الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدلس وخلوه من المناكير تدل على أنه كان لا يدلس إلا فيما لا شبهة في صحته عمن يسميه .. إلى غير ذلك من الأبحاث.
[702] محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي مولاهم أبو الزبير المكي:
قال الشيخ المعلمي في كتاب "عمارة القبور"(ص 205 - 219): قال الشافعي: "يحتاج إلى دعامة"(1).
ومعنى ذلك أن فيما انفرد به نكارة.
وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "لا يُحتج به".
وهذه الكلمة من المرتبة التي تلي أخف مراتب الجرح، وصاحبها صالح للمتابعة.
وقال شعبة: "رأيته يزن ويسترجح في الميزان"(2).
وأجاب عن هذه: ابن حبان؛ بأن ذلك لا يقتضي الترك (3).
أقول: وغايةُ هذه المنافاةُ لكمال المروءة، وليس ذلك بجرح.
وروى عنه سويد بن عبد العزيز أنه قال: "لا يحسن يصلي"(4).
وسويد ضعيف.
وقال شعبة: "بينا أنا جالس عنده، إذ جاء رجلٌ، فسأله عن مسألة، فردّ عليه، فافترى عليه، فقلت له: يا أبا الزبير، أتفتري على رجل مسلم؟ قال: إنه أغضبني. قلت: ومن يغضبك تفقري عليه، لا رويت عنك حديثًا أبدًا"(5).
(1)"الجرح"(8/ 76).
(2)
"ضعفاء العقيلي"(4/ 130).
(3)
قال في "الثقات"(5/ 351 - 352): "لم يُنصف من قدح فيه؛ لأن من استرجح في الوزْن لنفسه لم يستحق الترك لأجله".
(4)
"الجرح".
(5)
"تهذيب التهذيب"(9/ 442).
أقول: الافتراء حقيقتة مطلق الكذب، ولكنّ ظاهر السياق أنّه سبّه، والافتراء إذا أطلق في حكاية السب، فالظاهر أنه أريد به القذف، والقذفُ كبيرة تُسقط العدالة.
وجوابه:
1 -
أن الافتراء ليس نصًا في القذف، فقد يراد به مطلق السب، ولاسيما إذا كان شنيع اللفظ، كالإعضاض، وعليه قد يكون السائل أساء الأدب فأعضه أبو الزبير.
وقد جاء في الحديث: "من تعزّى بعزاء الجاهلية، فأعضّوه بِهِنُ أبيه، ولا تكنوا"(1).
(1) رُوي من طرق عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن الحسن البصري، عن عُتَيِّ بن ضمرة السعدي، عن اْبي بن كعب: "أن رجلا اعتزى بعزاء الجاهلية فأعضه ولم يكنه .. وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تعزَّى .. الحديث.
رواه أحمد في "المسند"(5/ 136) وغيره.
وأعقبه أحمد برواية يونس -وهو ابن عبيد- عن الحسن، عن عُتَيِّ: أن رجلا تعزَّى بعزاء الجاهلية - فذكر الحديث، قال أُبي: كنا نُؤمر إذا الرجل تعزَّى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا.
والحسن مدلس، ولم يصرح بسماعه من عُتِي.
وعُتَيُّ بن ضمرة إنما وثقه ابن سعد والعجلي، وقال: روى عنه الحسن ستة أحاديث، ولم يرو عنه غيره.
لكن ذكر ابن الجنيد عن ابن معين: روى قرة بن خالد عن عبد الله بن عتي بن ضمرة عن أبيه.
وقال ابن المديني: مجهول، سمع من أبي بن كعب أحاديث لا نحفظها إلا من طريق الحسن، وحديثه يشبه حديث أهل الصدق، وإن كان لا يعرف "تهذيب التهذيب"(7/ 104).
والحديث رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(433) من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن مكحول عن عجر [د] بن مدراع التميمي قال: يا آل تميم -وكان من بني تميم- فقال وهو عند أبي بن كعب، فقال أُبي: أعضك الله بهِنُ أبيك .. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا: مَنِ اعتزى بعزاء الجاهلية ..
وسعيد بن بشير ضُعِّف، لاسيما في قتادة فإنه يروي عنه المنكرات، وما لا يتابع عليه، كما قاله محمد بن عبد الله بن نمير "الجرح"(4 / ص 7)، وابن حبان "المجروحين"(1/ 319).
وقتادة والحسن مدلسان، والحسن لا تعرف له رواية عن مكحول، فالإسناد غريب شاذ. =
2 -
وعلى تسليم أن شعبة أراد بها القذف، فلم يُبيِّنْ لفظ أبي الزبير، فيحتمل أنه قال كلمة يراها شعبة قذفًا، وغيره لا يوافقه، ولهذا قال الفقهاء: إذا قال الشاهد: أشهد أنّ فلانًا قذف فلانًا، لم يقبل حتى يفسر.
ولا يرِدُ على هذا قولُ شعبة: أتفتري .. الخ، وسكوتُ أبي الزبير عن نفي ذلك؛ لأن شعبة قد يكون إنما قال له:"أتقول هذا لرجل مسلم" ثم أخبر شعبة عن ذلك بالمعنى على رأيه. أو يكون أبو الزبير ترك نفي ذلك؛ لأنه على كل حال قد أخطأ، فرأى الأول الاعتذار بأنها كلمة جرتْ على لسانه لشدة الغضب، وهذا عذرٌ صحيح، كما يأتي إن شاء الله.
= ومكحول لم يدرك أُبي بن كعب.
وللحديث إسناد آخر، رواه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (5/ 133) قال: ثنا محمد بن عمرو بن العباس الباهلي ثنا سفيان عن عاصم عن أبي عثمان عن أُبي رضي الله عنه: "أن رجلا اعتزى فأعضه أبي بهن أبيه، فقالوا: ما كنت فحاشًا. قال: إنا أمرنا بذلك" شيخ عبد الله بن أحمد هو أبو بكر البصري، ترجمه الخطيب في "تاريخ بغداد"(3/ 127) وذكر روايته عن سفيان بن عيينة، ورواية عبد الله بن أحمد عنه.
وليس هو: محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة بن أبي رَوَّاد العتكي مولاهم، أبو جعفر البصري، المترجم في "تهذيب الكمال"(26/ 208) كما توهَّمَهُ الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1 / ص 477)؛ فإن أبا بكر نُسب باهليًا، وليس كذلك أبو جعفر، وذكر الخطيب رواية أبي بكر عن ابن عيينة وليس كذلك أبو جعفر، واتفقا في أنهما بصريان، ويروي عنهما عبد الله بن أحمد.
وصاحبنا في الإسناد قد رَوى عنه جماعة، وأسند الخطيب إلى ابن عقدة قوله: سمعت عبد الرحمن ابن يوسف (وهو ابن خراش) يقول: كان ثقة.
وفي الاحتجاج بما يرويه ابن عقدة في الجرح والتعديل نظر، كما قاله الخطيب وغيره.
وقد ذكر الخطيب في ترجمة الباهلي هذا حديثًا من روايته عن ابن عيينة، ثم قال الخطيب: يقال لم يروه عن سفيان بن عيينة إلا محمد بن عمرو الباهلي.
أقول: والظاهر أيضا أنه لم يرو حديثنا عن ابن عيينة إلا هو، وابن عيينة له أصحاب متوافرون ومنهم جملة من الأئمة المبرزين، فأين كانوا مما يتفرد به هذا البصري عن ابن عيينة.
ولم يثبت في حقه توثيق معتبر، فضلا عن أن يكون من الحفاظ الذين يعتمد على تفردهم بمثل هذا.
فالإسناد غريب من جهة هذا التفرد، والله تعالى أعلم.
3 -
وعلى تسليم أنه قذفٌ صريحٌ، فقد يكون أبو الزبير مطلعًا على أن ذلك هو الواقع، وسكت عن ذكر ذلك لشعبة؛ لأنه على كل حال مما لا يليق، وإنما جرى أولًا على لسانه لشدة الغضب.
ويستأنس لهذه الوجوه: بأنه لو كان القذف صريحًا، والمقذوف بريئًا، لذهب فشكاه إلى الوالي، والحدود يومئذ قائمة.
4 -
وعلى كل حال فقد أجاب أبو الزبير عن نفسه بقوله: "إنه أغضبني". أي: فلشدة الغضب جرت على لسانه -وهو لا يشعر- كلمة مما اعتاد الناس النطق به.
وقد جاء في الحديث: "لا طلاق في إغلاق"(1) وفُسِّر الإغلاق: بشدة الغضب، وقال الله سبحانه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (2).
وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3).
وفي حديث مسلم عن أنس مرفوعًا: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم .. ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"(4).
5 -
قال الذهبي في "الميزان" في ترجمة ابن المديني: "ثم ما كُلُّ من فيه بدعة أو له هفوة أو ذنوب يقدح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شرط الثقة أن يكون معصومًا من الخطايا والخطأ".
(1) في أسانيده كلام.
(2)
المائدة - آية رقم: (89).
(3)
الأحزاب - آية رقم: (5).
(4)
(4 / ص 2104 - 2105).
وفي "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص 46): "قال ابن القشيري: والذي صح عن الشافعي أنه قال: في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية، وفي المسلمن من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة، فلا سبيل إلى ردِّ الكُلِّ، ولا إلى قبول الكُلِّ، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته، فإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها".
وفيه من جملة كلام عن الرازي: "والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن من جراءته على الكذب تردُّ الرواية، وما لا فلا".
وفيه قال الجويني: "الثقة هي المعتمد عليها في الخبر، فمتى حصلت الثقة بالخبر قُبل".
أقول: وهذا هو المعقول، وعليه عمل الأئمة الفحول؛ فإن الحكمة في اشتراط العدالة في الرواي هي كونها مانعة له عن الكذب، فيقوى الظن بصدقه، فإذا جرت منه هفوة لا تخدش قوة الظن بصدقه، لم تخدش في قبول روايته (1).
والحاصل أن تلك الكلمة التي سبقت على لسان أبي الزبير بدون شعوره لشدة غضبه، لا ينبغي أن يهدر بها مئات الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع التحقق بكمال صدقه وحفظه وضبطه وتحريه وإتقانه.
6 -
والظاهر من حاله، وما ثبت لدى جمهور الأئمة من عدالته، أنه تاب عنها في الوقت، وإن كانت إنما جرت على لسانه بدون شعور.
(1) زيد هنا في النسخة "س" من الكتاب -والتي هي أصل المطبوع باسم "البناء على القبور"- قول المعلمي: "ومن هنا رجح الأئمة رواية الخوارج على رواية الشيعة؛ لأن الخوارج يعتقدون أن مطلق الكذب كفر، فضلا عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما الشيعة فيتدينون بالكذب: "التقية" حتى جوزوها من النبي صلى الله عليه وسلم، بل على الله سبحانه. لتأويلهم الآيات الواردة في مدح بعض الصحابة على خلاف ظاهرها، قائلين: إنما جعل الله تعالى ظاهرها الثناء استدراجًا لأولئك القوم ليقوموا بنصر الدين، ويكفوا ضررهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته".
ويلوح لي أن بعض أعداءه -بل أعداء الدين- دسّوا إليه ذلك السائل ليرصده، حتى إذا كان شعبة عنده، جاء فأغضبه ابتغاء أن يسبق على لسانه بكلمة، فينقمها عليه شعبة، وقد كان كذلك، ولكن حيلتهم لم تطفىء نور الله الذي في صدر أبي الزبير، فاعتمده جمهور الأئمة الأعلام، واحتجوا به.
توثيق الأئمة له نقلًا عن كتب الفن:
ابن المديني: "ثقة ثبت".
ابن عون: "ليس أبو الزبير بدون عطاء بن أبي رباح".
يعلى بن عطاء: "كان أكمل الناس عقلًا وأحفظهم".
عطاء: "كنا نكون عند جابر فيحدثنا، فإذا خرجنا تذاكرنا، فكان أبو الزبير أحفظنا".
ابن معين والنسائي وغيرهم: "ثقة".
ابن عدي: "هو في نفسه ثقة، إلا أن يروي عنه بعض الضعفاء، فيكون الضعف من جهتهم".
عثمان الدارمي: "قلت ليحيى: فأبو الزبير؟ قال: ثقة، قلت: محمد بن المنكدر أحب إليك أو أبو الزبير؟ فقال: كلاهما ثقتان".
وممن وثقه: مالك فإنه روى عنه، وهو لا يروي إلا عن ثقة.
وأحمد، والساجي، وابن سعد، وابن حبان.
وقال الذهبي: "من أئمة العلم، اعتمده مسلم، وروى له البخاري متابعة".
والظاهر أن الموثقن اطلعوا على قصة شعبة، واطلعوا على ما يدفع ما فيها من الاتهام، وفيهم: ابن معين والنسائي وابن حبان، وحسبك بهم تعنتًا، مع أن معهم بضعة عشر إمامًا.
وسيظن ظانون أنه ما حدانا إلى الدفاع عن أبب الزبير إلا حرصنا على صحة حديثه هذا (1)، فليعلموا أن الحجة قائمة بدونه مما مضى وما سيأتي، وأن أبا الزبير لم تكن روايته قاصرة على هذا الحديث، فدِفاعُنا عنه هنا يلزمُنا أن نقبلهُ لنا وعلينا، وهذا مما يُلْزِمُناهُ الحق نفسه، والله أعلم. اهـ.
وقال المعلمي في كتاب "الاستبصار في نقد الأخبار"(ع 38 - 39) عند الكلام على ما يُسقط العدالة:
"ما تقرر في الشرع أنه كبيرة إذا وقع من الإنسان فلْتةً، كمنْ أغضبه إنسانٌ فترادّا الكلام حتى قذفه على وجه الشتم، ففي الحُكْمِ بفسقه نظرٌ؛ لأن مثل هذا لا يوجب سوء ظنِّ النّاسِ بالمشتوم، فإن سامِع مثل هذا قد يفْهم منه الشتم فقط، لا أنّ الشاتم يُثبتُ نِسْبة الفاحشة إلى المشتوم.
والذي يدفع الإشكال من أصله أن يتوب ويستغفر، فعلى فرض أنها كبيرة فقد تاب منها، وقد تقرّر في الشرع أن التوبة تجبّ ما قبلها، وأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وعلى هذا يحمل ما رُوي عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، أنه ذكر أبا الزبير: محمد ابن مسلم بن تدرس، وسماعه منه قال:"فبينا أنا جالس عنده إذ جاعه رجل فسأله عن مسألة فردّ عليه، فافترى عليه، فقلت له: يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟! قال: إنه أغضبني، قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟! لا رويت عنك شيئًا".
ذكر هذا في ترجمة أبي الزبير في "التهذيب"، لكن قال في ترجمة:"محمد بن الزبير التميمي""وأسند ابن عديّ من طريق أبي داود الطيالسي، قلت لشعبة: ما لك لا تحدث عن محمد بن الزبير؟ فقال: مرّ به رجل فافترى عليه، فقلت له فقال: إنه غاظني".
(1) هو حديث النهي عن تقصيص القبور والبناء عليها.