الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول في طرق الترجيح بين منقولين
الترجيح بين الدليلين المنقولين يشمل الكتاب والسُّنَّة، لكن
العلماء تكلموا في ذلك عن السُّنَّة فقط، دون الكتاب، والسبب
في ذلك: أن القرآن قد وصل إلينا وهو متكامل لا زيادة فيه ولا
نقصان لا يشك في ذلك أيُّ مسلم، ونظراً لكونه متواتراً في السند
والمتن، فإنه لا تعارض بين آية وأخرى، فلا ترجيح فيه لآية على
أخرى للقطع بأن كله من عند اللَّه، وإن وجد تعارض بين آيتين في
الدلالة، فإنه تعارض يستطيع أي طالب علم أن يفك هذا التعارض.
وأما السُّنَّة - وإن كانت مثل القرآن في وجوب الاتباع والعمل
بمدلولاتها - فنظراً لكونها غير مقطوع بها من حيث السند والمتن فإنه
يوجد تعارض فيها بين حديث وحديث آخر، وبالتالي لا بد من
الترجيح بينهما، وطرق الترجيح.
فالعلماء تكلموا عن طرق الترجيح في السُّنَّة لكون التعارض فيها
يقع كثيراً وغالباً؛ بخلاف القرآن الكريم.
وطرق الترجيح بين الأحاديث والأخبار تتنوع بحسب ما ترجع
إليه، ولهذا جعلت الكلام عنها في المسائل التالية:
المسألة الأولى: في طرق الترجيح التي ترجع إلى الرواة.
المسألة الثانية: في طرق الترجيح التي ترجع إلى قوة السند وضعفه.
المسألة الثالثة: في طرق الترجيح التي ترجع إلى متن الحديث.
المسألة الرابعة: في طرق الترجيح التي ترجع إلى الحكم.
المسألة الخامسة: في طرق الترجيح التي ترجع إلى أمر خارجي.
وإليك بيان كل مسألة بكل طرقها، وبيان المتفق عليه والمختلف فيه
منها، فأقول:
المسألة الأولى: طرق الترجيح التي ترجع إلى الرواة:
الطريق الأول: الترجيح بكون الراوي قريباً من الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذا تعارض خبران، وراوي أحدهما أقرب من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقت سماع الحديث، فإن حديثه يرجح على ما كان راويه أبعد منه؛ لأن الراوي القريب أوعى للحديث من البعيد، وأكثر سماعا له منه،
فيكون - أي: القريب - أبعد من احتمال الخطأ.
مثاله: التعارض الحاصل بين رواية ابن عمر، وأنس بن مالك في
حكاية تلبية الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فروى ابن عمر أنه نوى مفرداً - أي بالحج فقط -،
وروى أنس: أنه صلى الله عليه وسلم نوى قارناً، أي:
بالحج والعمرة معا.
فهنا ترجح رواية ابن عمر؛ وذلك لأنه أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه ورد في آخر الحديث أن ابن عمر قال: " كنت آخذ بزمام ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يسيل علي لعابها ".
الطريق الثاني: الترجيح بكبر سن الراوي.
إذا تعارض خبران وراوي أحدهما أكبر من راوي الآخر، فإنه
يرجح الحديث الذي راويه اكبر سنا على الحديث الآخر؛ لأمور:
أولها: أن الغالب أن كبير السن يكون أقرب الناس مجلسا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلين أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ".
ثانيها: أن محافظته على منصبه تحمله على تحرزه عن الكذب.
ثالثها: أن الغالب في الكبار أنهم يتحرزون عن الكذب،
ويحتاطون لدينهم، فلا ينقلون إلا ما كانوا متأكدين منه أكثر من
الصغار.
رابعها: أن الكبير أضبط للحديث من الصغير.
ويستثنى من هذه القاعدة: الصغيرة الذي يحترز لدينه ويتميز
بالضبط أكثر من الكبير أو مثله.
مثاله: نفس المثال في الطريق السابق، وهو تعارض حديث ابن
عمر، مع حديث أنس، فأنا نرجح حديث ابن عمر؛ نظراً لكبر
سنه، لما ورد في آخر الحديث من قول ابن عمر: " أن أنسا كان
صغيراً يلج على كنساء وهن متكشفات، وأنا آخذ بزمام ناقة رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسيل عليّ لعابها ".
الطريق الثالث: الترجيح بكون الراوي متأخر الإسلام.
إذا تعارض خبران وراوي أحدهما كان متأخر الإسلام من الآخر،
فايهما الذين يرجح؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يرجح حديث متأخر الإسلام.
وهو مذهب أكثر الشافعية، وبعض المالكية، وبعض الحنابلة،
وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن تأخره في الإسلام يدل على تأخره في روايته،
فهو يحفظ آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيكون الأخذ بخبره أوْلى.
الدليل الثاني: أن ابن عباس قال: " كنا ناخذ الأحدث فالأحدث
من أوامر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، وخبر متأخر الإسلام هو الأحدث، فيكون هو الأَوْلى.
الدليل الثالث: أن رواية متقدم الإسلام تعتريها عدة احتمالات
هي كما يلي:
فيحتمل أن يكون خبره مما سمعه في آخر الأمر من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فيكون مساوياً لمتأخر الإسلام.
ويحتمل استماعه للخبر في أول الإسلام، فيكون متقدما في
الزمان، مرجوحاً في العمل.
ويحتمل أن يكون المتقدم منسوخا بالمتأخر.
وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال.
لذلك نرجح حديث متأخر الإسلام على متقدمه.
المذهب الثاني: أنه يرجح خبر الراوي المتقدم في الإسلام.
وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية كالآمدي، وبعض
المالكية كابن الحاجب.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن المتقدم "عاش حتى مات متأخر الإسلام متساويا
له في الصحبة، إلا أن المتقدم يزيد عليه بالتقدم؛ لقوة أصالته،
وسبق معرفته بالإسلام.
جوابه:
أن سماع المتأخر متحقق التأخر، ولا يحتمل غير ذلك، أما
سماع المتقدم فإنه يحتمل التقدم والتأخر، وما لا يحتمل مقدم على
ما يحتمل.
الدليل الثاني: أن المتقدم قد يطلع على ما لا يطلع عليه المتأخر،
فهو أوْلى؛ نظراً لسبق معرفته، ولشدة احترازه عن الكذب صونا
لمنصبه.
جوابه:
أن في رواية المتقدم احتمال، بخلاف الآخر.
المذهب الثالث: أنهما متساويان، فلا نرجح رواية على أخرى.
وهو مذهب بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن كل واحد منهما قد اختص بمزية لا توجد في الآخر، فالأول
قد اختص بمزية الأصالة والتقدم، واطلاعه على ما لم يطلع عليه
الآخر في الإسلام، أما راوي الحديث الثاني فإنه مختص بكونه لا
يروي في الغالب إلا آخر الأمرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت روايتهما سواء.
جوابه:
لا نسلم أن روايتهما سواء، بل إن رواية المتقدم تحتمل التقدم
والتأخر، وأما رواية المتأخر فلا تحتمل إلا التأخر فافترقا.
المذهب الرابع: التفصيل، وهو: إن كان التقدم في الإسلام
موجوداً في زمن المتأخر، فلا ترجيح لواحد منهما على الآخر؛
نظراً لجواز أن تكون رواية المتقدم في الإسلام متأخرة عن رواية المتأخر
فيه، ويحتمل العكس من غير ترجيح، فلا يقدم أحدهما على
الآخر.
أما إذا علم أن المتقدم في الإسلام مات قبل إسلام المتأخر، أو
علم أن أكثر رواياته متقدمة على رواية المتأخر، فإن رواية المتأخر
تكون أرجح؛ لأن ما علم تأخيرها على روايات المتأخر في الإسلام
فهو متقدم ومرجح على روايات المتقدم في الإسلام، وما لم يعلم
يكون نادراً، والنادر يلحق بالغالب الكثير، وهو مذهب فخر الدين
الرازي.
جوابه:
أن احتمال تقدم رواية الراوي المتقدم احتمال قوي وإن كان موجوداً
في زمن الراوي المتأخر، في حين أن هذا الاحتمال غير موجود في
الراوي المتأخر، وما لا يحتمل مقدم على ما يحتمل.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، كما هو واضح.
الطريق الرابع: الترجيح بكون الراوي كثير الصحبة.
إذا تعارض خبران، وراوي أحدهما أكثر صحبة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من راوي الخبر الآخر، فإنه يرجح الخبر الذي راويه أكثر صحبة؛
لأمرين:
أولهما: أن كثير المصاحبة للنبي صلى الله عليه وسلم أعلم برواية الحديث، وأحفظ لها، وأكثر استيعابا لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأعلم بمقاصد الشريعة.
ثانيهما: أن كثير الصحبة أقوى إيماناً من غيره بسبب كثرة استماعه
لمواعظه صلى الله عليه وسلم، فيكون تجنبه عن الكذب أكثر وأشد.
الطريق الخامس: الترجيح بكون الراوي سمع من غير حجاب.
إذا تعارض خبران، وراوي أحد الخبرين سمع الحديث من الراوي
الأول من غير حجاب، وراوي الخبر الثاني المعارض له سمع الخبر
منه وبينهما حجاب، فإنه يرجح خبر الراوي الذي سمع من الراوي
الأول من غير حجاب؛ لأن الرواية من غير حجاب شاركت الرواية
الأخرى في السماع، وتزيد عليها بتعين عين المسموع منه، فيكون
آمناً من تطرق الخلل الموجود في الرواية الأخرى.
لذلك ترجح رواية قاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة - رضي
الله عنها - أن بريرة عتقت وكان زوجها عبداً على رواية الأسود بن
يزيد عن عائشة: أن بريرة عتقت وزوجها حر؛ ويرجح ذلك لأن
قاسم بن محمد قد سمع من عائشة بلا حجاب؛ لأنها عمته، أما
الأسود فقد سمع عنها مع الحجاب.
الطريق السادس: الترجيح بكون الراوي قد اتفق على عدالته.
إذا تعارض خبران، وراوي أحد الخبرين قد اتفق على عدالته،
وراوي الخبر الآخر قد اختلف في عدالته: فإن الخبر الذي اتفق على
عدالة راويه يرجح على الآخر، والعِلَّة في ذلك ظاهرة؛ حيث إن
المتفق عليه مقدم على المختلف فيه في كل شيء.
لذلك يُرجح خبر بسرة بنت صفوان في نقض الوضوء من مس
الذكر على خبر طلق بن عليّ الحنفي المعارض له المفيد عدم النقض
من مس الذكر؛ وذلك لأن خبر بسرة قد أخرجه مالك بإسناد ليس
فيه إلا عدل متفق على عدالته، وأما رواة خبر طلق فإنه قد اختلف
في عدالتهم.
الطريق السابع: الترجيح بكون الراوي تتعلَّق القصة به، أو
سفيراً فيها.
إذا تعارض خبران، وراوي أحد الخبرين تتعلق القصة به، أو هو
مباشر لها، أو سفير فيها دون راوي الخبر الآخر: فإنه يرجح خبر
الراوي الذي تتعلق به القصة، أو كان سفيراً فيها على الخبر الآخر،
وذلك لأن الراوي الذي تتعلق به القصة والقضية، أو هو مباشر لها
أو سفير فيها أعرف بتفاصيل الموضوع، وأعلم بالقضية من غيره،
فتكون روايته أقرب إلى الصحة، فيكون أميل إلى قبولها.
لذلك يرجح خبر ميمونة رضي الله عنها: " تزوجني رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف " على خبر ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرم "، وذلك لأن الراوية للأول هي التي عقد عليها، فهي أعرف بوقت عقدها، وتفاصيل الموضوع؛ لشدة اهتمامها به.
ثم يؤيد ذلك ما رواه أبو رافع رضي الله عنه: " أنه صلى الله عليه وسلم نكحها وهما حلالان "، فهذا يرجح على خبر ابن عباس؛ لأن أبا
رافع كان سفيراً بين النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة، كما ورد التصريح به في بعض الروايات، وهذا مذهب كثير من العلماء.
أما الحنفية فإنهم رجحوا خبر ابن عباس في هذا، لأنه أفضل فى
الحفظ، وأحسن في الضبط، وأعلم بالشريعة منه.
وقد جرى في ذلك مناقشات واعتراضات في هذا، تجده مبسوطا
في كتب الفقه.
الطريق الثامن: الترجيح بكون الراوي فقيهاً.
إذا تعارض خبران، وراوي أحد الخبوين أفقه من راوي الخبر
الآخر: فإنه يقدم الخبر الذي راويه أفقه على الخبر الآخر؛ وذلك
لأن الراوي الفقيه أعرف بمدلولات الألفاظ، وأعلم باقتناص الأحكام
الشرعية من الألفاظ، فهو - إذن - يميز بين ما يجوز وما لا يجوز،
وبين ما يمكن حمله على ظاهره، وما لا يمكن فيه ذلك، فإذا سمع
مثل ذلك فإنه يبحث عنه، وعن ما ليتعلق به من سبب نزوله ووروده
حتى يطلع على ما يزول به الإشكال، بخلاف غير الفقيه، فليس
كذلك " حيث إنه يروي ما يسمعه، وقد يؤدي إلى حكم غير
صحيح، أو إلى حكم مخالف لمقاصد الشريعة.
إذن يكون احتمال الخطأ في كلام الفقيه أقل، ويكون أكثر ضبطاً،
وأشد اعتناء بنقل الكلام.
لذلك يرجح خبر عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من غير احتلام ويصوم " على خبر أبي هريرة رضي الله عنه: " من أصبح جنبا فلا صيام له ".
الطريق التاسع؛ الترجيح بكون الراوي حسن الاعتقاد.
إن الخبر الذي رواه راو حسن الاعتقاد يُرجح على الخبر الذي رواه
مبتدع، لأن الثقة بكلام الراوي حسن الاعتقاد أكثر من غيره.
لذلك يُرجح خبر قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام الدهر"
على الخبر الذي رواه إبراهيم بن يحيى: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: " من صام الدهر فقد وهب نفسه لله "؛ لأن إبراهيم بن يحيى
كان مبتدعاً - كما قال كثير من العلماء -.
الطريق العاشر: الترجيح بكون الراوي ورعاً.
إذا كان راوي أحد الخبرين أورع من راوي الخبر الآخر، وأشد
احتياطاً فيما يرويه: فإن خبره يرجح؛ لذلك الورع والاحتياط،
فيكون كلامه أقل احتمالاً للخطأ.
الطريق الحادي عشر: الترجيح بكون الراوي أعلم باللغة العربية.
إذا كان راوي أحد الخبرين أعلم باللغة العربية من راوي الخبر
الآخر: فإنه يرجح الخبر الذي رواه العالم باللغة العربية؛ لأمرين:
أولهما: أن تطرق الخطأ إليه أقل.
ثانيهما: أن من كان كذلك إذا سمع خبراً، وعرف أن فيه ما لا
يحمل على ظاهره بحث عنه، وعن سبب وروده، وعن اشتقاقات
كلماته حتى يزول الإشكال.
فلذلك كان الوثوق برواياته أكثر.
الطريق الثاني عشر: الترجيح بكون الراوي راجح العقل.
إذا كان راوي أحد الخبرين أرجح عقلاً من راوي الخبر الآخر:
فإنه يُرجح الخبر الذي رواه راجح العقل على من يختل عقله في
وقت دون وقت؛ وذلك لتطرق احتمال روايته في وقت الخلل العقلي.
لذلك رجح الحنفية خبر ابن عباس وهو: " أنه صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم " على خبر ميمونة ورافع:
" أنه نكحها وهما حلالان "
وعللوا ذلك بأن ابن عباس أرجح عقلاً، وأعلم وأضبط من راوي
الخبر الثاني.
الطريق الثالث عشر: الترجيح بالتزكية، وفيه تفصيل:
أولاً: أن يكون المزكي لأحد الراويين أكثر من الآخر، فخبر
الراوي الذي زكاه الأكثر مرجح على خبر الأقل تزكية؛ لأنها أغلب
على الظن.
ثانيا: أن يكون المزكي لأحد الراويين أعدل وأوثق ممن زكى راوي
الخبر الآخر، فيرجح الخبر الذي زكى راويه الأعدل والأوثق.
ثالثا: أن تكون تزكية أحد الراويين بالحكم بشهادته، والآخر
بالرواية عنه، فيرجح الخبر الذي حكم بشهادة راويه؛ لأن الاحتياط
في الشهادة فيما يرجع إلى أحكام الجرح والتعديل أكثر منه في الرواية
لذلك قبلت رواية العبد، والواحد، والمرأة، دون شهادتهم
لوحدهم.
رابعا: أن تكون تزكية أحدهما بالعمل بروايته، والآخر بالرواية
عنه، فيرجح الأول؛ لأن الغالب من العدل أنه لا يعمل برواية غير
العدل، بخلاف الرواية عنه؛ لأن قد يروي العدل عن شخص لو
سئل عنه لسكت.
خامسا: أن تكون تزكية أحدهما بصريح المقال، والآخر بالرواية
عنه، أو بالعمل بروايته، أو بالحكم بشهادته فإنه يرجح الأول؛ لأن
الرواية قد تكون عمن ليس بعدل، والعمل بما يوافق الرواية،
والعمل بالشهادة قد تكون بغيرها وهو موافق لها، بخلاف. التزكية
بصريح المقال؛ فإنه لا يحتمل غير التزكية والتعديل.
لذلك يرجح خبر بسرة في نقض الوضوء من مس الذكر على خبر
طلق، وهو عدم النقض من ذلك؛ لأن الأول قد أخرجه الإمام
مالك، وليس في سنده إلا من هو متفق عليه، وكثر المزكون له،
وأما رواة خبر طلق فقد قل مزكوهم واختلف في تعديل بعضهم.
الطريق الرابع عشر: الترجيح بالشهرة، وهذا فيه تفصيل:
أولاً: " أن يكون راوي أحد الخبرين مشهوراً بالحفظ، والإتقان،
والضبط، دون راوي الخبر الآخر، فيرجح الراوي الأول، لأن
شهرته في الضبط والحفظ والإتقان تؤدي إلى كئرة الثقة به، وقوة
الاعتماد عليه، وقلة احتمال الخطأ والغلط منه.
ثانياً: أن يكون راوي أحد الخبرين مشهور النسب أكثر من راوي
الخبر الآخر، فيرجح الأول؛ لأن علو النسب والاشتهار به يسبب
كثرة احترازه عما يوجب نقص منزلته المشهورة.
ثالثاً: أن يكون راوي أحد الخبرين مشهوراً بدقة الإسناد أكثر من
راوي الخبر الآخر، فيرجح الأول؛ لأن دقة الإسناد توجب علم
الطمأنينة، فيكون قريباً من اليقين.
لذلك رجح العلماء خبر شعبة وهو: " لا وضوء إلا من صوت
أو ريح " على خبر بقية بن الوليد الكلاعي عن محمد الخزاعي وهو:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قهقه في صلاته.. وأعد وضوءك "، وذلك لأن شعبة مشهور بين الأئمة، بخلاف بقية فإنه مجهول.
الطريق الخامس عشر: الترجيح بعدم الالتباس في اسم الراوي.
إذا كان روي أحد الخبرين معروف الاسم، ولم يلتبس اسمه
بأسماء الضعفاء، بينما راوي الخبر الآخر قد التبس اسمه بأسمائهم
فإنه يرجح الأول؛ لأنه أبعد من الاضطراب والشك.
الطريق السادس عشر: الترجيح بكون الراوي أكئر ملازمة للشيخ
المحدث.
إذا كان راوي أحد الخبرين أكثر ملازمة للشيخ المحدث الذي يأخذ
عنه الحديث، والآخر قليل الملازمة لذلك الشيخ، فإنه يرجح
الأول؛ لأمرين:
أولهما: أن المحدث قد ينشط تارة فيسرد الحديث على وجهه،
وقد يتكاسل في بعض الأوقات فيقتصر على بعضه، أو يرويه مرسلاً.
ثانيهما: أن من يكون جليساً للمحدثين أكثر يكون أعرف بطرق
الأحاديث، وشرائطها.
المسألة الثانية: طرق الترجيح التي ترجع إلى قوة السند
وضعفه:
الطريق الأول: الترجيح بكثرة الرواة.
إذا كان رواة أحد الخبرين أكثر من رواة الخبر الآخر، فإن الخبر
الذي رواته أكثر يرجح على الذي رواته أقل، وهو مذهب جمهور
العلماء من السلف والخلف، وهو الحق، للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن قول الجماعة أقوى في الظن، وأبعد عن السهو
والغلط والكذب.
الدليل الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعمل بقول ذي اليدين:
"أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللَّه " حتى أخبره بذلك أبو بكر
وعمر.
الدليل الثالث: أنه لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أطعموا الجدة السدس "
قال أبو بكر: من يشهد معك؛ فشهد معه محمد بن سلمة.
الدليل الرابع: أن الناس اعتادوا على الميل والأخذ بالأقوى في
أمورهم العادية كالتجارة والزراعة، ولا شك أن الخبر الذي رواته
أكثر أقوى من الخبر الذي رواته أقل.
وبعض الحنفية خالفوا في ذلك وقالوا: إنه لا يرجح بكثرة الرواة.
دليل هذا المذهب:
قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك:
أن شهادة الشاهدين، والأربعة فكثر سواء، ولا فرق بينهما،
كذلك خبر العدد في الرواية لا تؤثر في القبول وعدمه فيقبل الخبر
سواء كثر الرواة، أو قلوا.
جوابه:
إن هذا - قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، والفرق يتبين من
وجهين هما:
الوجه الأول: أن الشهادة مقدرة في الشرع بعدد، فإذا وجد هذا
العدد وجب تعليق الحكم عليه، بخلاف الخبر فإنه غير منصوص
على العدد فيه، فكان كلما كثر رواة الخبر كلما كان أقوى.
الوجه الثاني: أن الشهادة قد حُدّدت بعدد معين لفصل الخصومات
لأنه لو لم تحدد بعدد معين لقال الخصم: أنا سآتي بعدد أكثر مما أتى
به خصمي.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، هو واضح، فأصحاب المذهب الثاني لا
يفرقون بين خبر رواه عشرة، وخبر رواه ثلاثة، أما أصحاب المذهب
الأول فهم يفرقون فيرجحون الأول، ويتركون الثاني.
الطريق الثاني: ترجيح المتواتر على الآحاد والمشهور، وهو
واضح.
الطريق الثالث: ترجيح الحديث المسند على الحديث المرسل على
رأي الجمهور، وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن الاعتماد في حجية الحديث على السند وصحة
السند، وهذا يكون بالعلم بحال رجاله ورواته، والعلم بذلك
متحقق في المسند، بخلاف المرسل، ولهذا تقبل شهادة الفرع إذا
عرف شاهد الأصل، ولا تقبل إذا شهد مرسلاً.
الدليل الثاني: أن المرسل قد يكون بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مجهول، وهذا الاحتمال منتف في المسند، فيرجح ما لا يحتمل على
ما يحتمل.
الدليل الثالث: أن المسند متفق على حجيته، بخلاف المرسل فقد
اختلف في حجيته.
الدليل الرابع: أنهما قد تساويا في الحكم الذي أفاداه ويزيد المسند
بالإسناد، وما زاده ذلك إلا قوة بين الراوي المجتهد وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
الطريق الرابع: الترجيح بقلة الوسائط.
إذا تعارض حديثان وأحدهما قليل الوسائط بين الراوي المجتهد
وبين صلى الله عليه وسلم ويسمى: " عالي الإسناد "، أما الآخر فهو كثير الوسائط، فإنه يرجح قليل الوسائط؛ لأنه كلما قلت الوسائط
والرواة كان أبعد عن احتمال الغلط والكذب، وأقوى في الظن
اتصاله برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
الطريق الخامس: الترجيح بالسلامة عن الاختلاف.
إذا تعارض حديثان، لكن مسند أحدهما سالم من الاختلاف،
والآخر مما اختلف فيه، فإنه يرجح الأول؛ لأن الاتفاق يقوي
الحديث دون الثاني؛ لأن الاختلاف يضعف الحديث.
المسألة الثالثة: طرق الترجيح التي ترجع إلى متن الحديث:
الطويق الأول: الترجيح بقوة الدلالة.
إذا تعارض خبران وأحدهما أقوى دلالة من الآخر؛ فإنه يرجح
الأول؛ لقوة دلالته على الحكم.
وإليك بيان ذلك:
أولاً: يرجح الخبر الذي يحتمل احتمالات قليلة على الخبر الذي
يحتمل احتمالات كثيرة، فاللفظ المشترك بين معنيين يرجح على
اللفظ المشترك بين ثلاثة احتمالات؛ وذلك لأن كثرة الاحتمالات
تضعف الدلالة.
تانياً: يرجح الخبر الخاص على العام، والمقيد على المطلق.
ثالنْاً: يرجح الخبر الدال على الحكم بالمنطوق على الخبر الدال
على الحكم بالمفهوم الموافق والمخالف.
رابعاً: يرجح الخبر الدال على الحكم بمفهوم الموافقة على الخبر
الدال على الحكم بمفهوم المخالفة.
خامساً: يرجح الخبر الدال على الحكم بمفهوم الشرط على الخبر
الدال على الحكم بمفهوم العدد، أو اللقب وهكذا.
سادساً: يرجح المتن الدال على الحكم مع ذكر العلَّة، على المتن
الدال علوا الحكم بدون ذكر العِلَّة.
سابعاً: يرجح الخبر الدال على العموم وباق على عمومه، على
الخبر الدال على عموم مخصوص؛ لأن التخصيص يضعف دلالة
اللفظ، لذلك قال بعضهم: إنه دلالة اللفظ بعد التخصيص على
الباقي دلالة مجازية.
ثامنا: يرجح الخبر الذي لفظه فصيح على غيره، لكونه أقرب أن
يكون لفظ صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه عليه السلام أفصح العرب فيبعد نطقه بغير الفصيح، وبذلك يظهر أن غير الفصيح مروي بالمعنى،
فيكون من الراوي.
الطريق الثاني: الترجيح بكون الخبر مرويا باللفظ:
إذا تعارض خبران وأحدهما قد روي باللفظ، والآخر قد روي
بالمعنى: فإنه يرجح الخبر الذي روي باللفظ؛ لأمرين:
أولهما: أنه يكون أغلب على الظن بكونه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانيهما: أن المروي باللفظ متفق على جواز روايته، وعلى كونه
حُجة، بخلاف المروي بالمعنى فقد اختلف فيه، والمتفق عليه مقدم
على المختلف فيه.
الطريق الثالث: الترجيح بكون لفظ الخبر مؤكداً.
إذا تعارض خبران، ولفظ أحدهما مؤكد، ولفظ الآخر غير
مؤكد، فإنه يرجح الأول؛ لأن الثاني يتطرق إليه الاحتمال والتأويل
بخلاف الأول، فإنه لا يحتمل ذلك.
الطريق الرابع: الترجيح بكون اللفظ مستقلاً.
إذا تعارض خبران وأحدهما قد أفاد الحكم المراد من غير حاجة إلى
إضمار وتقدير، والآخر يحتاج إلى ذلك، فإنه يرجح الأول - وهو
الذي لا يحتاج إلى شيء -؛ لأمرين:
أحدهما: أن الأصل استقلال كل نص بالإفادة وأخذ الأحكام،
والإضمار خلاف الأصل.
ثانيهما: أن المستقل بنفسه معلوم المراد منه، والمحذوف منه ربما
يلتبس عليه ما هو المضمر منه.
الطريق الخامس: الترجيح بكون المتن سالما من الاضطراب.
إذا تعارض خبران ومتن أحدهما سالم من الاضطراب، بخلاف
الخبر الآخر، فإنه مضطرب، فإنه يرجح الأول - وهو السالم من
الاضطراب -؛ لأمرين:
أولهما: أن ما لا اضطراب فيه يدل على حفظ راويه، - وضبطه،
وسوء حفظ الخبر الذي وجد فيه اضطراب.
ثانيهما: أن ما لا اضطراب فيه أشبه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
الطريق السادس: الترجيح بكون الخير مرويا في ثنايا قصة
مشهورة.
إذا تعارض خبران، وأحدهما قد روي في ثنايا قصة مشهورة
معروفة عند أهل النقل، والخبر الآخر قد انفرد به الراوي وذكره بدون
قصة: فإنه يرجح الأول، لأنه أقوى في النفوس وأقرب إلى السلامة
من الغلط مما يرويه المنفرد بدون قصة.
الطريق السابع: الترجيح بكون الخبر قولاً.
إذا تعارض خبران وأحدهما نقل قوله صلى الله عليه وسلم،
والآخر نقل فعله، أو تقريره: فإنه يرجح قوله على فعله، وفعله على تقريره، وقد سبق بيان ذلك.
الطريق الثامن: الترجيح بكون المتن قد تضمن نهيا.
إذا تعارض خبران وأحدهما نهي وما في معناه من النفي، والآخر
أمر وما في معناه، فإنه يرجح الخبر الذي فيه النهي؛ لأن الغالب في
النهي دفع المفسدة الموجودة في المنهي عنه، والغالب في الأمر
بالشيء جلب المصلحة الموجودة في المأمور به، واهتمام العقلاء بدفع
المفاسد أكثر وأشد من اهتمامهم بجلب المصالح، يؤيد ذلك: أنه
يجب دفع كل المفاسد، ولا يجب جلب كل المصالح.
***
المسألة الرابعة: طرق الترجيح التي ترجع إلى الحكم:
الطريق الأول: ترجيح درء الحد على الموجب له.
إذا تعارض خبران: أحدهما يثبت الحد على عمل مخصوص،
والآخر ينفيه: فإنه يرجح الخبر الثاني - وهو: الذي ينفي الحد -؛
لأمور:
الأول: أن الحد ضرر، والضرر يزال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ".
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم:
"ادرأوا الحدود بالشبهات ".
فالحدود تدفع، وتزال بالشبهات، والحديث المعارض الذي ينفي
الحد أقل درجته يورث الشبهة، فيدفع الحد بها، فيعمل بمقتضى
الحديث النافي له.
الثالث: أن ترك إقامة الحد على من يجب عليه الحد أوْلى من
إقامة الحد على من ليس عليه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأن يخطئ أحدكم في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ".
الطريق الثاني: ترجيح الخبر الناقل على الخبر المقرر لحكم الأصل.
فإذا ورد خبران: أحدهما مبقي على البراءة الأصلية، ويوبجب
الثاني النقل عنها، وذكر حكم جديد، فإنه يرجح الثاني؛ لأمرين:
أحدهما: أن الثاني يفيد التأسيس، والخبر الأول يفيد التأكيد
وتقرير حكم الأصل، والتأسيس أوْلى من التأكيد.
ثانيهما: أنه يوجد في الخبر الثاني زيادة علم، بينما الأول لا
يوجد فيه ذلك، والذي يفيد الزيادة مقدم على ما ليس كذلك.
الطريق الثالث: ترجيح الوجوب على الإباحة، والكراهة،
والندب.
إذا ورد خبران أحدهما يفيد إيجاب شيء، والثاني يفيد الندب،
أو الكراهة، أو الإباحة، فإنه يرجح الأول - وهو المفيد للإيجاب -؛
لأمرين:
أولهما: أن تارك الواجب مستحق للعقاب، بخلاف تارك
المندوب، والكراهة، والإباحة.
ثانيهما: أن ترجيح الواجب أحوط لدين المسلم.
الطريق الرابع: ترجيح الخبر المحرم، على الموجب.
إذا تعارض خبران: أحدهما يدل على تحريم شيء، والآخر يدل
على وجوب ذلك الشيء: فإنه يرجح الأول - وهو الدال على
التحريم -؛ لما سبق أن قلناه من أن الغالب أن التحريم لدفع المفسدة
والموجب إنما أوجب لمصلحة فيه، واهتمام الشارع بدرء المفاسد أكثر
من جلب المصالح، فلذلك يقدم المحرم على الموجب.
الطريق الخامس: ترجيح ما يفيد التحريم على ما يفيد الإباحة.
إذا تعارض دليلان أحدهما يفيد حرمة شيء، والآخر يفيد إباحته،
فإن الأول - وهو ما يفيد الحرمة - يرجح؛ لأمور:
أولها: أن في ترجيح لحرمة تقديماً للتأسيس على التأكيد؛ حيث
إن تقديم المباح على الحرمة تبع للأصل، وهو أن الأصل في الأشياء
الإباحة، فيكون الدليل لم يفد شيئا، بل أفاد نفس ما أفادته الإباحة
الأصلية، فيكون جاء للتأكيد، فيكون تقديم المفيد للتحريم أوْلى؛
نظراً لقاعدة تقديم التأسيس على التأكيد.
ثانيها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال ".
ثالثها: أن العمل بمقتضى الحرام أحوط؛ لأن ملابسة الحرام توقع
في الإثم، بخلاف ملابسة المباح فلا توجب ذلك.
الطريق السادس: ترجيح مثبت الطلاق والعتالتى على نافيهما.
إذا تعارض حديثان أحدهما نافي للطلالتى والعتاق، ومبقي لعصمة
الزوجية ولقيد العبودية، والثاني: موجب لتحقق الطلاق ورفع
العصمة، أو العتاق، ورفع العبودية، فإنا نرجح الثاني - وهو:
تحقق الطلاق والعتاق، ورفع العصمة وملك اليمين -؛ لأمرين:
أولهما: أن الأصل عدم القيد من العصمة والرق.
ثانيهما: أن المثبت عنده زيادة علم لا توجد عند النافي.
الطريق السابع: ترجيح الأشد على الأخف.
إذا تعارض دليلان: أحدهما: يفيد حكما أخف، والآخر يفيد
حكماً أشد وأشق: فقد اختلف العلماء في أيهما الرجح على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يرجح الخبر الأثقل الأشد.
وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن زيادة شدته ومشقته وثقله تدل على تأكد
المقصود، وفضله على الأخف الأيسر، فالمحافظة عليه أوْلى.
الدليل الثاني: أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لمصالح العباد،
ومصلحة العباد في الأشق والأثقل؛ لأنها أكثر أجرأ كما ورد عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "ثوابك على قدر نصبك "،
وفي رواية: " إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك ".
المذهب الثاني: أنه يرجح الدليل الأخف على الأشد.
وهو مذهب تاج الدين الأرموي، وتلميذه البيضاوي.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن مبنى الشريعة على التخفيف؛ لقوله تعالى:
(الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) .
جوابه:
لا نسلم ذلك، بل إن الشريعة مبنية على ما يقتضيه مصلحة
العباد، ودفع المفسدة عنهم، وهذا يكون في الأشد والأغلظ والأخف
والأيسر، ثم إن الآية نزلت في حالة خاصة - وهي التخفيف في
القتال - فلا يستدل بها على إثبات قاعدة عامة.
الدليل الثاني: أن التغليظ فيه ضرر، والضرر مزال عنا؛ لقوله
صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ".
جوابه:
لا نسلم أن التغليظ فيه ضرر، بل إن التغليظ إذا ورد فيه دليل
صحيح، فإن فيه مصلحة كما بينا فيما سبق.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي له ثمرة كما هو واضح.
الطريق الثامن: ترجيح الخبر المحرم على الخبر - المفيد للكراهة.
إذا تعارض دليلان: أحدهما يفيد حرمة شيء، والآخر يفيد
كراهته: فإنه يرجح الأول - وهو المفيد التحريم -؛ لأن مفسدة
الحرمة أشد من مفسدة الكراهة، فلذلك يرجح ما يفيد الحرمة احتياطا.
***
المسألة الخامسة: طرق الترجيح التي ترجع إلى أمر خارجي:
الطريق الأول: الترجيح بموافقة القرآن.
إذا تعارض خبران، وأحدهما قد وافقته آية من الكتاب، دون
الأخر: فإتا نرجح الأول - وهو الموافق للآية -؛ لأن الآية قد
أفادت زيادة قوة في الظن في الخبر.
الطريق الثاني: الترجيح بموافقة السُّنَّة.
إذا تعارض خبران، وأحدهما يوافقه حديث آخر، دون الخبر
الآخر، فإنه يرجح الأؤل - وهو الموافق لحديث آخر -؛ لأن
الحديث الآخر قد أفاد زيادة قوة في الظن في الخبر الموافق له.
الطريق الثالث: الترجيح بموافقة القياس.
إذا اتفق خبران في كل شيء، إلا أن أحدهما قد وافقه قياس،
دون الآخر، فإنه يرجح الأول - وهو الموافق للقياس -؛ لما قلناه؛
لأن القياس قد أفاد زيادة قوة في الظن في الخبر الموافق له.
الطريق الرابع: الترجيح بالعمل به.
إذا تعارض خبران في كل الوجوه، إلا أن أحدهما قد عمل
الصحابة أو التابعون، أو أهل العلم بمقتضاه، والآخر لم يعمل به
هؤلاء، فإنه يرجح الأول - وهو الخبر المعمول به؛ لأمرين:
أولهما: أن عملهم به يدل على أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيهما: احتمال أن عملهم به لقوته، وعدم عملهم بالآخر
لضعفه.
الطريق الخامس: الترجيح بتأخر الوقت.
إذا تعارض خبران، وأحدهما قد اقترنت به قرائن تدل على تأخر
وقته، ولم يقترن بالآخر ما يدل على ذلك: فإنه يرجح الأول -
وهو: ما دلت قرائن على أنه متأخر -؛ لأن المتأخر يكون هو آخر
الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب العمل به فيكون ناسخا للأول
والقرائن هى:
أولاً: كون إحدى الروايتين مؤرخة بتأريخ مضيق، بخلاف
الآخر، فتكون الرواية غير المؤرخة هي الراجحة، لاحتمال تأخرها
في الغالب.
ثانياً: كون إحدى الروايتين ذكر فيها مكة، والأخرى ذكر فيها
المدينة، فإن ما ذكر فيها المدينة مرجح على الأخرى، نظراً لتأخرها.
ثالثاً: أن يعلم أن أغلب رواية أحدهما بعد رواية الآخر غالبا،
فيرجح المتأخر.
الطريق السادس: الترجيح باشتمال الخبر على زيادة.
إذا تعارض خبران، وأحدهما فيه زيادة لا توجد في الآخر: فإنه
يرجح الخبر الذي اشتمل على الزيادة؛ لأمور:
أولها: أن الراوي الذي في خبره الزيادة عنده زيادة علم لا توجد
عند غيره.
ثانيها: أن دلالة الحديث الذي فيه زيادة دلالة ناطق، ودلالة
الحديث الآخر دلالة ساكت، ودلالة الناطق مقدمة.