الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع حكم التعليل بالحكمة
الحكمة لغة: ما تعلقت بها عاقبة حميدة، وهي: بخلاف السفه.
وهي في الاصطلاح تطلق على ما يترتب على التشريع من جلب
مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها.
فيكون الفرق بينها وبين العلَّة: أن العِلَّة هي الوصف الظاهر
المنضبط الذي جعله الشارع مناطَا لثبوت الحكم؛ حيث ربط الشارع
به الحكم وجوداً وعدماً بناء على أنه مظنة لتحقيق المصلحة المقصودة
للشارع من شرع الحكم.
أما الحكمة فهي: المصلحة نفسها، ولذلك فإنها تتفاوت درجاتها
في الوضوح والانضباط.
فمثلاً: أباح الشارع للمسافر قصر الصلاة، وعلل ذلك:
بالسفر؛ حيث لا يختلف باختلاف الأفراد، ولا الأحوال فهو ظاهر
منضبط وهو مظنة للمشقة.
والحكمة هي: المصلحة التي قصدها الشارع.
كذلك: أجاز الشارع - مثلاً - للشريك أن يتشفع في مال شريكه
والوصف المنضبط في ذلك: الشركة فتكون هي العِلّة.
أما الوصف غير النضبط والذي يختلف باختلاف الأفراد والأحوال،
والذي قصده الشارع في التشريع، فإنه دفع الضرر عن الشريك
القديم من الشريك الجديد، وهذا هو حكمة التشريع.
ونظراً لكون تلك الحكمة تختلف باختلاف الأفراد والأحوال،
وقد تكون خفية، فإن العلماء قد اختلفوا هل يجوز تعليل الحكم بها
أو لا يجوز؟ على مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يجوز التعليل بالحكمة.
وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن حكمة الحكم الغالب فيها الخفاء، وعدم
الانضباط: فهي مختلفة باختلاف الأحوال، والأفراد، والأزمان،
فمثلاً: المشقة التي هي حكمة مشروعية قصر الصلاة في السفر،
وإباحة الإفطار في السفر تختلف باختلاف الأشخاص، فبعضهم
يشعر بالمشقة عند أدنى تعب، وبعضهم لا يشعر بشيء مهما صعب
السفر، وبعضهم قد توسط، كذلك المسافر في الشتاء قد لا يشعر
بالعطش، كمن سافر في الصيف، كذلك الراكب دابة أو سيارة،
أو طائرة يختلف عن غير الراكب، فلو قلنا: إن المشقة هي العلَّة في
الإفطار لترتب على ذلك: اختلاف الحكم باختلاف الأفراد وقوة
تحملهم وعدم ذلك، وترتب عليه أيضا اختلاف الحكم باختلاف
الأزمان، وترتب عليه - أيضاً - اختلاف الحكم باختلاف المركوب
ونحو ذلك، وهذا يجعل أحكام الشرع تختلف باختلاف الأفراد،
والأحوال، حتى أنك لتجد اثنين مسافرين: هذا يجوز له الإفطار،
وهذا لا يجوز؛ نظراً لاختلاف ظروفهما.
ويترتب عليه: لزوم البحث الشديد والنظر الدقيق لمعرفة مناط
الحكم لهذا الشخص أو ذاك، وهذا فيه من التكليف ما اللَّه به عليم،
والكلفة خلاف حكمة التخفيف الذي جاءت به الأحكام الشرعية،
وقد وجدنا الشارع رد الناس في مثل هذه الأمور - التي يختلف فيها
الناس - إلى مظانها الظاهرة الجلية؛ دفعا للتخبط في الأحكام،
ونفياً للحرج والمشقة والعسر، فرخص في القصر والفطر لعلَّة ظاهرة
جلية لا تختلف باختلاف الأفراد والظروف وهي: مجرد السفر
ثمانين كيلو متراً، ولم يعلق الترخص بالمشقة؛ لأنها مما يضطرب بها
الناس ويختلفون فيها - كما قلنا -.
ويؤيد ذلك: أن الشارع لم يرخص للعمال في التحميل، أو
البناء في الفطر في الحضر مع أنهم يجدون من المشقة ما لا يجده
المسافرون.
كذلك قلنا: إن حد الزنى وجب لعلة وهي: نفس الزنا، ولم
نعلل بالحكمة وهي: اختلاط الأنساب؛ لأنا لو عللنا بوجوب الزنا
باختلاط الأنساب لقال قائل: أنا أضمن أنه لا تختلط الأنساب بأن
أزنى بامرأة لا زوج لها وهى موقوفة لا ترى الرجال ولا يرونها،
وإذا كان الحكم يدور مع العِلة: إذا وجدت وجد الحكم وإذا عدمت
عدم الحكم كما قلنا في الدوران: فإنه على هذا إذا وجد اختلاط
الأنساب وجد الحكم، وهو تحريم الزنا والحد عليه، وإن لم يوجد
اختلاط الأنساب فلا يوجد الحكم، فلا حد على الزاني.
ولكن العلماء قد اتفقوا على بطلان ذلك، وعللوا وجوب حد
الزنا بعلة ظاهرة جلية وهي: نفس الزنا.
كذلك: أوجب الشارع العدة لبراءة الرحم بالوطء الذي هو مظنة
لشغل الرحم حتى لو كان صغيرة أو يائسة مما لا يتصور معها اختلاط
الأنساب، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تعد ولا تحصى.
وهذا قياسا على ما ذكرناه في أن الصبي المميز غير مكلف؛ حيث
إن الصبي وإن كان مفرقاً بين الخير والشر، والجيد والرديء،
والطيب والخبيث إلا أنا لا نقول بأنه مكلف؛ لأنا لا نعلم بالدقة متى
عرف ذلك، ولأن الصبيان يختلفون في ذلك باختلاف بيئاتهم،
ونوع التربية التي ربوا عليها مما يلزم منه: أن يقال: إن هذا الصبي
مكلف، وذاك غير مكلف فيختلف الحكم باختلاف الصبيان.
لكن الشارع قد وضع لنا حداً إذا بلغه الصبي يكون مكلفاً لا
يختلف فيه الصبيان وهو: حد البلوغ - وهو: خمسة عشر عاما،
أو الاحتلام، أو الإنبات من قبل، وتزيد الصبية الحيض.
كذلك هنا: فإن حكمة الحكم وهي المشقة مثلاً في السفر تختلف
باختلاف الأشخاص والأقوال، فوضع لنا الشارع علامة ظاهرة جلية
لا تختلف باختلاف الأشخاص والأقوال، وهي: السفر، فيكون
الحكم واحداً لجميع المكلفين.
الدليل الثاني: أنه لو جاز التعليل بالحكمة: للزم تخلف الحكم
عن علته، وهذا خلاف الأصل.
فمثلاً لما قلنا بوجوب الحد على الزاني، فإما أن يعلل ذلك
بالوصف المنضبط الظاهر وهو: الزنا، وإما أن يعلل ذلك بحكمته
وهي: اختلاط الأنساب.
لا يمكن أن نعلل بالثاني - وهو اختلاط الأنساب -؛ لأنه يلزم
منه التخلف في بعض الصور؛ حيث يتحقق اختلاط الأنساب بدون
الزنا؛ كأن يأخذ إنسان أطفالأ صغاراً جداً على حين غفلة من آبائهم
وفرقهم حتى صاروا رجالاً، فلن يستطيع آباؤهم التعرف عليهم،
فهنا قد تحققت الحكمة، وهي: اختلاط الأنساب، فينبغي على هذا:
القول بوجوب الحد على من أخذهم؛ لأنه حقق الحكمة، وهي:
اختلاط الأنساب، وهذا لم يقل به أحد، فبان من هذا: أنه، قد
تخلف الحكم عن علَّته، وهو نقض مبطل للتعليل كما سيأتي إن شاء
الله، فثبت أنه يعلل بالأول وهو الوصف الظاهر، وهو: الزنا.
الدليل الثالث: أن الشارع قد علل الترخص في قصر الصلاة
بالسفر نفسه حتى لو انتفت فيه المشقة كالسفر المريح بأي وسيلة، ولم
يعلل ذلك بالحضر وإن اشتمل على المشقة، كما هو الشأن فيمن
يلاقي المشاق في الأعمال الشاقة كعمال المصانع.
فهنا وجدنا الشارع اعتبر المظان عند خلوها عن الحكمة.
ولو جاز التعليل بالحكمة لما وجدنا الشارع اعتبر تلك المظان؛ لأنه
لا عبرة بها مع تحقق خلوها عن الحكمة، لكنه اعتبرها فدلنا ذلك
على أن المعتبر المظنة دون الحكمة.
المذهب الثاني: أنه يجوز التعليل بالحكمة مطلقا.
وهو مذهب الغزالي، وفخر الدين الرازي، والبيضاوي، وبعض
العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن الحكمة - وهي: مقصود الشارع من شرع الحكم - هي أصل
لذلك الوصف، فإذا جاز التعليل بالوصف المشتمل عليها، فإنه من
باب أوْلى أن يجوز التعليل بالحكمة؛ لأنها أصل لذلك الوصف،
ولا يعقل أن يكون الأصل أقل درجة من فرعه.
أي: إذا جاز التعليل بالفرع - وهو الوصف - فإنه من باب أوْلى
إلى جواز التعليل بالأصل - وهي الحكمة.
جوابه:
إن قياس الحكمة على الوصف بالقياس الأولى لا نسلمه، بل هو
قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق:
أن الوصف المشتمل على الحكمة يجوز التعليل به؛ لأمرين:
أولهما: اشتماله على الحكمة، ثانيهما: كونه ظاهراً منضبطا.
بخلاف الحكمة، فإنه لا يتوفر فيها الأمر الثاني؛ لعدم انضباطها
غالبا - كما قلنا سابقا - حيث تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة،
والأشخاص كالمشقة.
المذهب الثالث: التفصيل، بيانه:
إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها، فإنه يجوز التعليل بها.
وإن كانت الحكمة خفية مضطربة، فإنه لا يجوز التعليل بها.
وهو ما ذهب إليه الآمدي، وابن الحاجب، والصفي الهندي،
وكثير من الحنابلة.
دليل هذا المذهب:
أنا قلنا: إنه لا يجوز التعليل بالحكمة إذا كانت خفية غير منضبطة
لأمرين هما:
أولهما: أن الحكمة الخفية المضطربة تختلف باختلاف الأشخاص
والأماكن، والأزمان والأحوال، ويعسر معرفة حكمة الحكم والحال
هذه.
ثانيهما: أن التعليل بالحكمة الخفية المضطربة يفضي إلى العسر
والحرج في حق المكلََّف؛ حيث إنه سيكلف بالبحث عنها والاطلاع
عليها، والنصوص تنفي العسر عن المكلفين.
وقد سبق بيان هذين الأمرين في الدليل الأول من أدلة المذهب
الأول، وهو أنه لا يجوز التعليل بالحكمة مطلقاً.
وقلنا: إنه يجوز التعليل بالحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة؛ لأن
الوصف الظاهر المنضبط يصح التعليل به؛ لاشتماله على حكمة
مقصودة للشارع، وهذا الوصف يعتبر فرعا لحكمته أقيم مقامها؛
لأنه ظاهر منضبط، ومن الواضح أن العلماء لم يقولوا بصلاحية
الوصف للعلية، إلا لأنه مظنة لتلك الحكمة المقصودة أصلاً في
التشريع، فإذا وجدنا الحكمة بهذه الصفة من الظهور والانضباط،
فإنها تكون مساوية لذلك ألوصف بالظهور والانضباط، وعلى هذا
فإن التعليل بها جائز.
جوابه:
إن الحكمة لو كانت ظاهرة منضبطة لجاز التعليل بها؛ لكنها غير
ظاهرة ولا يمكن أن تنضبط؛ لأنها - كما قلت مراراً - تختلف
باختلاف الأشخاص، والأماكن، والأحوال، والأزمان، فهي
راجعة إلى دفع مفسدة، أو جلب مصلحة، وهذه الأمور تختلف
باختلاف الناس وحاجاتهم ومصالحهم، ودفع المفاسد عنهم، وكل
ذلك مما يخفى ويزيد وينقص بحسب الأحوال والأشخاص، فإذا كان
الأمر كذلك فلا تكون ظاهرة، ولا يمكن أن تنضبط إلا نادراً، ولا
يمكننا العلم بهذا النادر إلا بعد عسر وحرج، والعسر والحرج
مرفوعان في الشريعة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي، فيما يظهر؛ لأن أصحاب المذاهب قد اتفقوا
على الترخص للمسافر في قصر الصلاة وإباحة الفطر، ولم نجد
واحداً منهم قد نظر إلى تحقق المشقة وعدم تحققها، وهذا يجعل
الخلاف لا أثر له.