الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - ومنها: معرفة منْ ضعُف حديثه من الثقات في بعض الأوقات دون بعض
، وهم منْ اختلطوا أو تغيروا أو ذهب بصرهم، أو كتابهم، في آخر عمرهم (1).
6 - ومنها: معرفة منْ ضعُف حديثُه في بعض الأمكنة دون بعض
(2).
7 - ومنها: معرفة منْ ضعُف حديثُه عن بعض الشيوخ دون بعض
(3).
8 - ومنها: المعرفة الناشئة عن كثرة الممارسة لأحاديث الرواة
، بحيث يصير للناقد فهم خاصّ يدرك به أن هذا الحديث يُشْبِهُ حديث فلان، ولا يشبهُ حديث فلان، فيعلل الأحاديث بذلك، وهذا إنما يكون لأهل الحذق من صيارفة النقاد (4).
ملكة "الحفظ":
ولم يكن الأمر متوقفًا عند مجرد "الحصر"، وإنما كانوا يحفظون ما حصروه عن ظهر قلبٍ، يمثل أمام أعينهم متى احتاجوا إليه.
قال أبو زرعة (5): "سمعتُ من بعضِ المشايخ أحاديث، فسألني رجلٌ من أصحابِ الحديث فأعطيتُه كتابي، فردّ عليّ الكتاب بعد سِتّةِ أشهرٍ، فأنظرُ إلى الكتاب، فإذا إنه قد غيرّ في سبعة مواضع. فأخذتُ الكتاب وصِرتُ إلى عنده، فقلتُ: ألا تتّقِي الله، تفعلُ مثل هذا؟ فأوقفتُه على موضعٍ موضعٍ، وأخبرتُه، وقلتُ له: أمّا هذا الذي غيرّت فإنّه هذا الذي جعلت عن ابن أبي فديك، فإنّه عن أبي ضمرة مشهور، وليس هذا من حديث ابن أبي فديك، وأمّا هذا فإنّه كذا وكذا، فإنّه
(1)"شرح العلل"(2/ 552).
(2)
نفسه (2/ 602).
(3)
(2/ 621).
(4)
(2/ 756).
(5)
"التقدمة"(ص 332 - 333).
لا يجيء عن فلان، وإنما هذا كذا، فلم أزل أخبره حتى أوقفتُه على كُلِّهِ، ثم قلتُ له: فإني حفظتُ جميع ما فيه في الوقت الذي انتخبتُ على الشيخ، ولو لم أحفظه لكان لا يخفى علىّ مثل هذا، فاتق الله سبحانه يارجُل". اهـ.
فانظر إلى هذا الحفظِ العجيب، يحفظُ ما انتخبه على الشيخ ساعة انتخابِه له، ثم يفارقُه الكتابُ قبل أن يعاود النظر فيه، إلى ستة أشهر، ثم هُو لا يخْرِمُ منه حرفًا!
وتدبّرْ قوله: "ليس هذا من حديث ابن أبي فديك .. فإنّه لا يجيء عن فلان" وتذكر ما أشرنا إليه من حقيقة "الإحصاء".
وأدق من ذلك "أن رجلًا دفع إلى أبي زرعة حديثًا فقال اقرأ، فلما نظر أبو زرعة في الحديث قال: مِنْ أيْن لك هذا؟ قال: وجدتُه على ظهْرِ كتابٍ ليوسف الوراق. قال أبو زرعة: هذا الحديث من حديثي، غير أنِّي لم أحدِّثْ به. قيل له: وأنت تحفظُ ما حدثت به مما لم تحدث به؟ قال: بلى، ما في بيتي حديثٌ إلا وأنا أفهمُ موْضِعهُ"(1).
فكمْ من حديثٍ سمِعهُ الناقد أو كتبه، ثم أعرض عنه ولم يحدثْ به، لمِا علِم من شُذوذه، أو خطأ راويه، ولذا فإنّ عدم تداولِ أهلِ النقد لحديث بالروايةِ ليُشِيُر إلى حاله واستحقاقه للترك والهجر.
وأكثر بيانًا في "الحفظ" ما ذكره ابن أبي حاتم (2) قال: حضر عند أبي زرعة: محمد ابن مسلم "بن وارة" والفضل بن العباس المعروف بالصائغ، فجرى بينهم مذاكرة، فذكر محمد بن مسلم حديثًا فأنكر فضلٌ الصائغ .. فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة: ايش تقول، أيُّنا المُخْطِىءُ؟ فسكت أبو زرعة .. وجعل يتغافل -فألحّ عليه محمد بن مسلم- فقال أبو زرعة: هاتوا أبا القاسم ابن أخي فدعى به، فقال: اذهب وادخل بيت الكُتُب، فدعِ القمطر الأول، والقمطر الثاني، والقمطر الثالث، وعدّ ستة عشر
(1) التقدمة (ص 333).
(2)
"التقدمة"(ص 337).
جزءًا، وائتني بالجزء السابع عشر، فذهب فجاء بالدفتر فدفعه إليه، فأخذ أبو زرعة فتصفح الأوراق وأخرج الحديث، ودفعه إلى محمد بن مسلم، فقرأه محمد بن مسلم، فقال: نعم غلطنا فكان ماذا؟ ". اهـ.
واستقصاءُ هذا وشرحُ عجائبه يطول جدًّا، وإنما هذا غيضٌ مِنْ فيضٍ.
ولم يقف الأمر عند مجرد "الإحصاء" و"الحفظ للأحاديث"، بل كانوا يُحصُون على الرواة -لا سيما المدلسين- صِيغ الأداءِ في الرواية.
قال شعبة (1): "نصصْتُ على قتادة سبعين حديثًا كلها يقول: سمعت من أنس، إلا أربعة". اهـ.
بل كانوا يُحْصُون ما أخذه الراوي عن شيخه سماعًا، وما أخذه عنه من كتاب بغير سماع.
قال ابن المديني (2): سمعت يحيى بن سعيد قال: كان شعبة يقول: أحاديثُ الحكم عن مقْسم كتابٌ إلا خمسة أحاديث. قلت ليحيى: عدّها شعبةُ؟ قال: نعم: حديث الوتر، وحديث القنوت، وحديث عزمة الطلاق، وحديث جزاء مثل ما قتل ما النعم، والرجل يأتي امرأته وهى حائض". اهـ.
ولذا فلا تعجبْ إذا حكم الأئمةُ الجهابذةُ على روايةٍ فيها تصريحٌ بالسماع أو ما يدل عليه بالخطأ والوهم، ولو كان الإسناد ظاهره الصحة، لأن الأئمة ليسوا كما يظن البعض "حملة أسفار" بل هم "نقدة أخبار".
والناقد يضبطُ حال السماع والكتابة صيغ الأداء، بل ويوقف عليها الشيوخ، فيكشف بعد ذلك عن أوهامِ الرواة وأخطائهم.
(1)"التقدمة"(ص 170).
(2)
نفسه (ص 130).
قال أبو داود (1) -وهو الطيالسي-: نا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم أن عليًّا كان يجعل للإخوة من الأم - يعني في المشتركة. قلت للأعمش: سمعته من إبراهيم؟ فقال برأسه أي: نعم". اهـ.
فانظر إلى توقيف شعبة للأعمش في سماعه هذا من إبراهيم وهو ابن يزيد النخعي، مع أن إبراهيم من شيوخ الأعمش الذين كبر عنهم، حتى قال بعض الحفاظ المتأخرين -وهو الذهبي رحمه الله أنه لا يقبل من الأعمش -لتدليسه- إلا ما صرح فيه بالسماع، إلا في شيوخ قد كبر عنهم، كإبراهيم، وأبي وائل -شقيق بن سلمة- وأبي صالح السمان، قال (2):"فإن روايته عن هذا الصِّنْفِ محمولةٌ على الاتصال".
فبان بإيقاف شعبة للأعمش أن الأمر ليس بهذا الإطلاق، وإنما هو للغالب، والله تعالى أعلم (3).
وهذا حجّاجُ بن أرطاة أحد المكثرين من التدليس، قال غير واحدٍ من النقاد أنه لم يسمع من الزهري شيئًا. قال الترمذي (4): فقلت له يعني للبخاري-: فإنهم يروون عن الحجاج قال: سألت الزهري.
قال: لا شيء، يُروى عن هشيم قال: قال لي الحجاج: صِفْ لي الزهري". اهـ.
وقال أبو زرعة (5): لم يسمع الحسن البصري من أبي هريرة ولم يرهُ، قيل له: فمنْ قال: ثنا أبو هريرة؟ قال: يخطىء". اهـ.
(1)"تقدمة الجرح والتعديل"(ص 167 - 168).
(2)
ترجمة الأعمش من الميزان. (2 / ت 3517).
(3)
انظر ترجمة الأعمش من هذا الكتاب، ففيها زيادةُ بيان وتعقيب.
(4)
"جامع التحصيل" للعلائي (ص 160).
(5)
"المراسيل" لابن أبي حاتم (ص 36)، رقم (110).
وقال ابن أبي حاتم (1): سألت أبي: سمع الحسن من جابر؟ قال: ما أرى، ولكن هشام بن حسان يقول عن الحسن: ثنا جابر بن عبد الله، وأنا أُنِكْرُ هذا، إنما الحسن عن جابر كتابٌ، مع أنه أدرك جابرًا". اهـ.
وقال ابن المديني (2): سمعت يحيى -يعني القطان- وقيل له: كان الحسن يقول: سمعت عمران بن حصين؟ فقال: أمّا عن ثِقةٍ فلا". اهـ.
بل ترك يحيى بن سعيد القطان أسامة بن زيد الليثي، لمّا روى عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب، مع اتفاق أصحاب الزهري على روايته عن سعيد بالعنعنة (3).
وأمثلةُ هذا الضّرْبِ من النّقْد أكثرُ من أنْ تُحْصى.
وبالجملة فهذا الباب يحتمل كتابًا مستقلًا، ولعلي أُفرده بالتصنيف إن شاء الله تعالى، في رسالة مستقلة.
والمقصود هاهنا التذكيرُ بِعِظمِ قدر أئمة النّقْدِ، والتقريبِ لما كانوا يتمتعون به من ملكاتٍ فذّةٍ، وغرائز حديثيةٍ متميزةٍ، وحافطةٍ ثاقبةٍ، وأفهامٍ دقيقةٍ، ويقظةٍ عاليةٍ، وهِمّةٍ سامِقةٍ، وصبْرٍ على شظفِ العيش لا يُوصف، وتحملٍ لمشقات الرِّحلة لا يُبارى.
هذا مع اعتقادِ أن الكمال لله وحده، وأن لا عصمة إلا لمن عصمهُ الله تعالى، ولكنّ الحقّ لا يغيبُ عن جماعةِ أهْلِ النّقْدِ، فمنِ الناسُ بعدهم؟.
ولعلّ فيما ذكرته هاهنا مقنعٌ لمن درجُوا على الاستقلالِ بِنقْدِ الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، اغترارًا بظواهر الأسانيد، دون الاستبصار بنقد أصحاب "الملكة" وهم أهل "التخصص"، ومنْ حباهم الله سبحانه -مما سبق الإشارةُ إليه- ما أهّلهُم
(1)"المراسيل"(ص 37) رقم (115).
(2)
"جامع التحصيل"(ص 164).
(3)
انظر "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر (1/ 210)، وترجمة أسامة من "الكامل" لابن عديّ.
للقيام على هذا الثّغْرِ العظيم من ثُغُور الإسلامِ، ألا وهو حفظُ الآثارِ أنْ يُداخلها ما ليس منها، وتنْقِيتُها مما التصق بها خطئًا أو عمدًا.
وكم مِمّنْ غلبتْهُ سكْرةُ "التّعالُمِ" ونشْوتُهُ، فردّ تحقيقاتِ النُّقّادِ من طرفِ القلمِ، بأمورٍ بديهيةٍ لم تكن خافيةً على المبتدئين، وإنما أخذها هؤلاءِ "المتعالمون" مِنْ أوّلِيّاتِ أولئك الجهابذة، فانتهى هؤلاء إلى حيث يبدأ الناقدُ السّبْق، فكيف بالقاعدِ أنُ يزاحِم الفُرْسان، أم كيف بالخالِفِ أن يبْلُغ العنان.
وكأنّ لسان حالِ الناقد يقول للمُتعالم:
أأبِيتُ سهْران الدُّجى وتبِيتُهُ
…
نوْمًا وتبْغِي بعْد ذاك لِحاقِي
وأرجو إذا يسّر الله تعالى إتمام هذا الكتاب -بأقسامه- كما أُحِبُّ، أن يتضح لقارئه سبيلُ القوْمِ في نقْدِ الرواة والأخبار، وعسى أن يكون ذلك داعيًا لي ولأُولي الهِمم إلى الاستعداد لِسُلُوكِه، فيكون منهم أئمةٌ مجتهدون في ذلك إن شاء الله تعالى (1).
هذا، والله تعالى الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمن.
* * *
(1) وهكذا تمنى الشيخ المعلمي في مقدمته لكتاب "الاستبصار"، وإني لأرجو أن يحقق الله -بإتمام هذا الكتاب- أمنية الشيخ من هذا الوضوح، وأن يجعلني -لإبراز منهج الشيخ المعلمي- سببًا في تمهيد هذا السَّبيل لمن يريد سلوكه، والله تعالى وليُّ التوفيق.