الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع عشر هل يُقاس على حكم الأصل الخارج عن قاعدة القياس
؟
أو تقول: هل يقاس على حكم الأصل المعدول به عن سنن القياس؟
المراد من ذلك: أن الطريقة المعهودة في القياس الشرعي: كون
ذلك الحكم معللاً بعلَّة منصوصة أو مستنبطة، وكون تلك العلَّة
موجودة في صور كثيرة، فإذا ورد حكم معدول به عن هذا فهَل
يقاس عليه أو لا؟
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن الأحكام المشروعة أنواع،
سأذكرها وأذكر منها الخارج عن قاعدة القياس، وغير الخارج،
فأقول:
النوع الأول: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير أن يؤخذ من
أصول أُخر، ولا يعقل معناها كأعداد الصلوات، وأعداد ركعات
كل صلاة، ونصب الزكاة، ولِمَ جُعل الركوع مفرداً، والسجود
مثنى؟ فهذا النوع لا يجوز القياس فيه؛ نظراً لعدم وجود العِلَّة التي
هي أهم ركن من أركان القياس.
وهذا غير خارج عن قاعدة القياس؛ لأنه لم يسبقها عموم قياس
يمنع منها، ولا يستثنى عن أصول أخر حتى يسمى بالخارج عن
القياس، ولكن بعض العلماء سماه بالخارج عن قاعدة القياس،
وهذه التسمية مجاز.
النوع الثاني: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير أن يؤخذ ويقتطع
من أصول أُخر، وهي معقولة المعنى، لكنها عديمة النظير والمثيل.
أي: لا يكون له نظير خارج عما يتناوله الدليل الدال على تلك
الأحكام، فهذا لا يقاس عليها؛ نظراً لتعذر الفرع الذي هو ركن
من أركان القياس.
من أمثلته: رخصة المسح على الخفين؛ فإنه معلل بعسر نزعه في
كل وقت، وأن الحاجة ماسة إليه، ولكن لا يساويه في هذا المعنى
شيء مما يشبهه من بعض الوجوه كالعمامة والقفازين، فلذلك لم
يجز قياس شيء منها عليه، وهذا على مذهب من قال: لا يجوز
القياس على الرخص.
وكذلك رخصة القصر لعذر السفر، فمانه معلل بالمشقة المخصوصة
وهي غير حاصلة في حق غير المسافر، فإن الشقة مناسبة ظاهرة
لذلك الحكم، ولا يمكن تعليله بمطلق المشقة، وإلا لوجب ثبوت
القصر في حق المريض.
وكذلك مشروعية القسامة تجب على من لم يدع عليه ولي الدم
القتل، ولا تسقط بها عنهم الدية، ووجبت على عدد مخصوص،
وجعل الخيار إلى ولي الدم فيمن يحلف، وهذا لا يوجد في غيره.
وهذا غير خارج عن قاعدة القياس، لكن القياس هنا امتنع؛
لعدم وجود الفرع - كما سبق قوله -.
ولذلك لا يصح ما يقوله بعض الفقهاء: إن توقيت الإجارة خارج
عن قياس الأصول كالبيع والنكاح؛ لأنه ليس جعل أحدهما أصلاً
والآخر خارجاً عنه بأوْلى من العكس، بل كل واحد منها أصل
بنفسه لانظير له.
النوع الثالث: ما شرع من الأحكام على وجه الاستثناء والاقتطاع
عن القواعد العامة والأصول المقررة، ولا يحقل معناه، وهذا النوع
لا يقاس عليه؛ نظراً لفقد العِلَّة التي عليها مدار القياس.
من أمثلة ذلك: قبول شهادة خزيمة بمفرده لقوله صلى الله عليه وسلم: "من شهد له خزيمة فهو حسبه "، وقوله لأبي بردة: هاني بن نيار الأنصاري
- وقد ضحى بالجذع من المعز -:
" تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك ".
وتسمية هذا النوع بالخارج عن قاعدة القياس تسمية حقيقية؛ حيث
إن القاعدة: أن الجذع من المعز لا تجزئ، والقاعدة: أنه لا يقبل في
الشهادة إلا شهادة اثنين.
النوع الرابع: ما شرع من الأحكام على وجه الاستثناء والاقتطاع
عن القواعد العامة، وهو مخالف للأصول المقررة، وهو معقول
المعنى.
مثل: مشروعية بيع العرايا - وهو بيع الرطب في رؤوس النخل
بمثل قدره تمراً عن طريق الخرص - فهذا على خلاف القاعدة وهي:
النهي عن بيع المزابنة - وهي: بيع التمر بالتمر - ونعلم أنه لم يشرع
ناسخا لبيع المزابنة، بل على وجه الاستثناء والاقتطاع عنها لحاجة
الفقراء، فيقاس العنب على الرطب؛ لأنه في معناه.
وكذلك: ما شرع من رد المصراة، ورد صاع من التمر معها بدل
اللبن الموجود في ضرعها؛ فإن هذا لم يشرع لقاعدة ضمان المثليات
بالمثل، والمتقومات بالقيمة، ولكنه على وجه الاستثناء من تلك
القاعدة؛ لعِلَّة وهي: الحاجة لذلك؛ حيث إن اللبن الكائن في
الضرع لدى البيع اختلط باللبن الحادث بعده، ولا يمكن التمييز
بينهما، ولا يمكن معوفة القدر الموجود في الضرع عند البيع، وكان
الأمر قد تعلق بمطعوم، لذلك خلَّص الشارع المتبايعين من المنازعة
والوقوع في ورطة الجهل بالتقدير بصاع من التمر، لاشتراكهما في
وصف الطعام، ولتقاربهما في القيمة كما قدر دية الجنين بغرة عبد أو
امَة، مع اختلاف الجنين بالذكورة والأنوثة، ولما فهمنا المعنى الذي
لأجله شرع الحكم قسنا عليه غيره؛ حيث إنا نقول: لو ردَّ المصراة
بعيب آخر غير التصرية رد معها أيضا صاعا من التمر بدل اللبن
الموجود في الضرع.
وهذا النوع قد اختلف فيه هل يجوز القياس عليه أو لا؟
اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجوز القياس عليه مطلقا وإن كان خارجا عن
قاعدة القياس.
هو مذهب كثير من الشافعية، والحنابلة، وبعض الحنفية.
وهو الحق؛ لأنه حكم شرعي معقول المعنى، مُدرك العلَّة إما عن
طريق النص، أو عن طريق الاستنباط، فجاز القياس عليه كالقياس
على غيره من الأصول الغير المعدول به عن سنن القياس، والجامع:
توفر أركان القياس وشروط كل ركن.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز القياس عليه.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن القياس على المعدول به عن سنن القياس تكثير لمخالفة الدليل؛
لأن قياس الأصول يقتضي أن يكون حكم المعدول عن سنن القياس
كحكمه، لكن النص أخرجه عنه، فيبقى ما عداه على وفقه، فإخراج
غيره عن حكمه تكثير لمخالفته، بخلاف القياس على الأصول الغير
المعدول به عن سق القياس؛ فإنه لا يلزم منه مخالفة الدليل.
جوابه:
إن الشارع إنما يخالف الدليل لمصلحة تزيد على مصلحة ذلك
الدليل؛ عملاً بالاستقراء، وتقديم الأرجح، وهو شأن صاحب
الشرع، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي خولف الدليل لأجلها في
صورة أخرى: وجب أن يخالف الدليل بها - أيضا - عملاً
برجحانها، فنحن - حينئذٍ - قد أكثرنا موافقة الدليل لا مخالفته.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذا النوع معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع الفقهية،
ومنها:
1 -
أنه على المذهب الأول: يجوز قياس العنب على الرطب،
فيجوز بيع العنب بالزبيب، كما جاز بيع الرطب بالتمر.
وعلى المذهب الثاني: لا يجوز ذلك.
2 -
أنه على المذهب الأول: يجوز القياس على مسألة المصراة
بخلاف المذهب الثاني.
النوج الخامس: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير اقتطاع عن
أصول أخر، وهي معقولة المعنى، ولها نظير وفروع.
فهذا اتفق القائلون بالقياس على أنه يجري فيه القياس.
وهو قسم غير خارج عن قاعدة القياس باعتبار وجه من الوجوه.
فهذه الأنواع الخمسة اختلف حكم القياس فيها بسبب اختلاف
الأحكام فيها.