الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الأثرم (1): رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء في زاويةٍ، وهو يكتبُ صحيفة معمر عن أبان (2) عن أنس، فإذا طلع عليه إنسانٌ كتمهُ. فقال له أحمدُ بن حنبل: تكتبُ صحيفة معمر عن أبان عن أنس، وتعلمُ أنها موضوعةٌ، فلو قال لك قائل: إنك تتكلمُ في أبان ثم تكتبُ حديثهُ على الوجْه؟ فقال: رحمك الله يا أبا عبد الله، أكتبُ هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها، وأعلمُ أنها موضوعةٌ، حتى لا يجيء بعده إنسانٌ فيجعل بدل:"أبان""ثابتًا"(3)، ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس بن مالك، فأقول له: كذبت، إنما هي عن معمر عن أبيان، لا عن ثابت". اهـ.
وانظر كتاب "الجامع" للخطيب (2/ 192)، فقد بوّب على هذا المعنى وذكر لهذه الحكاية نظائر عن بعض الأئمة.
4 - السؤالُ عن أحوالِ من لم يعرفْهم من رجالِ الأسانيد التي يسمعُها
، وجمعُ أحاديث المُقِلِّين منهم، ومعرفةُ المجاهيلِ من الرواة، ومن لم يُرْو عنهم إلا القليلُ، والوقوفُ على الأحاديث التي لا ترِدُ إلا من طريقهم، وكشْفُ الشّواذِّ والمناكير من الآثار، بِعرْضِها على أصولِ الكتاب والسنة، وعلي سائر ما صحّ من الأخبار، ويكون ذلك وغيره باستعمال "ملكته" الخاصة، وبالمذاكراة بينه وبن سائر النقاد الأحْبار.
والناقد يحفظ تلك الغرائب للمعرفة، لا لروايتها ولا للاحتجاج بها، وإنما يهجرها الأئمة ولا يُعوِّلون عليها، لثبوت الوهم فيها خطًا أو عمدًا، وللأسف يأتي منْ بعْدهُم فيقِفُون عليها، فيظنُّون بأنفسهم خيرًا، ولا يُحْرِكُون ما فيها من الشُّذُوذِ والغرابة -سندًا أو متنًا-، فلا يقْنعُون بِهجْرِ الأوائلِ لها، ولا بتركهم لروايتها، ولا بتنبيه بعضهم على
(1)"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(2/ 192)، وكذا في "المجروحين" من طريق آخر عن أحمد.
(2)
هو ابن أبي عياش، وهو متروك.
(3)
هو ابن أسلم البُناني، وهو ثقة حجة.
نكارتها، فتجدُهم يُقوُّون بها أحاديث ضعيفةً، ويُضمِّدُون بها أخبار جريحةً، ويتبارى القاصروُن في تصحيح تلك المناكير، غيرُ مُلْتفِتِين إلى أنّ الناقد خبيرٌ.
وقد كان للنُّقّادِ عنايةٌ خاصّةٌ بالتعرفِ على غرائب الحديث، وأوهامِ الرواةِ، وكانت جُلُّ مذاكراتهم إنما تدورُ حوْل هذا النوع من الحديث، فيتذاكرون عِلل الأحاديث، وأخطاء الرواة، ويقومون بالفحْصِ عنها والتفتيشِ عن مظانها، حتى إنهم ليتنافسون في معرفتها والوقوف عليها.
وقد سبق إيرادُ قولِ أبي حاتمِ: "جرى بيني وبين أبي زرعة يومًا تمييزُ الحديث ومعرفتُه، فجعل يذكرُ أحاديث ويذكرُ عللها، وكذلك كنتُ أذكرُ أحاديث خطأ وعللها وخطأ الشُّيوخ .. "
وكان لأصحاب الحديث لُغةٌ يُعبِّرُون بها عن تلك الغرائب، قال الإمام أحمد:"إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا الحديث غريبٌ أو فائدةٌ، فاعلم أنه خطأٌ، أو دخل حديثٌ في حديثٍ، أو خطأٌ من المحدِّثِ، أو حديثٌ ليس له إسنادٌ، وإن كان قد روى شعبةُ وسفيانُ. فإذا سمعتهم يقولون: لا شيء فاعلم أنه حديثٌ صحيحٌ"(1).
وقوله "لا شيء" أى ليس هو من جنس ما يعتنون بتحصيله ومعرفته، وإنما هو حديث صحيح مشهور.
وقد كان النقادُ -مع معرفتهم بتلك الغرائب- يمدحُون المشهور من الحديث، ويذمُون الغريب منه؛ خشية أن يتتبعها من لا علم له، فيسقط فيها.
قال عبد الله بن المبارك: "العلم هو الذي يجيئك من هاهنا ومن هاهنا" يعني المشهور. وقال الإمام مالك: "شرُّ العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس". وقال الإمام أحمد: "شرُّ الحديث الغرائبُ التى لا يُعملُ بها ولا يُعْتمدُ عليها". وقال أيضًا: "تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب، ما أقلّ الفقه فيهم! ".
(1)"الكفاية"(ص 142)، و"شرح علل الترمذي" لابن رجب (1/ 408).
وقال شعبة: "لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ"(1).
يقول الخطيب البغدادي (2): "أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلبُ على إرادتهم كتْبُ الغريبِ دُون المشهور، وسماعُ المنكرِ دُون المعروفِ، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين الضعفاء، حتى لقد صار الصحيحُ عند أكثرهم مُجْتنبًا، والثابتُ مصْدُوفًا عنه مُطّرحا، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين، والأعلام من سلفنا الماضين".
نقل ذلك ابنُ رجب في "شرح العلل"(1/ 409)، ثم قال:"وهذا الذي ذكره الخطيب حقٌّ، ونجدُ كثيرًا ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصولِ الصِّحاحِ كالكتبِ الستِة ونحوها، ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل مسند البزار، ومعاجم الطّبرانيّ، أو أفراد الدارقطني، وهى مجمعُ الغرائب والمناكير". اهـ.
ويلتحق بما ذكره ابن رجب: كتبُ الضعفاء، ككتاب العقيلي، وابن حبان، وابن عدي، وكتاب "الحلية" لأبي نعيم، و"مسند الفردوس" للديلمي، وأغلب ما يُساق في تراجم الرواة من كتب التواريخ مثل: تاريخ الخطيب، والحاكم، وابن عساكر، وغيرها، وكتابيّ أبي الشيخ وأبي نعيم في "الأصبهانيين" وغيرها من كتب تواريخ البلدان، وطبقات الرواة، وكتب "الفوائد"، والأجزاء الحديثية.
وهؤلاء وغيرهم إنما قصدوا جمع غرائب الأحاديث، وأوهام الرواة، وراموا جمع ما لم يكن مخرجًا في كتب الصِّحاحِ والأُصُولِ المعروفة، وإنما كانت تلك الأحاديث متداولةً على ألسنةِ من لم يكْتُبْ حديثهُ المحدثون، فهجروها عمدًا ولم يخرجوها في
(1) انظر هذه الأقوال وغيرها في كتاب "الكفاية" للخطيب (ص 140 - 143)، و"شرح علل الترمذي"(1/ 406 - 408).
(2)
"الكفاية"(ص 141).
كتبهم، وقد كانت تدور تارةً بين الوعاظ المتشدقين، وتارةً بين المتفقهين، وتارةً بين أهل الأهواء والبدع في الدين، وتارةً بين الضعفاء والمجروحين، وربما كان أصلُ تلك الأحاديث: آثارًا لبعض الصحابة والتابعين، أو كلامًا لبعض الحكماء والواعظين، أو قواعد مستنبطاتٍ من الفقه في الدين، أو أخبارًا لبني إسرائيل، أو معانيَ محتملاتٍ أو مفهوماتٍ من بعض أدلة الكتاب والسنة، فرواها قوم لا يعرفون غوامض الرواية، فجعلوها أحاديث مستقلةً برأسها عمدًا أو خطًا، وربما كانت جُملًا شتى في أحاديث مختلفة، جعلوها حديثًا واحدًا بنسقٍ واحدٍ.
وهذه الأحاديث لا تخلو عن أمرين:
إما أن المتقدمين تفحصوا عنها ولم يجدوا لها أصولًا حتى يشتغلوا بروايتها.
وإما أنهم وجدوا لها أصولًا ولكن صادفوا فيها قدحًا أو علة موجبةً لترك روايتها فتركوها (1).
وعلي كل حالٍ فليست تلك الأحاديث صالحةً للاعتماد عليها، حتى يُتمسّك بها في عقيدةٍ أو عملٍ.
وقد أضلّ هذا القسمُ قومًا مِمّنْ لم يتدبروا ما سلف من مناهج الأئمة والمصنِّفين، فاغْترُّوا بكثرة الطُّرقِ الواردةِ في تلك المصنفاتِ، وحسِبُوا أنهم وقفوا على ما لم يقفْ عليه المتقدمون، فسمُّوا تلك الطرق "متابعاتٍ" و"شواهد" فجعلوا الغرائب والمناكير عواضِد يشدُّون بها ما اسْتقرّ أهلُ النّقْدِ على طرْحِهِ ووهنِهِ.
ولم يفْطِنْ هؤلاءِ القومُ إلى أن عُصُور الرواية قد انقضتْ وتلك الأحاديثُ في عُيون النقاد غريبةٌ منكرةٌ مهجورةٌ.
(1) انظر كتاب "الحطة في ذكر الصحاح الستة" لأبي الطيب السيد صديق حسن خان القنوجي: (ص 218 - 221).
فلم ينصفْ هؤلاءِ أسلافهم ولم يقدرُوهم قدرهم، بل دلّ صنيعهم على اعتقاد أنهم قصّرُوا في تحصيلِ تِلْك الطرق، ولم يفطنوا إلى منهج أولئك المصنِّفين في أنهم ما أخرجوا تلك الطرق للاحتجاج ولا للاعتبار.
وهذا المبحث يحتاج إلى بسطٍ، ليس هذا موضعه، ولعلّ فيما ذكرتُ إشارة إلى ما أردنا منه. ولعلّنا في قسم القواعد، ومناهج الأئمة والمصنفين، نتناوله بشيء من التوسع إن شاء الله تعالى.
والأئمةُ لا يِقفُون عند نقْدِهم لغرائبِ الضعفاء والمجاهيل فحسْبُ، بل كان البارعون منهم ينتخبون الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة من أصولِ شيوخ ثقات لهم أو لغيرهم، وحِرْصًا منهم على تمييز تلك الأحاديث، كان يرسمُ كُلٌّ منهم أمام الأحاديث علامةً خاصّةً به ليتميز بها عن علامات أصحابه.
وقد عقد أبو بكر الخطيب في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" بابًا خاصًا بعنوان: "رسم الحافظ العلامة على ما ينتخبه"(1).
ومن الواضح مما هناك أن أكثر النُّقادِ لا ينتخبون من الأصولِ إلا الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة، وذلك أنهم يريدون به لفت انتباهِ منْ ينظرُ فيها إلى غرابتها ونكارتها، وهذا الصنيعُ لا يقدر عليه إلا فحولُ النقاد وفرسانُهم.
وقد أورد الخطيب هناك أمثلةً، منها حديث قتيبة بن سعيد عن الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل مرفوعًا، وفيه جمع التقديم في غزوة تبوك. هذا الحديث قد أعلّهُ أئمةُ النقدِ قائلين بأن قتيبة تفرّد به عن الليث بهذا الإسناد، وأن هذا الحديث لا يُعرف عن الليث، ولم يروه عنه أهلُ مصر، ولا هو عند أصحابه، ولا في أصوله المعروفة، مِنْ هؤلاء النقاد ممن صرّحُوا بإعلاله: الإمام
(1)(2/ 158).
البخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، وابن يونس، والحاكم والبيهقي وغيرهم، كما سيأتي. قال الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 120): "هذا حديثٌ رواتُه أئمةٌ ثقاتٌ، وهو شاذُّ الإسنادِ والمتن .. وقد حدثونا عن أبي العباس الثقفي قال: كان قتيبةُ بن سعيد يقول لنا: على هذا الحديثِ علامةُ أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وأبي خيثمة، حتى عدّ قتيبةُ أسامي سبعةٍ من أئمة الحديثِ، كتبُوا عنه هذا الحديث. وقد أخبرناه أحمد بن جعفر القطيعي قال: ثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال: ثنا قتيبة فذكره.
قال الحاكم: فأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجُّبًا من إسناده ومتنه .. "
وقد اتفق أصحاب "الملكةِ" من النقاد على إعلال هذا الحديث، وأنه خطأ ولا أصل له، مع اختلافهم في تحديد المخطىء فيه، وهذا لا يؤثر في الاتفاق المذكور (1).
ولم يجْرِ على ظاهر إسنادِ هذا الحديث فصحّحهُ إلا نفرٌ من المتأخرين والمعاصرين، وهذا مظهرٌ من مظاهر تلك الهُوّةِ التى لا تبرحُ في زيادة بين النقاد ومن بعدهم، والتى أشرنا إليها آنفًا.
ولم يسعِ الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد عرْضِ مذاهب النقاد في إعلال هذا الحديث إلا أن يُسجِّل شهادتهُ الخالدة، فيقول (2):"وبهذا التقرير يتبينُ عِظمُ موقعِ كلامِ المتقدمين، وشدةُ فحْصِهم، وقوةُ بحْثِهم، وصِحّةُ نظرهم، وتقدمُهم بما يوجبُ المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه، وكُلُّ من حكم بصحةِ الحديث مع ذلك إنما مشى على ظاهر الإسناد". اهـ.
(1) تفصيل أقوال النقاد في إعلال هذا الحديث والجواب عَمَّن صححه، تراه في البحث الممتع الذي صنعه الدكتور/ حمزة عبد الله المليباري، أستاذ الحديث بالجامعة الإسلامية، قسنطينة - الجزائر، في كتابه "الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها"(ص 48 - 88).
(2)
"النكت على كتاب ابن الصلاح"(2/ 726).