الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - باب
بغير ترجمة وذكر فيه حديث عبادة بن الصامت في البيعة إلى أن قال
(ح): وقال عياض: ذهب أكثر العلماء إلي أنّ الحدود كفارات، واستدلوا بهذا الحديث، ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا أَدْري الْحُدُودُ كَفَّارَة لِأهْلِهَا أَمْ لَا" لكن حديث عبادة أصح إسنادًا، ويمكن أن يكون حديث أبي هريرة ورد أوَّلًا قبل أن يُعْلِمَهُ الله تعالى أنّ الحدود كفارة، ثمّ أعلمه بعد ذلك انتهى كلامه.
وفيه نظر سنذكره وذلك أنّ حديث أبي هريرة الذي ذكره أخرجه البزار والحاكم من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة (70).وهو صحيح أخرجه أحمد عن عبد الرزّاق عن معمرًا (71). ورجاله رجال الصّحيح، لكن قال الدارقطني: أنّ عبد الرزّاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر وأرسله.
قلت: وقد وصله آدم بن أبي أياس عن ابن أبي ذئب أخرجه الحاكم (72) أيضًا فقويت رواية عبد الرزّاق وإذا كان صحيحًا فالجمع الذي ذكره القاضي عياض حسن، لكن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة هذا كان
(70) رواه البزار (1543 كشف الأستار) والحاكم (1/ 36) وقال البزار: لا نعلم رواه عن ابن أبي ذئب إِلَّا معمر
قلت ترد عليه رواية الحاكم الآتية، فإنها من رواية آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب.
(71)
لم أره عند أحمد في المسند، ولا نسبه إليه الهيثمي في المجمع.
(72)
رواه الحاكم (2/ 450).
بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى بمنى، وأبو هريرة إنّما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام حنين، فكيف يكون حديثه متقدمًا؟!
وقالوا في الجواب عنه: يمكن أن يكون أبو هريرة ما سمعه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإنّما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم قديمًا ولم يسمع بعد ذلك من النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحديث الذي يدلُّ على أنّ الحدود كفارة كما سمعه عبادة.
قلت: وفي هذا الجواب تعسف ويبطلة أنّ أبا هريرة صرح بسماعه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن الحدود لم تكن نزلت آنذاك، والحق عندي أنّ حديث أبي هريرة صحيح وهو سابق على حديث عبادة، والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصِّفَة المذكورة إنّما وقعت ليله العقبة، ونص بيعة العقبة هو ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار:"أُبَايعُكُمْ عَلى أَنْ تَمْنَعُوني مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبنَاءَكُمْ" فبايعوه على ذلك، وسَيأتي في كتاب الفتن من وجه أخر قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره .. الحديث.
وأصرح من ذلك في هذا المراد ما أخرجه أحمد والطبراني من وجه آخر
عن عبادة في قصة جرت له مع أبي هريرة عند معاوية بالشام فقال: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله إذا قدم علينا يثرب فنمنعه ممّا نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنَّة، فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الّتي بايعناه عليها.
وعند الطبراني له طرق أخرى وألفاظ قريبة من هذه، فوضح بهذا أن الذي وقع في العقبة ما ذكر.
وصدرت بعد ذلك مبايعات أخرى سيأتي ذكرها في كتاب الأحكام، منها المبايعة على مثل بيعة النِّساء، والذي يؤكد أنّها متأخرة ما جاء في بعض الطرق أنّها كانت في فتح مكّة، وآية النِّساء كانت نزلت قبل ذلك بسنتين بعد الحديبية فسيأتي في الحدود من رواية سفيان بن عيينة عن الزّهريُّ في حديث عبادة هذا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما بايعهم قرأ الآية كلها، وفي تفسير سورة الممتحنة فتلا عليه آية النِّساء {أَنّ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا} .
وللنسائي من طريق الحارث بن فضيل عن الزهريّ في أول هذا الحديث: "أَلَا تُبَايِعُوني عَلى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بالله شَيْئًا
…
" الحديث.
وللطبراني من وجه آخر: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه النِّساء يوم فتح مكّة
…
الحديث.
وهذه الطرق يحتمل أنّ تتعلّق بقوله: بايعنا، وبقوله: بايع.
ولمسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النِّساء.
ففي هذه الطرق كلها دلالة ظاهرة على أن هذه المبايعة بهذه الصِّفَة إنّما صدرت بعد بيعة العقبة بمدة ولا سيما الطريق المفسرة بأنّها كانت في فتح مكّة وذلك بعد إسلام أبي هريرة قطعًا.
ويؤيده ما أخرجه ابن أبي خيثمة من طريق أيوب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُبَايِعُكُمْ عَلىَ أنّ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا
…
" فذكر نحو حديث الباب ورجاله موثوقون.
وقد قال إسحاق بن راهويه: إذا صح الإِسناد إلى عمرو بن شعيب فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر .. انتهى.
وإذا كان عبد الله بن عمرو حضر هذه المبايعة وليس هو من الأنصار ولا
ممّن حضر بيعه العقبة ظهر تغاير البيعتين.
ومثله ما رواه الطبراني من حديث جرير: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل ما بايع عليه النِّساء
…
فذكر الحديث، وإسلام جرير متأخر عن إسلام أبي هريرة وإنّما وقع الإلتباس لأنّ عبادة حضر البيعتين، وكانت بيعة العقبة من أعظم ما يمتدح به، وكان يذكرها إذا حدث تنويهًا بسابقتيه كما ذكرها في قصة توبته في الحديث الطويل، ورجح شهودها على شهود بدر، فلما حدث بالبيعة الّتي وقعت على مبايعة النِّساء ذكر أنّه شهد العقبة وبايع فيها فتوهم من لم يقف على حقيقة ذلك أنّهما جميعًا وقعا في ليلة واحدة.
ونظير ما وقع من هذا التوهم ما أخرجه أحمد من طريق محمَّد بن إسحاق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده وكان أحد النقباء قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب، وكان عبادة من الإثنى عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى على بيعة النِّساء وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر
…
الحديث.
ووقع ذكر بيعة النِّساء في ليلة العقبة.
وفي رواية أخرى لابن إسحاق من طريق الصنابحي عن عبادة، وهذا ظاهر في اتحاد البيعتين لكن فيه وهم، وسيأتي في كتاب الأحكام من وجه آخر عن يحيى بن سعيد على الصواب ليس فيه ذكر بيعة النِّساء والحرب، وإنّما أذن فيها بعد الهجرة وذلك بعد بيعة العقبة فيحمل الأمر على أنّ عبادة حضر البيعات كلها، وكان يجمعها تارة ويفرد بعضها أخرى، والعلم عند الله تعالى.
وحاصل ما تأولته أنّ قول عبادة إنِّي من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ليلة العقبة على الإيواء والنصر والسمع والطاعة كما تقدّم ثمّ قال: وقال: بايعنا
…
الخ أي في وقت آخر وليس ذلك تفسيرًا لبيعة العقبة.
ويؤيده الإتيان بالواو العاطفة في قوله: وقال: بايعناه وقد ارتفع بهذا التفسير الذي نهجت طريقة الإشكال الذي بين حّديثي عبادة وأبي هريرة وأنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أوَّلا لَا أَدْري الْحُدُود كَفَّارة لِأَهْلِهَا أمْ لَا" حتّى سمعه أبو هريرة منه ثمّ أعلمه الله أنّ الحدود كفارة فسمعه عبادة بسماعه منه بعد ذلك ولم يَسمعه أبو هريرة (73).
قال (ع): ويبطله أنّ أبا هريرة صرح بسماعه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعه من صحابي آخر فلذلك صرح بالسماع وهذا غير ممنوع ولا محال (74).
قال (ح): هذا لا يغير شيئًا لأنّه يبقى الإِشكال الأوّل على حالة إذا بنينا على أنّ حديث عبادة متقدم وحديث أبي هريرة متأخر.
قال (ع): الثّاني يحتمل أنّه صرح بالسماع من النّبيّ صلى الله عليه وسلم لتوقفه بالسماع من صحابي آخر فإن الصّحابة كلهم عدول لا يتوهم فيهم الكذب (75).
قال (ح): قوله: الصّحابة كلهم عدول مسلم، لكن لا يعرف عن أحد منهم ولا عمن بعدهم من أهل الصدق أن يقول: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومراده أنّه سمع ذلك ممّن سمعه منه، ولو وجد ذلك لما بقي معنى ما يفصل المنقطع من المتصل، ولو اطرد هذا التجوز لما تميز حديث المدلس إذا صرح من حديثه وإذا عنعن.
قال (ع): وقوله: والحدود لم تكن نزلت إذ ذاك لا يلزم منه أنّ الحدود تكون كفارات في المستقبل (76).
قال (ح): فينحل إلى أن التقدير من أذنب ذنبًا بعد أن نزلت الحدود
(73) فتح الباري (1/ 66 - 67).
(74)
عمدة القاري (1/ 158).
(75)
عمدة القاري (1/ 158).
(76)
عمدة القاري (1/ 158).
ثمّ أقيم عليه حده فهو كفارة له، ولا يخفى ما فيه من التعسف.
قال (ع): وقوله: الحق عندي أن حديث أن هريرة صحيح غير مسلم، فإن الحديث أخرجه الحاكم وقد علم مساهلة الحاكم في باب التصحيح، وقول الدارقطني أن هشام بن يوسف أرسله، إلى أن قال: وحديث عبادة أصح، فلا يساوي حديث أبي هريرة حتّى يقع بينهما التعارض فيحتاج إلى الجمع (77).
قال (ح): لا يلزم من نسبة الحاكم إلى المساهلة في التصحيح أن يكون كلّ حديث صححه تساهل فيه، بل ينظر في السند فإن كان من رجال الصّحيح له ولم يكن فيه علة خفية قادحة فهو صحيح كما قال، والأمر هنا كذلك في الرجال، والعلّة الّتي ذكرها الدارقطني غير قادحة فإن الوصل عند كثير من المحدثين وجميع أهل الفقه والأصول مقدم على الإرسال، سلمنا أن الإرسال مقدم لكنه في رواية معمر وقد ذكرنا أن آدم وصله ولم يعارضه فيه معارض، وأما دعواه أن الجمع لا يكون إِلَّا في المتعارضين وأن شرط المتعارضين أن يتساويا في القوة، فهو شرط لا مستند له فيه بل إذا صح الحديثان وكان ظاهرهما التعارض وأمكن الجمع بينهما فهو أولى من الترجيح.
قال (ع): والدّليل على أن عبادة كان ممّن بايع ليلة العقبة، فذكر طرفًا ممّا تقدّم في سياق (ح) وأتعب نفسه في ذلك فإن (ح) ما نفى أن يكون عبادة شهد ليلة العقبة حتّى يستدل عليه.
قال (ع): وإستدلاله بقراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم آية النِّساء لا حجة له فيه لاحتمال أن يكون عبادة لما صار يحدّث بحديث ليلة العقبة كان يذكر فيه قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم آية النِّساء لأنّه حضر البيعتين (78).
(77) عمدة القاري (1/ 158).
(78)
عمدة القاري (1/ 159).
قال: ولا يخفى تعسفه وما تقدّم حمله عليه أقرب فهو أولى.
قال (ع): وتمسك هذا القائل بما وقع في حديث الصنابحي في الحديث المذكور من زيادة قوله: ولا ينتهب على أن هذه البيعة متأخرة، لأنّ بيعة الحرب إنّما شرعت بعد ليلة العقبة، والإنتهاب فرع مشروعية الحرب، وهذا التمسك فاسد لأن الإنتهاب أعم من أن يكون في المغانم وغيرها (79).
قال (ح) لكنه المتبادر [فالتمسك] وهذا التمسك به صحيح، ولو لم يكن في هذا الكتاب إِلَّا هذا الموضع لكان في غاية الدلالة على التحامل، والتغيير في وجوه المحاسن وطمس معالم الصواب والله المستعان.
قوله:
(79) عمدة القاري (1/ 159).