان الدوران دليل على صحة
العِلَّة العقلية هنا، فإنه يكون دليلاً على صحة العِلَّة الشرعية ولا فرق.
الدليل الثاني: أدط الدوران يفيد العلية فى الأمور العادية والمألوفة،
فإذا كان الأمر كذلك في الأمور العادية فمانه يفيد ظن العلية في
غيرها؛ لعدم الفارق.
فمثلاً: لو أن زيداً قد دخل فرأينا عمراً قد قام، فلما خرج زيد
جلس عمرو، وتكرر ذلك فإنه يغلب على ظننا: أن العلَّة في قيام
عمرو هي: دخول زيد.
كذلك لو أن جماعة من الناس قد رأوا زيداً يغضب عند مناداته
بلقب مخصوص، ولا يغضب إذا دعي بغيره، وقد تكرر منه ذلك:
فإنه يحصل لهم الظن أنه إنما يغضب لكونه يُدعى بذلك اللقب
المخصوص.
ولهذا فإنهم لو سئلوا عن سبب غضبه، فمما لا شك فيه أنهم
سيعللون ذلك بتلك المناداة، بل إن الصبيان لو علموا أمره فإنهم متى
ما أرادوا إغضابه، فإنهم لا يترددون في دعائه بذلك اللقب الذي
يكون مدعاة لإثارة ذلك الغضب فيه، ولو سئلوا عن السبب لأجابوا
بنفس الجواب أيضاً.
ولولا أن الدوران مفيد لظن العلية لما حصل لهم ذلك الظن، وإذا
ثبت أن الدوران يفيد ظن العلية في مثل هذه الصورة، فإنه يثبت
ذلك الظن في غيرهما؛ لأن الأصل أن يترتب الحكم على المقتضى،
والمقتضى لذلك الظن إنما هو الدوران، وهذا يعني: أن يثبت الظن
حيث ثبت الدوران.
المذهب الثاني: أن الدوران يفيد العلية قطعا.
وهذا مذهب قد حكي عن بعض المعتزلة، وقيل: إنهم إنما قالوا:
إن الدوران يفيد القطع بالعلية عندما وجدوا أن الوصف مناسب كما
هو الشأن في الإسكار الذي دارت معه حرمة عصير العنب.
جوابه:
لا يسلم أن ذلك يفيد العلية قطعاً؛ لأن مناسبة الوصف لا تمنع
الاحتمال، ولا يستلزم العلية، نظراً لجواز أن يكون وصف مناسب
ولا يكون هو العِلَّة بأن لا يعتبره الشارع في تعلق الحكم، ومع
الاحتمال كيف يثبَت الفطع؟!
المذهب الثالث: أن الدوران لا يفيد العلية بمجرده لا قطعا ولا
ظناً.
وهو مذهب بعض الشافعية كابن السمعاني، والآمدي، وبعض
المالكية كابن الحاجب، وهو اختيار أكثر الحنفية.
دليل هذا المذهب:
أن الدوران قد وجد فيما لا دلالة له على العلية كدوران أحد
المتلازمين المتعاكسين، ومن ذلك المتضايفان كالأبوة والبنوة، فإنه
كلما تحقق أحدهما تحقق الآخر، وكلما انتفى أحدهما انتفى الآخر،
وليس أحدهما علَّة للآخر، فإذا كان الدوران قد يوجد من غير أن
يكون عِلَّة دلَّ ذلك على عدم دلالته على العلية.
جوابه:
نحن لم نقل: إن الدوران يفيد ظن العلية مطلقا.
بل اشترطنا لذلك شرطين هما: " عدم المزاحم "، و " عدم
المانع ".
أي: أننا نقول: إن الدوران الذي يفيد ظن العلية هو الذي لم
يقم دليل على عدم علية المدار فيه، أي: الخالي عن المزاحم.
وما ذكرتم من الصور التي تخلفت عنه العلية فيها ليس من
الدوران الذي هو حُجَّة عندنا، لأنه ليس خاليا عن المزاحم ما دام
الدليل قائما على عدم العلية فيه بين المدار والمدار، فلا يقدح هذا في
الدوران الذي هو دليل على العلية عندنا.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي؛ حيث إن أصحاب المذهبين الأول والثاني
قالوا بإفادة الدوران للعلية بشرط: وجود الدوران مع عدم المزاحم
وانتفاء الموانع، وصلاحية الوصف للعلية، وظهور المناسبة.
وأصحاب المذهب الثالث قالوا بعدم إفادة الدوران للعلية إذا لم
تظهر معه مناسبة الوصف للعلية.
وعلى هذا فقد اتفق أصحاب المذاهب على أن الدوران بمجرده
ليس مسلكاً مستقلاً لإثبات العِلَّة، بل لا بد أن يكون معه من المناسبة
وغيرها مما يدل على العلية، فكان الخلاف لفظيا.
الطريق السادس من طرق ثبوت العلَّة بالاجتهاد ثبوت العِلَّة بالوصف الشبَهي - وهو الشبه -
ويشتمل على ما يلي:
أولاً: تعريفه.
ثانيا: هل الوصف الشبهي مثبت للعلية - وحجة؟
ثالثاً: غلبة الأشباه، أو قياس الأشباه.
أولاً: تعريف الوصف الشبهي:
1 -
الشبه لغة: هو المثل، والجمع: أشباه، وأشبه الشيء
الشيء إذا ماثله.
2 -
واصطلاحا هو: " الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة بعد
البحث التام عنها ممن هو أهله، ولكن ألف من الشارع الالتفات
إليه في بعض الأحكام ".
بيان هذا التعريف:
لبيان هذا التعريف لا بد أن نقسم الوصف إلى قسمين:
القسم الأول: الوصف الذي ظهرت فيه المناسبة بعد البحث التام.
القسم الثاني: الوصف الذي لم تظهر فيه الناسبة بعد البحث التام.
أما القسم الأول - وهو: الوصف الذي ظهرت فيه المناسبة بعد
البحث التام - فهو الوصف المناسب، وقد سبق الكلام عنه في
الطريق الثاني من طرق ثبوت العِلَّة بالاجتهاد، وهو: " المناسبة
والإخالة ".
أما القسم الثاني - وهو: الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة بعد
البحث التام - فهو نوعان:
النوع الأول: الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة، ولم يؤلف
من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام، ويُسمى بالوصف
الطر دي، وذلك كا لطول، والقصر، والسواد، والبياض، ويطلق
عليه بـ: " قياس الطرد " كأن يقول قائل في طهارة الكلب: حيوان
مألوف له شعر كالصوف، فكان طاهراً كالخروف.
أو يقول قائل: حرمت الخمرة لكون لونها أحمراً، أو لكونها
معبأة في زجاجات، أو يقول قائل: إن الأعرابي قد وجبت عليه
الكفارة؛ لكونه طويلاً أو أسمراً، أو نحو ذلك.
أو يقول قائل: الخل مائع لا يصح أن تزال به النجاسة، وعلل
ذلك بقوله: إنه لا تبنى عليه القناطر، ولا يصطاد فيه السمك، ولا
تجري فيه السفينة، فكان في ذلك كالدهن، فإنه لا تصح إزالة
النجاسة به بالاتفاق، بخلاف الماء فنظراً لكونه تبنى عليه القناطر،
ويصطاد فيه السمك، وتجري فيه السفينة فإنه يصح أن تزال به
النجاسة.
فإن تلك الأوصاف التي ذكرت في تلك الأمثلة السابقة أوصاف
طردية لا مناسبة بينها وبين الحكم الشرعي؛ حيث إن الشارع لم
يعتبرها، ولم يلتفت إليها، فهذا باطل عند جمهور العلماء.
النوع الثاني: الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام
لكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام.
وهذا ما يسمى بـ " الوصف الشبهي ".
وسمي بالوصف الشبهي - أو الشبه -؛ لأنه أشبه الوصف
الطردي من جهة، وأشبه الوصف المناسب من جهة أخرى.
فهو قد أشبه الوصف الطردي من جهة أن المجتهد لم يقف على
مناسبة بين هذا الوصف وبين الحكم رغم البحث والتقصي، فهنا ظن
المجتهد أنه غير معتبر كالوصف الطردي.
وهو قد أشبه الوصف المناسب من جهة أن المجتهد قد وقف على
اعتبار الشرع له في بعض الأحكام، فإن هذا يوجب على المجتهد أن
يتوقف عن الجزم بانتفاء مناسبته، فهنا يظن المجتهد أنه معتبر.
فنجد الوصف الشبهي تردد بين أن يكون معتبراً من وجه، وغير
معتبر من وجه آخر: فمن حيث إن المجتهد لم يقف على مناسبته بعد
البحث التام: ربما يجزم بعدم مناسبته.
ومن حيث إنه عهد من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام:
فإن هذا ربما يوجب عليه التوقف عن هذا الجزم بعدم المناسبة.
فهو في مرتبة تعتبر دون مرتبة المناسب، وفوق مرتبة الطردي،
وفيه شبه منهما.
مثاله.: قول بعضهم في الاستدلال على مسألة إزالة النجاسة
المتقدمة: طهارة تراد لأجل الصلاة، فلا تجوز بغير الماء كطهارة
الحدث، فالجامع بينهما: كون كل منهما طهارة لأجل الصلاة.
أما مناسبتها لتعيين الماء فيها فإنها غير ظاهرة بعد البحث، لكن
عهد من الشارع الالتفات إليها في بعض الأحكام مثل: مس
المصحف، والطواف، وذلك يوهم اشتمالها على المناسبة.
***
ثانياً: هل الوصف الشبهي - أو الشبه - مثبت للعلية، وحجة؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الوصف الشبهي يعتبر طريقاً من طرق ثبوت
العلة، فهو حُجَّة.
وهو مذهب الإمام الشافعي في ظاهر مذهبه، والإمام أحمد في
رواية صحيحة عنه، وهو اختيار جمهور الشافعية، والحنابلة، وأكثر
الفقهاء.
وهو الحق؛ قياسا على الوصف المناسب، بيان ذلك:
أن الوصف المناسب أثبت العلة؛ لأنه يفيد غلبة الظن، فكذلك
الوصف الشبهي يفيد الظن الغالب، فكان مفيداً للعلة مثل الوصف
المناسب، فيكون حجة بجامع: إفادة كل واحد منهما للظن.
وإنما قلنا: إن الوصف الشبهي يفيد ظن العِلَّة؛ لأن الحكم متى ما
ثبت في محل، ولم يعلم وجود وصف مناسب فيه، بل علم وجود
وصف شبهي مع أوصاف طردية أخرى، فإن هذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون الحكم غير معلل بمصلحة أصلاً، وهذا
بعيد؛ لأن الأحكام معللة بالمصالح؛ حيث إن أحكام الشرع لا
تخلو من حكمة، فاحتمال كون الحكم لمصلحة وعلة ظاهرة أرجح
من احتمال كونه تعبدياً.
الأمر الثاني: إذا ثبت أن الحكم معلل بمصلحة، فإن تلك
المصلحة لما لم تكن وصفا مناسبا مستقلاً، فإنها لا بد أن تكون
موجودة ضمن الوصف الشبهي، أو ضمن الوصف الطردي - أي:
لمصلحة ضمن أوصاف أخرى غير معتبرة عند الشارع -.
أما وجود المصلحة ضمن الوصف الطردي فهو باطل؛ لأن
الوصف الشبهي دائر بين أن يكون مستلزما للمناسبة، وبين أن يكون
موهما للمناسبة بخلاف الوصف الطردي، فإنه لم يكن دائراً بينهما،
بل هو خال من المناسبة قطعا، ولا يوهم وجودها فيه.
فاتضح بذلك أن احتمال اشتمال الوصف الشبهي على المصلحة
أغلب وأظهر من اشتمال الأوصاف الباقية عليها.
فبان - من ذلك - أن ظن كون الوصف الشبهي متضمنا لتلك
المصلحة أكثر، فلا يجوز إسناد الحكم إلى الوصف الطردي؛ لأن
العمل المرجوح مع وجود الظن الراجح غير جائز، فثبت أن الحكم
يثبت بالوصف الشبهي.
إذن الوصف الشبهي يفيد ظن العلية؛ فيجب العمل به؛ لقيام
الأدلة على أن العمل بالظن واجب.
المذهب الثاني: أن الوصف الشبهي لا يعتبر طريقا لثبوت العِلَّة
فليس بحُجَّة.
وهو مذهب المحققين من الحنفية، وبعض المالكية كالقاضي أبي
بكر، وبعض الشافعية كأبي إسحاق المروزي، وأبي إسحاق
الشيرازي، وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى، وهو رواية عن
الإمام أحمد.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الوصف الشبهي إما أن يكون مناسبا، وإما أن
يكون غير مناسب.
فإن كان مناسباً فهو مقبول باتفاق القائسين؛ لأنه قياس عِلَّة.
وإن كان غير مناسب فهو مردود باتفاق القائسين؛ لأنه وصف
طردي، والوصف الطردي مردود.
جوابه:
لا نسلم هذا الحصر، بل إن الوصف قسمان:"وصف مناسب "،
و" وصف غير مناسب ".
وغير المناسب نوعان: " وصف شبهي "، و " وصف طردي "،
والمردود هو الوصف الطردي فقط؛ لعدم التفات الشارع إليه في
جميع الأحكام، أما الوصف الشبهي فهو مقبول، نظراً لالتفات
الشارع إليه في بعض الأحكام.
الدليل الثاني: أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم هو
الدليل المعتمد في إثبات القياس، ولم يثبت أن الصحابة قد علَّلوا
بالوصف الشبهي في قياساتهم، وما دام أن الصحابة لم يعملوا به،
فلا يثبت.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أنكم لم تثبتوا بالأدلة على أن الصحابة لم يعملوا
بالوصف الشبهي، وما لا دليل عليه لا يعتد به.
الجواب الثاني: على فرض أن الصحابة لم يعملوا بذلك، فإنه لا
يلزم من عدم عمل الصحابة بهذا النوع من الأوصاف والأقيسة عدم
جواز العمل به، لجواز أن يدل عليه دليل آخر غير عملهم به.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي فيما يظهر لي راجع إلى التسمية فقط؛ حيث
إن أصحاب المذهب الثاني يعملون بالوصف الذي يلتفت إليه الشارع
في بعض الأحكام ويعتبره، ولكنهم يدخلونه ضمن الوصف المناسب.
أما إذا لم يلتفت إليه الشارع مطلقا فهو الطردي الذي لا يعتبر.
وهذا موافق لما قاله أصحاب المذهب الأول، لكنهم جعلوا درجة
متوسطة بين الوصف المناسب، والوصف الطردي سموها بالوصف
الشبهي؛ حيث إنه يشبه الوصف المناسب من جهة، ويشبه الوصف
الطردي من جهة أخرى، وقد سبق بيان ذلك.
ثالثاً: كلبة الأشباه، أو " قياس الأشباه ":
وهو: أن يتردد فرع بين أصلين، ويكون شبهه بأحدهما أكثر
فيلحق باكثرهما شبها به.
ومعناه: أن يكون الفرع - المطلوب بيان حكمه - قد ترد بين
أصلين؛ لأنه يشبه كل واحد منهما ببعض الجوانب.
فالمناط الموجود في الفرع قد وجد في كل واحد من الأصلين، إلا
أنه يشبه أحدهما في أوصاف هي أكثر من الأوصاف التي بها مشابهته
للأصل الآخر، فيلحق الفرع بالأصل الذي شبهه به أكثر، فلو أن
الفرع قد أشبه المبيح في ثلاثة أوصاف، وأشبه الحاضر في أربعة
أوصاف، فإنا نلحق الفرع بالحاضر؛ لأنه أكثر شبها به.
مثاله: العبد إذا قتل خطأ وزادت قيمته على دية الحر، فإنه
يلاحظ فيه أمران:
أولهما: كونه نفسا، وصورته صورة آدمي، فهو في ذلك يشبه
الحر، وهذا يقتضي أن يدفع القاتل الدية، ولا يزاد على الدية
المفروضة في الحر.
ثانيهما: كونه مالأ متقوما، فهو في ذلك يشبه الحيوان كالفرس
وغيره، وما إلى ذلك من الأموال المتقومة، وهذا يقتضي أنه يمكن أن
يزاد في تعويضه على دية الحر.
فالملاحظ في العبد المقتول خطأ أنه اجتمع مناطان متعارضان،
وبالموازنة: نجد أن مشابهته للحر في كونه آدميا مكلفا يثاب على الخير
ويعاقب على الشر، ومشابهته للحيوان لأتعدو كونه مملوكا متقؤَما
في الأسواق، فهو بالحر أكثر شبها، فكان إلحاقه به أوْلى من إلحاقه
بالحيوان، أو غيره من الأموال المتقومة، وعلى ذلك فلا يزاد في
قيمته على دية الحر، هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة، وأحمد.
أما الشافعي فإنه ألحقه بالحيوان؛ حيث إنه أكثر شبها به من شبهه
بالحر، لذلك تجب على القاتل قيمة العبد حتى ولو زادت على دية
الحر.
مثال آخر: " المذي " متردد بين البول والمني، فمن قال: إنه
نجس قال: هو خارج من الفرج، ولا يخلق منه الولد، ولا يجب
به الغسل، فهو في ذلك يشبه البول أكثر من مشابهته للمنى، فيلحق
به فيكون نجساً مثله.
ومن قال: إنه ظاهر: قال: هو خارج فيه نوع من الشهوة،
ويخرج أمامها فهو في ذلك يشبه المني.
والخلاصة: أنا نلحق الفرع بالأصل الذي يغلب على ظننا أنه
يشبهه أكثر، لذلك سمي بـ " غلبة الأشباه "، أو " قياس الأشباه ".
تنبيه: بعض العلماء قد غرف قياس الأشباه، أو غلبة الأشباه
بأنه: تردد فرع بين أصلين قد أشبه أحدهما في الحكم، وأشبه الآخر
في الصورة، وهو قريب من تعريفنا، ومثاله نفس المثال الأول الذي
ذكرناه.
تنبيه آخر: كثير من العلماء يذهبون إلى أن قياس الأشباه أو غلبة
الأشباه داخل في قياس الشبه، لذلك تجدهم عرفوا قياس الشبه
بنفس تعريفنا لقياس الأشباه، أو غلبة الأشباه، وهذا ليس بصحيح.
بل الحق: أن قياس الشبه هو الذي سميناه بـ " الوصف الشبهى"
وهو يعتبر طريقاً من طرق إثبات العلة غير الوصف المناسب.
أما غلبة الأشباه، أو قياس الأشباه، فإنه يختلف عنه، فقد يوجد
فيه الوصف المناسب، لكن تنازع الفرع فيه أصلان - كما ذكرت -
فتدبر ذلك.
ولقد ذكرت هذا في هذا المكان، لبيان الفرق بينهما.
ونظراً لاختلاف العلماء فيه، وخلطهم بين الأمرين، وأن الفرق
بينهما دقيق جداً، فإن ذلك قد غمض على بعض العلماء حتى قال
بعضهم: " لست أرى في مسائل الأصول مسألة أغمض من هذه ".