الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمثلةٌ لما "يُحْصِيهِ" النّاقِدُ:
فالنّاقِدُ يدْأبُ في التِّرْحالِ، والسماع، والكتابة، والتصنيفِ، والانتخابِ، على نحو ما سبق، ويُولِي عنايتهُ أثناء ذلك لأمور: منها:
1 - حصْرُ أحاديث من تدورُ عليهم الأسانيدُ في البلدان
. وذلك بأن يجمع الناقدُ أحاديث كُلِّ واحدٍ منهم، مُبوِّبًا ذلك على شيوخه وتلاميذه.
قال عليّ بن المديني (1): "نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة: الزهري، وعمرو ابن دينار، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، وأبي إسحاق -يعني الهمداني- وسليمان الأعمش.
ثم صار علمُ هؤلاء الستةِ إلى أصحاب الأصْنافِ، فمِمّنْ صنّف من أهل الحجاز: مالكُ بن أنس، وابنُ جريج، ومحمدُ بن إسحاق، وسفيان بن عيينة.
ومن أهل البصرة: شعبةُ، وسعيدُ بن أبي عروبة، وحمادُ بن سلمة، ومعْمر، وأبو عوانة.
ومن أهل الكوفة: سفيانُ الثوري.
ومن أهل الشام: الأوزاعيُّ.
ومن أهل واسط: هُشيمٌ.
ثم صار علمُ هؤلاء الاثني عشر إلى ستةٍ: إلى يحيى بن سعيد -يعني القطان- وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن أبي زائدة، ويحيى بن آدم، وعبد الله بن المبارك". اهـ.
فكان الناقدُ يحفظ أحاديث كُلٍّ من هؤلاء، من طريق تلامذتهم الملازمين لهم، المعروفين بهم، وكان لبعض هؤلاء نسخٌ وصحائفُ بأحاديثهم التى حدّثُوا بها، بحيثُ يستطيع الناقدُ عن طريق هذا "الإحصاء" الدقيق لحديث كُلٍّ منهم أن يقُول
(1)"تقدمة الجرح والتعديل"(ص 234 - 235)، وهو في كتاب "العلل" لابن المديني (ص 36 - 40) بأطول مما هنا.
فيما يُعْرضُ عليه: هذا ليس من حديث فلان -أو هو غريب من حديث فلان- أو لا يجيء من حديث فلان.
أو هو من حديث فلان لكن بإسناد آخر، أو بهذا الإسناد لكن بمتنٍ آخر، وهكذا.
ويحكمُ الناقدُ بهذا على راوي ذاك الحديث بالوهم في روايته، وقد يكون هذا الراوي ثقة، ولكنّ حفظ الناقد -وهو فوق الثقة بلا شك- أوْلى من حفظ غيره، لأنه يعتمد على "الحصر" و"الإحصاء".
قال أبو حاتم (1): "صليت بجنب يحيى بن معين فرأيت بين يديه جزءًا. فطالعته، فإذا: "ما روى الأعمش عن يحيى بن وثاب أو عن خيثمة -شك أبو حاتم- فظننتُ أنه صنف حديث الأعمش". اهـ.
معنى ذلك أن ابن معين كانت عنده أحاديث الأعمش مصنفةً بحسب مشايخه، وهذا "حصْرٌ" لأحاديث الأعمش بصورة دقيقةٍ مُتْقنةٍ، وقِسْ على ذلك أحاديث غيره، وكذا صنيع غالب النُّقّادِ.
وقال علي بن الحسين بن الجنيد (2): ما رأيتُ أحدًا أحفظ لحديث مالك بن أنس لمسنده ومنقطعه من أبي زرعة. فقال له ابن أبي حاتم: ما في الموطأ والزيادات التي ليست في الموطأ؟ فقال: نعم". اهـ.
وقال أبو زرعة (3): "نظرت في نحو من ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر وفي غير مصر ما أعلم أني رأيت له حديثًا لا أصل له". اهـ.
(1)"تقدمة الجرح والتعديل"(ص 315).
(2)
"تقدمة الجرح والتعديل"(ص 331).
(3)
نفسه (ص 335).
وقال أبو زرعة أيضًا (1): "خرجتُ من الرّيِّ المرّة الثانية سنة سبع وعشرين ومائتين، ورجعتُ إلى مصر، فأقمت بمصر خمسة عشر شهرًا، وكنت عزمتُ في بدو قدومي مصر أني أُقِلُّ المُقام بها، لما رأيتُ كثرة العلم بها وكثرة الاستفادة، عزمتُ على المُقام، ولم أكن عزمتُ على سماع كتب الشافعيِّ، فلما عزمتُ على المُقام وجهتُ إلى أعْرفِ رجل بمصر بِكُتُبِ الشافعي، فقبلتُها منه بثمانين درهمًا أن يكتبها كلها، وأعطيتُه الكاغِد، وكنتُ حملتُ معي ثوبين. لأقطعهما لنفسي، فلما عزمتُ على كتابتها، أمرتُ ببيعهما، فبِيعا بستين درهمًا، واشتريتُ مائة سرقة كاغد بعشرة دراهم، كتبتُ فيها كُتُب الشافعي .. ".
فانظر إلى نفقته في "إحصاءِ" كُتُبِ الشافعي.
وقال ابن أبي حاتم (2): "سمعنا من محمد بن عُزيْز الأيلي الجزء السادس من مشايخ عُقيْل، فنظر أبي في كتابي، فأخذ القلم فعلّم على أربعةٍ وعشرين حديثًا؛ خمسة عشر حديثًا منها متصلة بعضها ببعض، وتسعة أحاديث في آخر الجزء متصلة، فسمعته يقول: ليست هذه الأحاديث من حديث عُقيْل عن هؤلاء المشْيخةِ، إنما ذلك من حديث محمد بن إسحاق عن هؤلاء المشْيخةِ.
ونظر إلى أحاديث عن عُقيْل عن الزُّهريّ، وعُقيْل عن يحيى بن أبي كثير، وعُقيْل عن عمرو بن شعيب ومكحول، وعُقيل عن أسامة بن زيد الليثي فقال: هذه الأحاديث كلها من حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، والأوزاعي عن نافع، والأوزاعي عن أسامة بن زيد، والأوزاعي عن مكحول، وإن عُقيْلًا لم يسمع من هؤلاء المشْيخةِ هذه الأحاديث". اهـ.
فتدبّرْ قول أبي حاتم: "ليست هذه الأحاديث من حديث عُقيْل عن هؤلاء المشيخة .. " مِنْ أين كان يتأتى له أن يجزم بذلك إن لم تكن أحاديثُ عُقيل مجموعةً
(1)"تقدمة الجرح والتعديل"(ص 340).
(2)
"تقدمة"(ص 352).