الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني عشر حكم تعليل الحكم بأكثر من عِلَّة " تعدد العِلَل
"
اتفق العلماء على جواز تعليل الحكم الواحد نوعاً المختلف شخصا
بعلل مختلفة، كان تعلل إباحة قتل شخص بكونه مرتداً، وتعلل
إباحة قتل شخص آخر بكونه قاتلاً، وتعلل إباحة قتل شخص ثالث
بكونه زانيا محصنا.
واختلف العلماء في تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين
مختلفتين، أو أكثر من ذلك مثل: تعليل حرمة وطء امرأة؛ بكونها
معتدة، وكونها حائضا، وتعليل وجوب القتل على مكلف بكونه
زانيا وهو محصن، وبكونه قاتلاً، وبكونه مرتداً، فهل يجوز
ذلك؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين فأكثر مطلقا.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين:
الدليل الأول: أن العلَّة هي: الوصف المعرف للحكم - كما
قلنا في تعريف العِلَّة - ولَا مانع من اجتماع المعرفات والأمارات على
شيء واحد، ولذلك قالوا: إن من لمس وبال، فإنه ينتقض وضوؤه
بهما.
الدليل الثاني: الاستقراء والتتبع دلَّ على جواز ذلك؛ حيث إنه
بعد الاستقراء والتتبع للأحكام وأسبابها وجدنا إنه يمكن جدا أن يصدر
من شخص واحد في ساعة واحدة سببان يوجدان معا يوجبان قتله.
كالزنا والردة، ومن الممكن أن تحرم المرأة بسببين يوجدان معا
كالحيض والإحرام، أو الإحرام والعدة، أو الحيض والعدة، أو
تجتمع الثلاثة وهي: العدة والحيض والإحرام معا. كذلك لو جمع
شخص بين لبق أخته ولبن زوجة أخيه، ثم سقاه لصبية دون السنتين،
فإن تلك الصبية تحرم على ذلك الشخص بسببين معا وهما: " أنه يعد
عمها "، و " أنه خالها ".
فكان عمها من جهة أنها رضعت من لبن زوجة أخيه الذي أصبح
أباً لها.
وكان خالها من جهة أنها رضعت من لبن أخته التي أصبحت أمًّا
لها.
فاجتمع للتحريم سببان وعلتان معا، فهذا يدل على وقوع اجتماع
الأسباب دفعة واحدة في حكم واحد، وهذا يدل على جوازه.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز مطلقا.
وهو مذهب الآمدي، وتاج الدين ابن السبكي، ونسب إلى
القاضي أبي بكر الباقلاني.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن من شروط العلَّة: أن تكون مناسبة للحكم،
والقول بمناسبة الحكم الواحد لعلتين مختلفتين يقتضي أن الحكم مساو
لهما، والقول بمساواته لهما يقتضي اختلافه مع نفسه؛ لأن مساوي
المختلفين مختلف، ولما استحال اختلافه مع نفسه نتج: عدم جواز
تعليله بعلتين فأكثر مختلفة حتى لا يؤدي إلى المحال.
جوابه:
نحن قلنا بجواز تعليل الحكم بعلتين أو أكثر بشرط مناسبتهما
للحكم، فيجوز أن تكون العلتان قد اشتركتا في جهة واحدة،
وحينئذٍ تتحقق المناسبة بينهما وبين الحكم في تلك الجهة، ويزول ما
ذكرتموه من الامتناع، إذن: لا مانع من القول بجواز تعليل الحكم
بأكثر من عِلَّة.
الدليل الثاني: أن تعليل الحكم بأكثر من علَّة يلزم منه أمور ثلاثة:
" إما تحصيل الحاصل "، أو " اجتماع المثلين "، أو " نقض العِلَّة "
وهذه الأمور الثلاثة كلها باطلة، فيكون التعليل بأكثر من علَّة لحكم
واحد باطل.، بيانه:
أن الحكم يحصل بأي علَّة من تلك العلَل المختلفة، وهذا لا بد
منه؛ لأنا لو لم نقل بذلك فإنه يلزم النقض من غير مانع، وهو
باطل، وعلى هذا تكون العِلَّة الثانية إذا وجدت فلا يخلو:
إما أن تقتضي أيضاً حصول نفس الحكم، وهذا هو تحصيل
الحاصل.
وإما أن تقتضي حكما آخر مماثلاً للحكم الأول، ويلزم على هذا
اجتماع المثلين.
وإما أن تقتضي حكما آخر غيرهما، أو لم تقتضي شيئاً، فيلزم
- على هذا - النقض بدون مانع، وهو باطل.
جوابه:
أنا فسرنا العلَّة بأنها: المعرف للحكم، ولا مانع من اجتماع
معرفين للحكم الواحد - كما سبق بيانه - وعليه فلا يمتنع تحصيل
الحكم بعلتين فأكثر، أى: تحصيل الحكم بالعلَّة الأولى، والثانية،
وغيرهما.
وما ذكرتموه من امتناع تحصيل الحكم السابق تحصيله بالعلَّة الأولى
متصور إذا فسرت العِلَّة بالمؤثر؛ لأنه قد حصل الحكم بالمؤثر السابق
- وهي العِلَّة الأولى - فلا معنى للمؤثر اللاحق - وهي العِلَّة
الثانية -.
المذهب الثالث: التفصيل بين المنصوصة والمستنبطة، حيث يجوز
تعدد العلل إذا كان منصوصا عليها، ولا يجوز تعدد العلل إذا كانت
مستنبطة.
وهو اختيار ابن فورك، وفخر الدين الرازي.
دليل هذا المذهب:
أنه لو أعطى إنسان فقيرا قريبا له، فإنه:
يحتمل أن يكون قد أعطاه لداعي الفقر فقط.
ويحتمل أن يكون قد أعطاه لداعي القرابة فقط.
ويحتمل أن يكون قد أعطاه لداعي الفقر والقرابة معا.
ويحتمل أن يكون قد أعطاه لا لفقره ولا لقرابته.
وهذه الاحتمالات متنافية بدليل: أن كون الفقر مثلاً داعيا ينافي
كون غير الفقر داعيا، أو جزءاً من الداعي.
ولما كانت متنافية، وكانت متساوية من حيث التعليل بها، فعندنا
احتمالان هما:
الاحتمال الأول: إما أن تبقى على جهل التعليل بواحدة منها
المؤدي إليه التساوي، فلا يحصل الظن بواحد منها على التعيين،
فلا يجوز أن يحكم بأنه عِلَّة.
الاحتمال الثاني: وإما أن يترجح بعضها، وهذا الترجيح يحصل
بأمرين هما: " المناسبة "، و " الاقتران "؛ لأن ذلك مشترك بين هذه
الاحتمالات، وحينئذ تكون العلَّة هي الراجح منها دون المرجوح،
وهذا يعني أنا نعلل الحكم بالراجح فقط، إذن لا يجوز تعدد
الأوصاف في العلَّة المستنبطة، أما العلَّة المنصوصة فيجوز فيها ذلك؛
للنص.
جوابه:
لا نسلِّم التفريق بين العلَّة المنصوصة والمستنبطة، بل كلاهما واحد
في جواز تعدد العلل، فإذا جاز في العلَّة المنصوصة محإنمه يحوز في
المستنبطة ولا فرق.
ثم المثال الذي ذكرتموه لا نسلمه؛ لأنا لا نُسَلِّمُ أن احتمال كون
إعطائه لفقره مثلاً ينافي احتمال كونه أعطاه لفقهه فقط.
المذهب الرابع: عكس الثالث، وهو: أنه يجوز تعدد العلل في
المستنبطة، ولا يجوز في المنصوصة.
وهو لبعض المذاهب.
دليل هذا المذهب:
قياس العلَّة المنصوصة على العِلَّة العقلية، فكما أنه لا يجوز
اجتماع العلَل العقلية على معلول واحد، فكذلك العِلَّة الشرعية
المنصوصة بجامع: أن كلأ منهما قطعية؛ فالعقلية معروف أنها
قطعية، والمنصوصة فإنها كانت قطعية؛ لأنه لم يعتبر غيرها.
وهذا بخلاف العِلَّة المستنبطة، فإنها لما كانت ظنية فإنه يصح أن
يكون كل واحد منَ الوصفين - أو الأوصاف - عِلَّة كما أن سبب
ظن العلية حاصل في كل واحد من الوصفين.
جوابه:
لا نسلم ما ذكرتموه، فلا نسلم أن العلل المنصوص عليها كلها
قطعية، بل أكثر العلل المنصوصة ظنية، حيث إن هناك من النصوص
الدالة على علية الوصف آحاد، أو دلالة هذا النص على العِلَّة دلالة
ظنية وإن كان ثابتا عن طريق التواتر، وهذا أكثر العلل المنصوصة،
وما وجد من العلل المنصوصة القطعية فهو قليل جداً، ولا يمكن أن
تثبت قاعدة أصولية والمستند صور قليلة، ويترك صوراً كثيرة لا يلتفت
إليها.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذاهب على المعنى،
واختلافهم في العبارة؛ لأنه لا يوجد أحد من أصحاب المذاهب يمنع
قيام وصفين، كل واحدي منهما لو انفرد لاستقل بالحكم، لكن
يقال: هل الحكم مضاف إليهما أم هو مضاف إلى كل واحد منهما؛
ولقد رجحت في كتابي: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين " أن
الخلاف معنوي، وفصَّلت في ذلك، ولكن الآن أعدل عما قلته
هناك إلى ما قلته هنا؛ لما سبق من التعليل.