الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنتقى من الفوائد الصبيحية المستخرجة من حواشي النكت الجياد
1 -
من المعلوم من طريقة الأئمة أنهم يذكرون في ترجمة الرجل: الأقدم فالأقدم من شيوخه، وقد يقدمون الأفضل وإن لم يكن هو الأسَنَّ (ص 157).
2 -
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف لا يُدْفع عن إدراك عمر ورؤيته، لكنه كان في سنٍّ لا تحتمل السماع والحفظ (ص 157 - 158).
3 -
كون الرجل صدوقًا في الأصل، صالحًا في نفسه، لا يدفع عنه الوقوع في الكذب خطئًا، إن لم يقع فيه عمدًا. وصدق القائل:"لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث". يعنى: الكذب خطئًا ووهمًا وغفلةً وتلقينًا ونحو ذلك (ص 187).
4 -
أما كونه -أعني: أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين- عالمًا بالحديث، فقد وصفه ابن يونس بأنه من حفاظ الحديث وأهل الصنعة، لكنه لم يصرح بتوثيقه، ومسلمة بن قاسم مجروح فلا يقبل منه تفرده بتوثيقه، وتوثيقُه مُعَارَضٌ بتضعيف ابن عديّ، بل وتكذيب أحمد بن صالح -فيما حكاه ابن عدي-، ثم إن الرجل له مناكير يتفرد بها، ولم يوثقه مُعْتَبَرٌ، فقول ابن أبي حاتم -سمعت منه بمصر، ولم أحدث عنه لما تكلموا فيه- مما يقوي الحكم عليه بالضعف، والله تعالى أعلم (ص 192).
5 -
لا يخفى على الممارس أن الحديث إذا لم يخرجه أصحاب الكتب الأصول المعتمدة عند أهل العلم، ولم يخرج إلا في مثل كتاب عبد بن حميد وابن لال وابن النجار، كان دليلًا على وهنه ونكارته، فأرى أن البخاري أشار إلى وهن إسماعيل بن رافع القاص أبي رافع المدني بإيراد هذا الحديث:"لا يقبل الله سبحانه لشارب الخمر صلاة ما دام في جسده منها شيء". في ترجمته من "التاريخ"(ص 216).
6 -
في نقولات الترمذي عن البخاري مواضع مشكلة، قد نظر فيها بعض النقاد من أهل العلم، سترى التنبيه على بعضها في هذا الكتاب (ص 216).
7 -
ليس من شرط الثقة ألا يخطىء، لكن هذا فيمن اتفق على توثيقه أو ترجح، أما من لم يوثقه أحدٌ، فلا يدخل فيمن يحتمل الأئمة بعض أخطائهم (ص 238).
8 -
أخطاء الرواة منها ما هو محتمل، ومنها ما يدل على وهن الراوي، كما قيل: هذا من الباب الذي يقال فيه: "حديث أسقط ألف حديث" ثم إن هذا الأمر مخصوص بنظر النقاد (ص 238).
9 -
يكفي في الحكم على الرجل النظرُ في بعض أحاديثَ له، قد وافق فيها الثقات، والحكم عليها بالاستقامة، مع عدم الاعتداد بتليين من ليَّنَهُ من أهل العلم؛ لأن كما أنه ليس من شرط الثقة ألا يخطىء، فكذلك ليس من شرط الضعيف ألا يصيب، فاستقامة بعض أحاديث الرجل لا تدل على ثقته -إذا ثبت التضعيف- والله الموفق (ص 238).
10 -
اعتماد مسلم على ما يصدّر به الباب؛ لأنه ذكر أنه يورد أولًا الطرق الأسلم من العيوب، وإذا اعتبرنا ما أُخِّر تخريجُه متابعٌ للأول، وما أُتْبع بغيره في معنى المتابعة، لم يَصِرْ هناك فرق واضح بين ما قُدِّم في الباب وما أُخِّر، راجع ترجمة مسلم في القسم الثاني من هذا الكتاب (ص 240).
11 -
محمد بن حميد الرازي متهم، فروايته عن غير معروف كالسراب (ص 242).
12 -
حفص بن سليمان الأسدي الكوفي القارىء صاحب عاصم بن أبي النجود: هو في نفسه صالح، وفي القراءة إمام صاحب قراءة لا ينازع في ذلك، وأما في الحديث فمتروك ليس بشيء البتة (ص 281).
13 -
الذي أُراه أن التشيع لا يثبت عن الحكم بن عتيبة (ص 283).
14 -
في نسبة حماد بن أسامة إلى التدليس نظر؛ فقد حمل عنه الأئمة واحتجوا به مطلقًا، ووثقوه وثبتوه، ولم يذكره أحدٌ منهم بشيء من التدليس (ص 285).
15 -
مما يحسن التنبيه عليه: ما وقع من الأستاذ/ نور الدين عتر في تعليقه على كتاب "شرح علل الترمذي" من الإغراب في تصور معنى كلام للحافظ ابن رجب:
فقد قال ابن رجب (2/ 679): "ذِكْرُ من حَدَّث عن ضعيف وسماه باسم ثقة".
وأورد ما وقع لأبي أسامة، ومثله لحسين الجعفي، ولزهير بن معاوية، ولأبي بلج الواسطي، ولجرير بن عبد الحميد، ولأهل الشام عن زهير بن محمد.
وبيَّن ابن رجب أخطاء هؤلاء في تسمية بعض شيوخ لهم، فأبو أسامة وحسن الجعفي أخطئا في عبد الرحمن بن يزيد فجعلاه: ابن جابر، وإنما هو: ابن تميم.
وزهير بن معاوية انقلب عليه اسم: صالح بن حيان، فجعله: واصل بن حيان، ولم يوصف زهير بتدليس أصلًا.
وأبو بلج الواسطي أخطأ في اسم عمرو بن ميمون وليس هو ذاك المشهور، وإنما هو ميمون أبو عبد الله مولى عبد الرحمن بن سمرة وهو ضعيف. ونحو ذلك الباقون، وليس في هذا الباب ذكر التدليس، وإنما هي أوهام وأخطاء، إلا ما كان من قول ابن نمير في أبي أسامة، وقد سبق الجواب عليه.
ثم قال ابن رجب بعد ذلك (2/ 690): "ذِكْرُ من روى عن ضعيف وسماه باسم يتوهم أنه اسم ثقة".
فزاد في العنوان هنا لفظ الإيهام، وهو شرط التدليس، ثم ذكر ما وقع من: عطية العوفي، والوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد، وحسين بن واقد.
وبَيَّن ابن رجب تدليس هؤلاء -وبخاصة الثلاثة الأُوَل- لبعض أسامي شيوخهم.
فأما عطية فكان يأخذ عن الكلبي التفسير -والكلبي كذاب- ويكنيه بأبي سعيد، يوهم أنه أبو سعيد الخدري الصحابي.
وأما الوليد بن مسلم فكان يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الدمشقي -وهو ضعيف جدًّا- ويكنيه بأبي عمرو، موهمًا أنه أبو عمرو الأوزاعي الإمام.
وأما بقية بن الوليد فكان ربما روى عن سعيد بن عبد الجبار الزبيدي، أو زرعة بن عمرو الزبيدي -وكلاهما ضعيف الحديث- فيقول فيه: نا الزبيدي، موهمًا أنه محمد بن الوليد الزبيدي الثقة صاحب الزهري.
ثم ذكر ابن رجب ما يتعلق بمن كان يدلس تدليس التسوية، بعد ذكره تدليس الشيوخ.
أقول: واضح مما سلف من سياق ابن رجب أنه قرن بين صورتين تتشابهان في إبدال اسم راوٍ بغيره، لكن افترقا في القصد، فأولاهما محمولة على الخطأ، والثانية محمولة على التدليس.
لكن الأستاذ/ نور الدين عتر قد حمل الصورتين على تدليس الشيوخ، وقد بان بحمد الله الفرق بين الصورتين، والله تعالى الموفق (ص 288).
يتبين مما سبق براءة أبي أسامة من التدليس، وأنه لم يثبت في حقه اتهامه بذلك، ولا ما يخدش في روايته البتَّة (ص 289).
16 -
سوء حفظ حماد بن سلمة بأخرة لا يُعطي معنى التغير الاصطلاحي، إلا أنه يفيد في اختلاف حاك حماد بأخرة (ص 292).
17 -
توثيق أحمد بن صالح المصري وأبي زرعة الدمشقي لخالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الهمداني لا يعتمد عليه؛ فقد أسند ابن عساكر في "تاريخه"(5 / ق 567 - الظاهرية) إلى أبي زرعة الدمشقي -من غير طريق أبي الميمون
البجلي راوي التاريخ عن أبي زرعة- قال أبو زرعة في ذكر نفر ثقات: خالد بن أبي مالك، بلغني عن أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين أنه قال:"سألت أحمد بن صالح فقلت له: خالد بن يزيد بن أبي مالك، ثقة؟ فقال: نعم". اهـ.
ففي الاعتداد بهذا النقل نظرٌ من وجوه:
أولًا: ذِكْرُ أبي زرعة لخالد في نفرٍ ثقاتٍ إنما بناه على ما حكاه عن أحمد بن صالح، وسيأتي ما فيه.
ثانيًا: لم يُبَيِّنْ أبو زرعة مَنْ بَلَّغَهُ عن أحمد بن رشدين، وفي الاعتداد بهذا البلاع مقابل ما استفاض عن الأئمة من تضعيف خالد نظرٌ كبير.
ثالثًا: أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين -وسبقت ترجمته- ضعيف، بل نقل ابن عدي في "الكامل" قصة فيها تكذيب أحمد صالح المصري له، فلا يمكن التعويل على ما حكاه هنا -إن صح عنه- كما تقتضيه قواعد أهل الفن في قبول أقوال الجرح والتعديل.
وأما العجلي فحاله في التوثيق معلوم.
والظن بالشيخ المعلمي رحمه الله أنه لو اطلع على ما سبق لما عَوَّل عليه، وأنه إنما اعتمد على نقل المتأخرين توثيق أبي زرعة وأحمد بن صالح لخالد بن يزيد، دون إيراد إسناد هذا التوثيق عند ابن عساكر، لأن من منهج المعلمي اعتبار أسانيد الجرح والتعديل كما هو واضح في مؤلفاته، وسيأتي تأصيل هذا المنهج في قسم القواعد من كتابنا، إن شاء الله تعالى.
والمقصود أن ما ورد من توثيق أبي زرعة وأحمد بن صالح لخالد لا تقوم به الحجة من حيث النقل، ولا يصلح أن يكون خادشًا في اتفاق الأئمة على ضعف خالد وطرحه.
وأما ابن عدي فكلامه محمول على نحو كلام ابن حبان، وهو أنه صدوق في الأصل، وأن ما في رواياته من الضعف فمما يحتمل، فلا يسقط أو يترك لأجله، وإن كان هو في نفسه ضعيف لا يحتج به، لا سيما وفي أسانيد بعض ما استُنكر عليه ضعفاءُ غيره، فرأى ابن عدي أنه بريء من ذلك، وأن البلاء فيه من غيره.
لكن إذا كان هذا هو اجتهاد ابن عدي ونحوه ابن حبان في حال خالد بن يزيد، فإن الأئمة المتقدمين هم أعلم وأمكن وأقرب إلى خالد وأدرى بحقيقة حاله (ص 304).
18 -
لم يخرج لخليفة بن خياط أحدٌ من أصحاب الكتب الستة سوى البخاري، فإنه أخرج له مواضع قليلة، مقرونًا أو تعليقًا أو بلفظ:"قال لي خليفة". ونقل الترمذي عنه قوله: "مقارب الحديث" وهذا وذاك إنما يدل أنه عنده صدوق في الأصل، إلا أنه لم يحتج به في شيء من الصحيح.
وخليفة إنما مَشَّاهُ ابن عدي وابن حبان، وحملوا أحاديثه على الاستقامة.
والصواب في شأنه ما قاله أئمة النقد من المتقدمين، فقد رأوه وخبروا أمره، ووَهنوه في الحديث، مع الاعتراف له بعلم التاريخ وطبقات الناس وأنسابهم، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا. تراجع الحاشية هناك ففيها بيان هذا الصواب (ص 307 - 308).
19 -
الذي يتحصل من مجموع كلام الأئمة وصنيعهم، أن داود بن الحصين كان في نفسه لا بأس به، روى مالك عنه عن غير عكرمة أحاديث مستقيمة، استشهد ببعضها صاحبا الصحيح، وهذا مما يدل على أنه كان صدوقًا، لكن كلام أبي زرعة وأبي حاتم وغيرهما يدل على أن في حفظه لينًا، فتجتنب انفراداته، وما رواه عن عكرمة، وما رواه عنه الضعفاء (ص 312).
20 -
الشيخان لم يحتجَّا من رواية زيد بن أسلم عن ابن عمر، إلا بما ثبت سماعه منه، أو تابعه عليه غيره (ص 333).
21 -
سالم بن عجلان الأفطس قد وثقه الأئمة وصدَّقوه وسُبرت أحاديثه فوجدت نقية -كما قال أبو حاتم- ولم يُنْكر علية شيء منها، وقد احتج به البخاري في موضع (5680، 5681)، وأخرج له في موضع آخر (2684) متابعةً.
ومثل هذا لا يضره الإرجاء ولا ما ذُكر من ممالأته على قتل إبراهيم الإمام بحبسه عنده -إن صح هذا الاتهام- فالعبرة بقبول الأئمة له واحتجاجهم به، فهم أقرب إلى سالم، وأَدْرَى بحقيقة الحال (ص 335).
22 -
سلمة بن الفضل الأبرش على ضَعْفه ووَهَنِه، فقد ثَبَّتُوه في ابن إسحاق، قال الحسين بن الحسن الرازي عن يحيى بن معين: ثقة كتبنا عنه، كان كَيِّسًا، مغازيه أتمُّ، ليس في الكتب أتم من كتابه.
وقال علي بن الحسن الهسنجاني عن ابن معين: سمعت جريرًا يقول: ليس من لدن بغداد إلى أن تبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق من سلمة بن الفضل "الجرح"(4 / ت 739).
أقول: لكن هذا في المغازي خاصَّة -كما في رواية الحسن، وأمَّا حديث "الفوائد":"إن لله ديكا عنقه منطوية تحت العرش .. " فلا علاقة له بالمغازي (ص 349).
23 -
الكذاب إذا روى عمن لا يعرف، فهو كالعَدَم (ص 350).
24 -
مَنْ أكثر عَنْ شيخٍ حتى كاد أن يستوعب ما عنده من الحديث، فإنه ليس بحاجة إلى التدليس عنه، فإن ما عنده عنه يكفيه ويُغنيه عن مثل هذا، وإنما ربما دلَّس عمن فاته أكثرُ حديثه، فاحتاج إلى الرواية عنه بواسطة، ثم يُسقط تلك
الواسطة، ويدلس عن ذاك الشيخ؛ تكثرًا من الرواية عنه مباشرة، ولأسباب أخرى معروفة.
لكن لا يخفى أن هذا أمرٌ أَغْلَبِيٌّ، والرجل إذا كان مدلِّسًا، وأكثر عن فلانٍ من الناس، ولم يقل: أنا لا أُدَلِّسُ عنه، فإنه لا يمتنع أيضًا أن يسمع عنه حديثًا بواسطة، فيدلسه؛ استحياءً أن يحدث عنه بواسطة مع ما عرف عنه من اختصاصه به وإكثاره عنه، ولأسباب أخرى لا تقضي العادة بامتناعها.
فهذا المدلِّس وإن كان الأصل في روايته عن شيخه ذاك أنه سمع منه، فهو كمثل سائر القضايا الحديثية أنها أَغْلَبِيَّةٌ، فإذا قيل: فلان ثقة ضابط متقن، لم يخدش في هذا القولِ خطؤه في أحاديث قليلة بالنسبة إلى كثرة ما روى. وإذا قيل: فلان أثبت من فلان في شيخ معيَّن، لم يُطعن في ذلك بانعكاس القضية في بعض الأحوال إذا قامت القرائن على ذلك، وهذا أمر مستفيض ودلائله منتشرة في صنيع الأئمة (ص 358).
25 -
الناقد إذا استنكر خبرًا، أو وجده مباينًا لما صح واستقر بخلاف معناه، نظر في إسناده مستحضرًا الأحوال التفصيلية لرواته، ويَنْفُذُ في تعليله من خلال مواطن الخلل فيه، معتمدًا على القرائن المعتبرة في كل حالة (ص 359).
26 -
ربما أعلَّ الناقدُ الخبر بعلَّةٍ يندر وقوع مثلها، إذا ساعدت القرائن على ذلك، والنادرُ قد يُحتاج إليه.
ففيما نقلته آنفًا عن البخاري في "تاريخه الأوسط" مثال عمليّ على ذلك، فإنه لما استنكر الخبر، وقال: قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معاوية أميرًا في زمان عمر، وبعد ذلك سنين، فلم يقم إليه أحدٌ فيقتله، واستدل بهذا على وَهَن الأخبار الواردة في ذلك، وأن ليس لها أصول، فنظر في رواية الأعمش عن سالم؛ والأعمش مدلِّس ولم يصرح بالسماع، والخبر في التشيع، فلعلَّه سمع
الخبر من أحدِ المغفلين ممن ينتسبون إلى التشيع، ممن يُلَقَّنُ أو يُدْخَلُ عليه، فدلَّسَه عنه، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن رواية الأعمش عن سالم -وهو ابن أبي الجعد- محتج بها في الصحيحين، ومخرجة في سائر الكتب الستة، ولم أر من نصَّ على أن الأعمش يدلس عن سالم؛ كما نصوا على تدليسه عن غير واحدٍ من شيوخه، لكن لم يجد البخاري -وهو الخبير الحصيف- بُدًّا من هذه العلّة لقيام القرائن عليها، ولو لم يعلّ البخاري بها إلا هذا الخبر لما قيل له: هذا أمر نادر لا يُعَوَّل عليه؛ لأن احتمال التدليس قائم، لا يُدْفع بندرته (ص 359).
27 -
كل مدلس لم يصرح بالسماع، فاحتمال تدليسه قائم، ويشتد هذا الاحتمال ويضعف بحسب القرائن المحتفة به وبمن روى عنه (ص 359).
28 -
قول الذهبي في ترجمة الأعمش من "الميزان"(2/ 224). "هو مدلس، وربما دلس عن ضعيف، ولا يدري به، فمتى قال: "حدثنا" فلا كلام، ومتى قال: "عن" تطرّق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخٍ له أكثر عنهم: كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان؛ فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال". اهـ.
لا يدفع ذلك احتمال تدليس الأعمش عن هؤلاء الذين سماهم من شيوخه، وإن كان احتمالا قليلًا، لكن لا يمتنع التعلق به إذا انقدح في ذهن الناقد وبصره التعليل به؛ للقرائن المحتفة بالخبر.
ومما يؤيد ما يتعلق برواية الأعمش عن مثل هؤلاء الثلاثة الذين أكثر عنهم، ما رواه ابن أبي حاتم في "تقدمة الجرح والتعديل"(ص 167) من طريق أبي داود الطيالسي، قال:"نا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم: أن عليًّا كان يجعل للأخوة من الأم - يعني في المشتركة. فقلت للأعمش: سمعته من إبراهيم؟ فقال برأسه، أي: نعم". اهـ.
فلم يمنع إكثار الأعمش عن إبراهيم أن يسأل شعبة عن سماعه منه؛ احتمالًا لوقوع التدليس.
وفي "التقدمة" أيضًا (ص 72): "قال علي بن المديني: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: قال سفيان -يعني الثوري-: إن الأعمش لم يسمع حديث إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الضحك في الصلاة". اهـ. فقد دلسه عن إبراهيم. وانظر لزامًا: "جامع التحصيل"(ص 189 - 190).
وفيها أيضًا (ص 71): "قال زائدة: كنا نأتي الأعمش فيحدثنا فيكثر، ونأتي سفيان الثوري فنذكر تلك الأحاديث له، فيقول: ليس هذا من حديث الأعمش، فنقول: هو حدثنا به الساعة، فيقول: اذهبوا فقولوا له إن شئتم، فنأتي الأعمش فنخبره بذلك، فيقول: صدق سفيان، ليس هذا من حديثنا". اهـ.
فعلَّق العلَّامة المعلمي في حاشية "التقدمة"(ص 70) بقوله: "كان الأعمش رحمه الله كثير الحديث، كثير التدليس، سمع كثيرا من الكبار، [أقول: كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح] ثم كان يسمع من بعض الأصاغر أحاديث عن أولئك الكبار، فيدلسها عن أولئك الكبار، فحديثه الذي هو حديثه هو ما سمعه من الكبار، فمعنى قول سفيان "ليس هذا من حديثها" أنه ليس من حديثه عمن سَمَّاهُ، وإنما سمعه من بعض من دونه فدلسه". اهـ. (ص 359).
29 -
اعلم أن صيغ الأداء في الأسانيد مما اعتنى به الأئمة فكانوا يضعونها تحت النظر والنقد، ولابد أن يصح الطريق لقائل الصيغة أولًا حتى تثبت عنه، ثم لابد أن تتوفر فيه هو شروط قبول الرواية المعتبرة حتى يقبل منه تصريحه بالسماع من شيخه، خشية أن يكون قد وهم في ذلك، وهذا من دقائق هذا العلم، ومما يُرجع فيه أولًا وأخيرًا لأئمة النقد.
ولهذا أمثلة معروفة لأهل الفن، من ذلك: أن أصحاب الزهري قد اتفقوا على رواية حديث عنه عن سعيد بن المسيب، لم يصرح الزهري بسماعه فيه من ابن المسيب. وخالفهم أسامة بن زيد الليثي -وهو ضعيف- فرواه عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب. حكى عمرو بن علي الفلاس أن يحيى القطان قد ترك أسامة بسبب ذلك. انظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 210). (ص 367).
30 -
من المعلوم أن ما مِنْ "ثقة" إلا وربما أخطأ، أو خالف، أو أغرب، فالنَصُّ على ذلك إنما يفيد عند إرادة الترجيح بين من قيل فيه ذلك، ومن لم يُقَلْ فيه (ص 373).
31 -
لم يصف شريك بن عبد الله القاضي بالتدليس أحد من الأئمة المتقدمين، وفي القلب شيء من الاعتماد على مجرد وصف مَنْ بعدهم له بذلك -مع تبرئه منه- إلا بِبَيِّنَةٍ (ص 377).
32 -
الراوي الوسط أو من فيه مقال، بل والثقة أحيانا، لا يكون حاله في كل حديثه سواء، بل يتردد بين الصواب والخطأ بحسب درجته من الضبط، ومردُّ ذلك إلى النقاد من أهل هذا الفن، وأمَّا أهل العصور المتأخرة فمولعون بإطلاق التقويمات المعروفة، والحكم على أحاديث الرجل بناءً على ما التصق به من التقويم، فالثقة حديثه صحيح أبدًا، والصدوق حديثه حسن يحتج به، وهكذا، دون النظر في الأحوال التفصيلية للرواة، ولا للقرائن المُحْتَفَّة بالخبر (ص 389).
33 -
عبد الله بن زياد بن سمعان كَذَّبَهُ: هشام بن عروة، ومالك بن أنس، وابن إسحاق، وإبراهيم بن سعد، وابن معين، وأحمد بن صالح المصري، وأبو داود السجستاني، وغيرهم.
وقال البخاري: "سَكتوا عنه" - وهو لا يقولها إلا فيمن لا تحل الرواية عنه، وقال أبو حاتم:"سبيله سبيل الترك"، وتركه جماعة.
وأما توثيق ابن وهب له ففيه بحث، وعلى كل حال، لو فرضنا ثبوت هذا التوثيق عن ابن وهب، فابن وهب كان من المكثرين، ولم يُعرف عنه التوقي في انتقاء مشايخه، وكان حسن الظن بابن سمعان، وكان يجالسه ويأخذ عنه، كما كان بعض الأئمة والثقات يجالسونه ويأخذون عنه، إلا أنه قد تبين لهم ما لم يتبين لابن وهب، فمنهم من صرح بكذبه ومنهم من تركه.
وابن وهب لم يُعرف بتتبع أحوال الرواة ونقدهم كما عُرف غيره ممن كشف حقيقة ابن سمعان وطعن فيه، فهذه واقعة واحدة، دَلَّس فيها ابنُ سَمعان تدليسًا فاحشًا، فحدث عمن لا وجود له، واستعار له هذا الاسم المخترع، فعدَّه أحمد بن صالح كذبًا، ومَشَّاه ابن وهب، مع مراوغة ابن سمعان له حين سأله عنه فقال: لقيته في البحر، ومقتضى ذلك أنه لا سبيل لابن وهب ولا لغيره إلى معرفته أو الوصول إليه!
والحاصل أن ابن سمعان إن لم يكن يضع الحديث وضعًا -كما ظنه أحمد بن صالح، فهو يكذب ويدَّعي سماع أقوام لم يسمع منهم بل لم يرهم- كما قال غير واحد- ويأخذ صحفًا فيرويها من غير سماع، فليس هو بأهل أن يكتب عنه أصلًا، وعلى هذا قول النقاد من أهل العلم -كما سبق النقل عنهم في صدَرْ هذا التعليق- وقول ابن وهب في مثل هذا شذوذ لا يلتفت إليه، والله تعالى أعلم (ص 407 - 409).
34 -
المقصود أن رواية هؤلاء العبادلة عن ابن لهيعة أحسن وأصح من رواية غيرهم عند المفاضلة والترجيح، لا أَنَّهُ يُحْكم على حديثه من روايتهم عنه بالصحة؛ لأن ابن لهيعة في نفسه غير حجة، وإنما يعتبر بما صحَّ أنه حدَّث به من كتابه، وهذا هو مراد الشيخ المعلمي بقوله السابق:"فهو صالح في الجملة".
وقد ختم أبو زرعة كلامه السابق بقوله: وليس ممن يحتج بحديثه.
وختم الفلاس بقوله: وهو ضعيف الحديث.
ويوضح ذلك ويؤكده ما ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح" أيضًا: سألت أبي وأبا زرعة عن ابن لهيعة .. فقالا: ابن لهيعة أمره مضطرب، يكتب حديثه على الاعتبار. قلت لأبي: إذا كان من يروي عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك وعبد الله ابن وهب يحتج به؟ قال: لا". اهـ. (ص 418 - 419).
35 -
ما حدث به ابن أبي الزناد ببغداد، فقد لقنه البغداديون وأفسدوه فصار ما يحدث به ليس من حديثه، أما ما حَدَّث به بالمدينة فهو صحيح: أي هو من حديثه لم يُلَقَّنْهُ، ويبقى النظر في حال ابن أبي الزناد في نفسه، لَا أَنَّ ما حدث به في المدينة فهو حديث صجيح أي يحتج به (ص 439).
36 -
الأئمة لا يعتبرون بما يحدث به الرجل إلا إذا كان من حديثه، لم يُلَقَّنْهُ أو يُدخلْ عليه أو يَدْخلْ له إسناد في إسناد، أو نحوه، ولذلك يميزون أولًا بين ما هو من حديثه الذي سمعه، وبين ما ليس من حديثه، لأنَّ ما ليس من حديثه ريح لا قيمة له، ثم ينظرون في حديثه بالسَّبْرِ والاعتبار وعرضه على أحاديث الثقات. من ذلك ما رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(11/ 48) من طريق القاسم بن عبد الرحمن الأنباري، قال: حدثنا أبو الصلت الهروي، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد العلم فليأت بابه".
قال القاسم: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فقال: هو صحيح.
قال الخطيب: أراد أنه صحيح من حديث أبي معاوية، وليس بباطل، إِذْ قد رواه غير واحد عنه. اهـ.
ومقصود ابن معين فيما رواه القاسم عنه أن الحديث معروف من حديث أبي معاوية، لم ينفرد به أبو الصلت الهروي عنه، بل قد تابعه عليه محمد بن جعفر الفيدي، كما قاله ابن معين في رواية الدوري "تاريخ بغداد"(11/ 50).
أما الحديث في نفسه فاستنكره الأئمة، ومنهم ابن معين نفسه، فقد قال في رواية عبد الخالق بن منصور عنه: ما هذا الحديث بشيء "تاريخ بغداد"(11/ 49) وللعلَّامة المعلمي بحث ممتع حول هذا الحديث في "حاشية الفوائد المجموعة"(ص 349 - 353)، وهو منشور هنا في تراجم البعض مثل: الأعمش، والفيدي وغيرهما (ص 439).
37 -
قولهم في الراوي: "كتابه صحيح" مشعر بأن قي حفظه شيئًا، ومع ذلك فليس معناه أن كل حديث في كتابه هو صحيح يحتج به، وإنما معناه أنه يُنظر في أحاديثه من خلال كتابه، وأما حفظه فلا يُعتمد عليه.
مع الأخذ في الاعتبار أن الكتاب لا يُعْفِي صاحبه من أوجه الخلل المعروفة الناشئة عن سوء الأخذ، والوهم في السماع، وأثناء الكتابة، من التصحيف والتحريف، والأخطاء الواقعة أثناء التحويل من كتاب إلى كتاب، أو الاعتماد على الغير في إدراك ما فات سماعه أو كتابته - إلى غير ذلك من مداخل الخلل في الكتب.
وهذا كله يرجع لحالِ الراوي في نفسه من الإتقان والتحري والضبط والاحتياط واليقظة وغير ذلك (ص 439).
38 -
عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث أبو الحسن التميمي الحنبلي له اشتغال بالفقه والأصول، ولم يوثق، وثبت من طريق حفاظ ثقات أثبات مأمونين أنه وضح حديثين في مسند أحمد، وكتبوا محضرًا بذلك شرحوا فيه حاله، ولم يدفع عنه سوى ابن الجوزي، وفيه تحامل شديد على الخطيب، والرجل حنبلي، فالاحتمالات التي ذكرها ابن الجوزي إنما هي محاولة للتخلص من جرح هذا الرجل الحنبلي، ورَمْي الخطيب بالتعصب ضد الحنابلة، وعلى ذلك فلم يثبت ما يُدفع به هذا الجرحُ، فيتعيّن قبوله، والله تعالى أعلم (ص 453).
39 -
قولهم: "تكلموا فيه" ظاهره الجرح بلا شك، لكن إذا ثبت توثيق من قيل فيه هذا توثيقًا معتبرًا تطمئن النفس إليه، فيقال حينئذٍ: التوثيق مقدم، والجرح غير مفسَّر، فلعله تُكُلِّمَ فيه بكلام لا يضرُّ. أما إذا لم يوثق توثيقًا يعتد به، صار الجرحُ وإن كان غيرَ مفسَّرٍ، محلًا للاعتبار والقبول - والله. تعالى أعلم (ص 483).
40 -
قد أطلق المتقدمون أن عليّا أرسل عن ابن عباس ولم يسمع منه، وممن قال ذلك: ابن معين، ودحيم، وأبو حاتم الرازي، وابن حبان، وأبو أحمد الحاكم، ونقل الخليلي في "الإرشاد"(1/ 394) إجماع الحفاظ على ذلك.
ولم يذكر أحدٌ ممن أسلفنا ذكره ولا غيرهم أن عليًّا إنما حمل تفسير ابن عباس عن مجاهد أو سعيد بن جبير
…
راجع (ص 485 - 486).
41 -
لم أَرَ من ذكر ثابتًا البناني بِتَغَيُّرٍ، إلا ما حكاه مغلطاي في "إكماله" (2 / ق 38) ومثله في "تهذيب ابن حجر" (2/ 3) قالا في "سؤالات أبي جعفر محمد بن الحسين البغدادي لأحمد بن حنبل": سئل أبو عبد الله عن ثابت وحميد أيهما أثبت أنس؟ فقال: قال يحيى القطان: ثابت اختلط وحميد أثبت في أنس منه". اهـ.
وأبو جعفر هذا لعله المترجم في "تاريخ بغداد"(2/ 222)، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 190) ، و"الأنساب" لابن السمعاني (2/ 131) في نسبة البرجلاني فقد ذكر الخطيب أنه روى عن أحمد لكن لم يذكر أحد منهم تلك السؤالات، وعلى كل حالٍ فإني لم أجد من يقرب أن يكون هو المذكور في نقل مغلطاي إلا هذا، فإن كان هو فقد قال الخطيب: بلغني عن إبراهيم بن إسحاق الحربي أنه سئل عن محمد بن الحسين البرجلاني فقال: ما علمت إلا خيرًا. وإن كان غيره فلم أعرفه، وعلى كل حالٍ ففي ثبوت تغير ثابت بهذا النقل عندي وَقْفَةٌ، والله تعالى أعلم (ص 493).
42 -
قد ذكر ابنُ عدي لمحمد بن يونس الجمال حديثين سوى هذا، رواهما الجمَّال بإسنادين وصفهما ابن عدي بأنهما غير محفوظن، أوَّلهُما الذي رواه عنه محمد ابن الجهم السمري، وقال عقبه: ممن يسرق حديث الناس
…
ثم قال ابن عدي: ولمحمد بن يونس أحاديث أخر من طراز ما ذكرت، وهو ممن يسرق حديث الناس.
وابن عديّ من نقاد هذا الفن، وعبارته:"له أحاديث أخر من طراز ما ذكرت" تعني أن الجمال يروي أحاديث سوى ما ذَكر ابن عدي بأسانيد غير محفوظة، فمن أين له بها؟ إما أنه يسرقها ويفتعلها، وإما أنها تُدخل عليه، أو غير ذلك.
فلما روى عن ابن عيينة ما علم ابن عدي أنه إنما ينفرد به حسين الجعفي، انقدح في ذهن ابن عدي -مع اتهام السمري له وهو من الآخذين عنه- أنه قد سرق هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي يروجها بأسانيد غير محفوظة.
ولا يُعرف مخالفٌ لابن عدي فيما رمي به الجمَّال، فمع نَصْبِ ابن عديّ الشواهد على ما قال، فلا محيصَ من إعمال قوله، وعدم الاعتبار بما رواه الجمَّال رأسًا، والله تعالى أعلم (ص 578).
43 -
قد أطلق غير واحد من الأئمة عدم سماع مخرمة بن بكير من أبيه، وأنه إنما يروي من كتاب أبيه، منهم: أحمد، وابن معين، وابن المديني، وابن حبان.
وهو ظاهر صنيع البخاري؛ فقد ذكر في ترجمته من "التاريخ الكبير"(8/ 16) قولَ أحمد: "سمعت حماد بن خالد الخياط قال: أخرج مخرمةُ بن بكير كتبًا، فقال: هذه كتب أبي لم أسمع منها شيئًا"
ولم يخرج البخاري لمخرمة في الصحيح شيئًا.
وتَرَدَّد أبو حاتم فلم يجزم فيه بشيء، فقال (8/ 364):"إن كان سمعها من أبيه فكل حديثه عن أبيه، إلا حديثًا يحدث به عن عامر بن عبد الله بن الزبير".
وقد جاء عن مخرمة التصريح بأنه لم يسمع من أبيه شيئًا:
فقد روى غير واحد عن سعيد بن أبي مريم عن خاله موسى بن سلمة قال: أتيت مخرمة ابن بكير بكتاب أعرضه عليه فقال لي: ما سمعت من أبي شيئًا، وهذه كتبه.
وفي رواية: ما أدركت أبي إلا وأنا غلام (الجرح والكامل وغيرهما).
وأما ما جاء مما يدل على سماعه، والجواب عنه:
أولًا: فقد روى الدولابي عن أحمد بن يعقوب: حدثنا علي بن المديني، قال: سمعت معن ابن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأى سليمان بن يسار.
قال علي بن المديني: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان، لعلَّه سمع الشيء اليسير، ولم أجد أحدًا بالمدينة يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شيء من حديثه: سمعت أبي.
ثانيًا: ما حكاه ابن أبي أويس -وهو إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، ابن أخت مالك بن أنس الإمام- وقد اختلفت ألفاظ الناقلين عنه:
أ- ففي "الجرح"(8/ 364): قال أبو حاتم: قال ابن أبي أويس: وجدت في ظهر كتاب مالك: سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه؟ فحلف لي وقال: ورب هذه البنية -يعني المسجد- سمعت [وفي نسخة: سمعته] من أبي.
ب- وفي "المعرفة والتاريخ" للفسوي (1/ 663): قال إبراهيم بن المنذر: حدثني ابن أبي أويس قال: قرأت في كتاب مالك بن أنس بخط مالك قال: وصلت الصفوف حتى قمت إلى جنب مخرمة بن بكير في الروضة، فقلت له: إن الناس يقولون إنك لم تسمع هذه الأحاديث التي تروي عن أبيك من أبيك؟ فقال: ورب هذا المنبر والقبر لقد سمعتها من أبي. ثلاثًا.
ج- وقال أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه"(1/ 442): حدثني أحمد بن صالح: قال: حدثني ابن أبي أويس قال: رأيت في كتاب مالك بخطه: قلت لمخرمة في حديث: سمعته من أبيك؟ فحلف لَسَمِعَهُ من أبيه.
ثالثًا: قال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا، وهو حديث الوتر (ذكره المزي في "تهذيب الكمال" (27/ 326).
أقول: أما الأمر الأول فقد أجاب عنه ابن المديني، واستبعد هذا السماع، واستظهر بأنه لم يبلغه تصريح مخرمة بالسماع من أبيه في شيء من حديثه.
وأما الأمر الثاني فالظاهر أن الأئمة لم يُعوِّلوا على حكاية ابن أبي أويس؛ لحاله في نفسه مما فيه من الضعف، ووصفه بالغفلة، ولأن له عن مالك غرائب، ولمخالفة حكايته لما جاء عن مخرمة من طرق صحيحة أنه لم يسمع من أبيه شيئًا، ولأن حكايته إنما هي وجادة، وقد اختلف النقل عنه، ففي النص (أ): وجدت في ظهر كتاب مالك. ولم يقل بخطه.
وفي (ب): قرأت في كتاب مالك بخطه.
وفيهما ما ظاهره أن السؤال كان عن أحاديثه كلها عن أبيه.
وفي (ج): السؤال عن حديث بعيَنْه.
وهذا الاختلاف مما يُضْعف الاعتماد على مثل هذه الحكاية؛ لأن لظهر الكتاب شأنًا سوى الكتاب نفسه وهل السؤال عن سماع حديث واحد، أم عن سماع مخرمة من أبيه جملة؟ فالفرق كبير.
وقد ساق أبو حاتم تلك الحكاية، ثم قال: إن كان سمعها من أبيه .. " فلم يرها حجة في إثبات السماع، والله تعالى أعلم.
وقد علَّق الشيخ المعلمي على هذه الحكاية في "حاشية الجرح"(8/ 364) بقوله: "وِجَادَة، فإذا احتيج إليها لم تُغْنِ، وإن أغنت لم يُحْتَجْ إليها".
وأما الأمر الثالث فهو يدل على سماع حديث واحد، والثابت عن مخرمة أنه أدرك أباه وهو غلام، لم يسمع منه شيئًا، وعلى ذلك جمهور النقاد من المحدثين، فاستثناء شيء من هذا الإطلاق يحتاج إلى برهان وحجة، فربما كان مستند أبي داود مجيء هذا الحديث الواحد مصرحًا فيه بسماع مخرمة من أبيه، فيُنظر: هل هذا التصريح بالسماع محفوظًا أم لا؟ فكبم من صيغٍ للاتصال في الأسانيد لم يَعْبَأ بها النقاد؛ لاستقرار العلم بالانقطاع، وقد اعتنى ابن المديني بهذا الأمر، فلم يجد أحدًا ينقل سماع مخرمة من أبيه - كما مَرَّ نقلُه.
أما الإمام مسلم فقد احتج به في موضعين، واستشهد به في عدة مواضع.
أما الاحتجاج: ففي كتاب "الحج"(ص 856، 982).
وأما الشواهد: ففي "الطهارة"(ص 247)، وفي "الصلاة"(ص 328، 386، 584)، وفي "الحج"(ص 969)، وفي "الحدود"(ص 1312).
وقد قال ابن القيسراني في "الجمع بين رجال الصحيحين"(2/ 510): "وأُنكر على مسلم إخراجه هذه الترجمة" اهـ.
وقال العلائي في "جامع التحصيل"(ص 275): "أخرج له مسلم عن أبيه عدَّة أحاديث، وكأنه رأى الوجادة سببًا للاتصال، وقد انتقد ذلك عليه". اهـ. (ص 579 - 581).
44 -
قد يسمع الإنسانُ الشيءَ بلفظٍ، فيقع في نفسه -مما يوافق هواه- معنى غير الذي سمع، فإذا أراد أن يرويه سبق المعنى الذي وقع في نفسه دون الذي سمع، وهذا أحد الأسباب المؤدية إلى دخول الوهم في الرواية (ص 623).
45 -
معنى عبارة: "حديث ليس له أصل" عند أهل الفن أن الحديث لا يصح بحال، وليس له إسناد قائم، ومفهومها أن كل اسناد جاء له إنما هو خطأ.
وأحيانًا يطلقون هذه العبارة "ليس له أصل" ويُعنون: مِنْ حديث فلان، وقد يكون الحديث محفوظًا من حديث غيره، ويعرف هذا بالتتبع (ص 624).
46 -
نعيم بن حماد يكثر من التحديث من حفظه فيخطىء، وينفرد عن المشاهير بأسانيد ومتون لا يتابع عليها، وقد رُوي أنه حدث يومًا -بحضرة ابن معين- بأحاديث عن ابن المبارك عن ابن عون فقال يحيي: ليس هذا عن ابن المبارك فغضب نعيم، فقال يحيى: والله ما سمعتَ أنت هذا من ابن المبارك قطُّ، ولا سمعها ابن المبارك من ابن عون قطُّ، فغضب نعيم، فدخل البيت فأخرج صحائف، فلم يجد لما حدث به عن ابن المبارك عن ابن عون أصلًا في كتبه، ثم قال: أين الذين يزعمون أن يحيي ين معين ليس أمير المؤمنين في الحديث، نعم يا أبا زكريا غلطتُ، وكانت صحائف، فغلطتُ، فجعلتُ أكتب من حديث ابن المبارك عن ابن عون، وإنما روى هذه الأحاديث عن ابن عون غير ابن المبارك اهـ. "تهذيب الكمال"(29/ 471)، وقد ذكرها المزي منقطعة فقال:(روى الحافظ أبو نصر اليونارتي بإسناده عن الدوري عن ابن معين).
وقد حَدَّث نعيم عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري بحديث، فقال صالح جزرة الحافظ: ليس لهذا الحديث أصل، ولا يعرف من حديث ابن المبارك، ولا أدري من أين جاء به نعيم، وكان نعيم يحدث من حفظه وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها. "تاريخ بغداد"(13/ 312).
وقد سبق وصف الأئمة لنعيم بالصدق، وهو نقيض الكذب، وقد اعتذر عنه غير واحد من المعتمدين بأنه كان يُشَبَّهُ له، فيخطىء، من غير أن يتعمد، لكن كثر منه التفرد بأشياء لا أصل لها، لسوء حفظه، ودخول أحاديث الثقات في أحاديث الضعفاء، فصار يأتي عن الثقات بالمنكرات، فالحكم عليه بكثرة الخطأ، لن يجرَّ إلى رميه بنقيض الصدق إن شاء الله تعالى، والله تعالى الموفق. (ص 627).
47 -
هشام بن عمار لم يذكره أحد بتدليس أصلًا، فضلًا عن تدليس التسوية، والذي استظهره الحافظ ابن حجر لا يساعده عليه كلام أهل العلم في هذا الخبر، بل كل من تكلم في هذا الخبر -خبر مقتل عثمان- إنما حمل على ابن سميع في تدليسه عن ابن أبي ذئب، وإليك البيان:
1 -
قال ابن عدي في ترجمة ابن سميع من "الكامل"(6/ 2250): "ولابن سميع أحاديث حسان عن عبيد الله -يعني: ابن عمر، وعن روح بن القاسم وجماعة من الثقات، وهو حسن الحديث، والذي أُنكر عليه حديث مقتل عثمان أنه لم يسمعه من ابن أبي ذئب". اهـ.
2 -
وقال الحاكم أبو أحمد: "مستقيم الحديث، إلا أنه روى عن ابن أبي ذئب حديثًا منكرًا، وهو حديث مقتل عثمان، ويقال: كان في كتابه: عن إسماعيل ابن يحيي التيمي عن ابن أبي ذئب، فأسقطه، وإسماعيل ذاهب الحديث". اهـ. "تهذيب الكمال"(26/ 257).
3 -
وقال ابن حبان في "الثقات"(9/ 43): "هو مستقيم الحديث إذا بَيَّنَ السماع في خبره، فأما خبره الذي روى عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب في مقتل عثمان فلم يسمعه من ابن أبي ذئب، سمعه من إسماعيل بن يحيي بن عبيد الله عن ابن أبي ذئب، فَدَلَّسَ عنه، وإسماعيل ضعيف واهٍ". اهـ.
4 -
وقال أبو حفص بن شاهين: "محمد بن عيسى بن سميع شيخٌ من أهل الشام ثقة، وإسماعيل بن يحيي بن عبيد الله الذي أسقطه ضعيف". اهـ "تهذيب الكمال"(26/ 257).
أقول: فلم ينفرد ابن حبان بالجزم بتدليس ابن سميع لهذا الخبر، بل صرح بذلك -كما رأيت- ابن عدي وأبو أحمد الحاكم وابن شاهين، وقد ذكر البخاري في تاريخيه المطبوعين ما قيل من عدم سماع ابن سميع لهذا الخبر من ابن أبي ذئب، وذلك في ترجمة ابن سميع، وفي هذا إشارة من البخاري رحمه الله إلى أن التبعة فيه عليه، ولم يذكر أحدٌ هشامًا بشيء في هذا الخبر.
ومما يؤيد هذا المعنى أن هشامًا قد تُوبع في روايته عن ابن سميع عن ابن أبي ذئب، روى ذلك ابن عدى في "الكامل" فقال: حدثنا أبو العلاء الكوفي ومحمد ابن العباس قالا: ثنا هشام ابن عمار، وثنا الفضل بن عبد الله بن مخلد ثنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال قالا: ثنا محمد بن عيسى بن سميع أبو سفيان القرشي، عن ابن أبي ذئب عن الزهري .. الحديث
فقد تابع هشامًا على ذكر العنعنة بين ابن سميع وابن أبي ذئب: هارون بن محمد هذا، وهو صدوق لا بأس به.
وممن جزم بهذا أيضًا: الذهبي، فقال في ترجمة ابن سميع من "ميزان الاعتدال":"قد أُنْكِرَ عليه حديث مقتل عثمان، وهو في كتابه عن إسماعيل بن يحيي بن عبيد الله -أحد الضعفاء- عن ابن أبي ذئب، فرواه على سبيل التدليس عن ابن أبي ذئب، وأسقط إسماعيل". اهـ.
بل ساق الذهبي في ترجمة ابن سميع من "تاريخ الإسلام" رواية صالح جزرة عن هشام بن عمار قال: جهدت به أن يقول: ثنا ابن أبي ذئب، فأبى إلا أن يقول: عن ابن أبي ذئب.
وهذا صريح من إيراد الذهبي للحكاية أنه فَهِمَ أن قائل: "جهدت به الجهد" إنما هو هشام بن عمار، لا صالح جزرة.
وفَهْمُ الحافظ ابن حجر خلاف ذلك -وعليه بَنَى المعلمي- ليس عليه مستند ولا له سلف من أقوال أهل العلم. وإيرادُه في تهذيبه قول أبي داود في ابن سميع "لا بأس به" عقب سؤال عيسى بنه شاذان لهشام بن عمار -واستأنس بذلك المعلمي وبنى عليه استشعاره يتبرئة أبي داود لابن سميع- مخالفٌ لسياق أصل تهذيبه وهو "تهذيب الكمال" للمزي، ولسياق أصل النقل وهو سؤالات الآجري لأبي داود، وهاك البيان:
- قال الآجري "سؤالاته" المطبوع (2 / رقم 1592): سألت أبا داود عن محمد ابن عيسى بن سميع، فقال.: ليس به بأس، إلا أنه كان يتهم بالقدر.
- قال أبو داود: سمعت هشام بن عمار نا محمد بن عيسى الثقة المأمون.
- قال أبو داود: قال لي عيسى بن شاذان: قلت لهشام بن عمار: حديث ابن أبي ذئب قال لكم فيه ابن سمع: نا ابن أبي ذئب. قال: أيش سؤالك عن هذا؟. اهـ.
وبمثل هذا السياق في "تهذيب الكمال" المطبوع (26/ 255 - 256).
فبان بهذا أن قول أبي داود في ابن سميع: "ليس به بأس" ليس تعقيبًا على حكاية سؤال عيسى بن شاذان لهشام بن عمار -حتى يقال إن أبا داود يقول: ليس بابن سميع بأس يعني في هذا الخبر، أي أن التدليس فيه ليس منه، فيتعين الحمل على هشام أنه دلس التسوية- كما ذهب إليه المعلمي.
يتبيَّنُ مما سبق أن المعنى الأول الذي ذكره المعلمي في حكاية صالح جزرة عن هشام بن عمار -ووصَفَهُ المعلمي بأنه هو المتبادر .. إلى آخر كلامه- هو المعنى المتعيَّن الذي لا يصح غيره.
وبهذا يبرأ هشام بن عمار مما نُسب إليه من تدليس التسوية، بل والتدليس عامّة، وعلى ذلك فما ذكره الشيخ المعلمي رحمه الله من علاقة ما ذُكر عن هشام من التلقين وما ذهب إليه هو من وصفه هنا بتدليس التسوية، خطأ، وقد عرفتَ وَجْه ذلك، والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل (ص 639 - 641).
* * *