الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلافة بعد ذلك فليس له صبغة فقهية يُستدل بها على أحكام التعدد، لذا أدرجته ضمن القسم التاريخي لا الفقهي.
وقد كان ما حصل بين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما والأمويين المظهرَ الثالث لتعدد الخلافة في التاريخ الإسلامي، وذلك بعد ما حصل بين علي ومعاوية أولاً، ثم بين الحسن بن علي ومعاوية رضي الله عنهم ثانياً.
ولما تنازل الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية هدأت النفوس واستقرت الخلافة لمعاوية رضي الله عنه واجتمعت كلمة المسلمين عليه، ثم ما لبثت أن عادت الخلافات إلى السطح مرة أخرى عندما أراد معاوية أن يبايع لابنه يزيد بالخلافة من بعده (1)، والتي جاءت على الشكل التالي:
1 - عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية
(2):
أراد معاوية رضي الله عنه أن يعهد بالخلافة من بعده لابنه يزيد ويبايع له، حتى لا تظهر الفتنة في أمر الخلافة مرة ثانية بعد موته، ورغم ذلك فقد كان عهدُ يزيد عهدَ اضطرابات سياسية، فقد ثار عليه معظم الأمصار الإسلامية كالبصرة والكوفة والمدينة والحجاز عموماً.
وكانت بداية ظهور فكرة تولية يزيد الخلافة بعد معاوية رضي الله عنه عندما أراد معاوية رضي الله عنه أن يعزل المغيرةَ بنَ شعبة عن الكوفة، فسمع بذلك المغيرة فقدم إلى الشام وطرح عليه فكرة تولية يزيد بعده ليتراجع عن عزله وذكر له أنه يعمل على ذلك، فأعجب معاوية رضي الله عنه بذلك - ولعل الأمر كان في نفسه أيضاً - وأعاده والياً على الكوفة ليُتِمَّ ما بدأه (3).
وصار معاوية رضي الله عنه يمهِّد لإعلان ذلك، فدعا وفود الأمصار إليه وبدأ يرتب
(1) لم تكن مبايعة يزيدِ بنِ معاوية - التي طلبها معاويةُ رضي الله عنه من الناس - مبايعةً بالخلافة في حياة أبيه بل بعد وفاته، فلم يجمع معاوية رضي الله عنه بين بيعتين في وقت واحد. انظر صبح الأعشى للقلقشندي: 4/ 28. تاريخ الطبري: 3/ 248. البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 86.
(2)
انظر ترجمة ابن الزبير في فهرس التراجم رقم (82). ويزيد بن معاوية رقم (123).
(3)
تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 205. سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 39. تاريخ اليعقوبي: 2/ 219 - 220. المحاسن والمساوئ للبيهقي: 1/ 108.
الأمر (1)، ولما رفض الصحابة في المدينة طلب مروان بن الحكم أن يبايعوا ليزيد، سافر معاوية إلى المدينة ليقنعهم برأيه ويبيِّن لهم حُجَّته فخطب فيهم قائلاً: يا أيها الناس قد علمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يستخلف أحداً فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، فلما حضرته الوفاة استخلف عمر، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعونه نظراً للمسلمين، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لِما وقع الناس فيه من اختلاف.
فردَّ عليه كبار أبناء الصحابة ورفضوا قوله ورأيه، واعتبروا عمله مغايراً للسنَّة ولمفهوم الشورى والاختيار، وعلى رأسهم الحسين بن علي (2) وعبد الله بن الزبير (3) وعبد الله بن عمر (4) وعبد الرحمن بن أبي بكر (5)، وعبد الله بن عباس
(1) كانت بيعة يزيد سنة 59 هـ على ما قاله المسعودي في مروج الذهب: 3/ 34. وفي سنة 56 هـ كما قال ابن الأثير في الكامل 3/ 349، والطبري في تاريخه: 3/ 247، وابن كثير في البداية والنهاية: 8/ 86. وفي سنة 55 هـ كما في العقد الفريد: 4/ 369، وفتوح ابن الأعثم: 4/ 230. وانظر رأي الصحابي عمرو بن حزم في تولية يزيد في: مجمع الزوائد: 7/ 249 وما بعدها، باب فيما كان من أمر ابن الزبير ويزيد بن معاوية واستخلاف أبيه له.
(2)
سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 291 - 292. تاريخ الطبري: 3/ 248. الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3/ 354. البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 86. تاريخ الإسلام للذهبي: 5/ 5. العواصم من القواصم لابن العربي: ص 222 وما بعدها.
(3)
انظر مصادر الحاشية السابقة.
(4)
الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3/ 351، 352. تاريخ الطبري: 3/ 248. البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 86، 87. ولكن ابن عمر بعد ذلك لم يرض بخلع يزيد كما في صحيح البخاري: كتاب الفتن، باب إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه رقم (6578) عن نافع. ومسند أحمد: في مسند ابن عمر رقم (4844) عن نافع أيضاً قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر بيته وأهله ثم تشهد ثم قال: أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر - إلا أن يكون الإشراك بالله - أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يشرفن أحد منكم في هذا الأمر فيكون الصيلم بيني وبينه» . ومسند أبي عوانة: 4/ 206 رقم (6509). وسنن البيهقي الكبرى: 8/ 159 باب إثم الغادر للبر والفاجر رقم (16408). وانظر تفسير ابن كثير: 4/ 599 عند قوله تعالى: «ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها» .
(5)
تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 203، 196. تاريخ الإسلام للذهبي: 4/ 147 - 152. الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3/ 351. البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 86. صحيح البخاري: 4/ 1827 كتاب تفسير القرآن، باب والذي قال لوالديه أف لكما، رقم (4550) عن عائشة. وانظر ترجمة عبد الرحمن في فهرس الأعلام رقم (78).
وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم (1)، وكان ابن الزبير من أشدهم إنكاراً وكانت وجهة نظره أنه لا يجوز أن يبايع لاثنين معاً، فقد روى الأصبهاني عن ابن شهاب أن القاسم بن محمد أخبره أن معاوية أُخبر أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم خرجوا من المدينة عائذين بالكعبة من بيعة يزيد، فلما قدم معاوية مكة دعا ابن الزبير فقال له: هذا صنيعك أنت استزللت هذين الرجلين وسننت هذا الأمر وإنما أنت ثعلب رواغ لا تخرج من جحر إلا دخلت في آخر. فقال ابن الزبير: ليس بي شقاق ولكن أكره أن أبايع رجلين، أيكما أطيع بعد أن أعطيكما العهود والمواثيق! فإن كنتَ مللتَ الإمارة فبايع ليزيد فنحن نبايعه معك، ويبدو أن معاوية رضي الله عنه اتهم كل واحد منهم بأنه كان وراء رفض مبايعة يزيد ليتبين له من كان يقود هذه المعارضة (2).
وأعرَض بعد ذلك معاوية رضي الله عنه عن البيعة حتى مات الحسن بن علي رضي الله عنه سنة 51 هـ (3)، فأخذ بعدها من الناس البيعة العامة ليزيد، وترك الحسين وابن عمر وابن أبي بكر وابن الزبير رضي الله عنهم دون أن يبايعوا (4) وبهذه البيعة أصبح يزيد بن معاوية ولي العهد لأبيه، وأصبحت بيعته ملزمة للناس وهو خليفة المسلمين المنتظر، وطاعته واجبة في غير معصية الله.
وكان ما قام به معاوية رضي الله عنه في نظر بعضهم (5) - عاملاً من عوامل جمع
(1) الإمامة والسياسة المنسوب للدينوري: ص 125. البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 86. تاريخ اليعقوبي: 2/ 248.
(2)
تاريخ الطبري: 3/ 248. تاريخ خليفة بن خياط: ص 214 بإسناد حسن. حلية الأولياء للأصبهاني: 1/ 330 - 331. وانظر قول الأحنف في تولية يزيد في البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 86. وانظر رأي سعيد بن المسيب في مبايعة اثنين فأكثر في تاريخ الطبري: 3/ 666. الكامل: 3/ 349 - 355 أحداث سنة ست وخمسين. البدء والتاريخ للمقدسي: 6/ 6 - 7.
(3)
عند اليعقوبي في تاريخه: 2/ 225 كانت وفاة الحسن بن علي سنة 49 هـ. وكذا عند ابن كثير في البداية والنهاية: 8/ 37. وتاريخ خليفة بن خياط: ص 214. والبدء والتاريخ للمقدسي: 6/ 5.
(4)
تاريخ اليعقوبي: 2/ 228 - 229. الإمامة والسياسة المنسوب للدينوري: ص 126. وانظر: السنة للخلال: 3/ 520 رقم (844) وقال: رواته ثقات غير أنه مرسل. البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 86. طبقات ابن سعد: 4/ 169.
(5)
مقدمة ابن خلدون: ص 206. وانظر تعليق محب الدين الخطيب على العواصم من القواصم لابن العربي: ص 169 حاشية (2) من طبعة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف في المملكة العربية السعودية عام 1419 هـ. ومقدمة الدكتور محمد زينهم محمد عزب على كتاب قيد الشريد لابن طولون: ص 10.
كلمة المسلمين بدلاً من تفرقها بين الطامعين في الخلافة، فقد كان يزيد مؤيَّداً من قبيلة أمه بني كلب (1) وحلفائها مثل خولان وسكون وجذام، وكانت الخلافة تحتاج إلى عصبية تدعمها، وتعيد هيبتها وتستمر في حمايتها ضد الذين أفرطوا في التطاول على منصب الخلافة الذي راح ضحيته أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ومن بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وبعد وفاة معاوية أراد يزيد أن يؤكد البيعة له وذلك في نصف رجب سنة ستين وكانت سِنُّهُ حينئذ ثلاثاً وثلاثين سنة، ولما تولى كان على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وعلى مكة عمرو بن سعيد بن العاص وعلى البصرة عبيد الله بن زياد وعلى الكوفة النعمان بن بشير ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب إلى الوليد يخبره بموت معاوية وكتاباً آخر صغيراً فيه:«أما بعد فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام» ففشل، وكان أشدهم رفضاً للبيعة الحسين بن علي وابن الزبير رضي الله عنهما؛ فأما ابن الزبير فقد خرج من المدينة بعد رفضه المبايعة ليزيد حتى قدم مكة وأقام فيها، وصار يدعو إلى نفسه سراً، ثمَّ لحقه الحسين بن علي أيضاً بعد أيام، ثمَّ جاءت كتب أهل العراق إلى الحسين يسألونه القدوم عليهم فسار بجميع أهله حتى بلغ كربلاء بقرب الكوفة، فعرض له جيش عبيد الله بن زياد فقتله وقتل معه كثيراً من أهله، في قصة مأساوية ليس هنا مكان تفصيلها (2).
ولما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما أظهر ابنُ الزبير شتمَ يزيد، فأرسل له يزيد من المدينة سبعمائة وعليهم أنيس بن عمرو الأسلمي، ونحو ألفي رجل وعليهم عمرو بن الزبير، وهو أخو عبد الله بن الزبير، وكان بينهما بغض
(1) بنو كلب قبيلة عربية بدوية دانت بالنصرانية منذ عشرات السنين، وكانت تنزل قريباً من تدمر على الأرجح، وفي منتصف القرن السابع الميلادي كان زعيمهم بحدل بن أنيف وهو الذي لعب دوراً هاماً في عودة الخلافة للأمويين بعد موت معاوية الصغير. انظر: عبد الملك بن مروان لعمر أبو النصر: ص23 - 24.
(2)
تاريخ الطبري: 3/ 269 وما بعدها. وانظر خبر خروج ابن الزبير والحسين في: تاريخ خليفة: ص 251 وما بعدها. والكامل لابن الاثير: 3/ 351 وما بعدها. وتاريخ الاسلام للذهبي: 4/ 169 - 171، 5/ 7. البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 157 وما بعدها. وتاريخ اليعقوبي: 2/ 228، 241.
شديد، وأرسل عبدُ الله بن الزبير عبدَ الله بن صفوان نحو أنيس فيمن معه من أهل مكة ممن اجتمع إليه، فهزمه ابن صفوان وقتل أنيس بن عمرو، وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمرو بن الزبير فتفرق عن عمرو أصحابه فقبض عليه ومات تحت السياط وهو يقتص منه لضربه بعض الناس لمَّا كان على شرطة المدينة (1).
ثم خلع أهلُ المدينة يزيدَ وأمَّروا عليهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة. فبعث يزيدُ النعمان بن بشير الأنصاري فأمرهم بلزوم الطاعة وخوفهم الفتنة ففشل في إقناعهم. ثم إن أهل المدينة أخرجوا عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد وحصروا بني أمية بعد بيعتهم عبد الله بن حنظلة، فاجتمع بنو أمية ومواليهم ومن يرى رأيهم في ألف رجل حتى نزلوا دار مروان بن الحكم فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به، فبعث إليهم مسلم بن عقبة المري (2) على رأس جيش بلغ اثني عشر ألفاً وأمره أن يسير إليهم، فكان من أمر الحَرَّة ما كان.
ثم توجه الجيش إلى مكة لقتال ابن الزبير رضي الله عنه وعليهم الحصين بن نمير (3) بعد موت مسلم بن عقبة في الطريق، فقدم مكة لأربع بقين من المحرم سنة أربع وستين وقد بايع أهلُها وأهلُ الحجاز عبدَ الله بن الزبير واجتمعوا عليه، ولحق به المنهزمون من أهل المدينة وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفي (4) في الناس من الخوارج يمنعون البيت، وخرج ابن الزبير إلى لقاء أهل الشام ومعه أخوه المنذر، وظلوا يتقاتلون بقية المحرم وصفر كله حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين رموا البيت بالمجانيق والعرَّادات (5) وحرقوه بالنار، وأقام أهل الشام يحاصرون ابن الزبير حتى بلغهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر، فقد توفي بحوارين من أرض الشام لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر وقيل ثمانية أشهر، وكانت هذه هي المواجهة
(1) تاريخ خليفة بن خياط: ص 193. البدء والتاريخ للمقدسي: 6/ 13. البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 159.
(2)
ذكرت الروايات أن مسلم بن عقبة إنما عمِل كل ما عمله بأهل المدينة عن تديُّنٍ واعتقادٍ وظنٍ بنفسه أنه على الحق، وأنه يجب مقاتلة من خلع يد الطاعة حتى يرجع إلى الجماعة. انظر: تاريخ الطبري: 3/ 354 - 355.
(3)
انظر ترجمة الحصين بن نمير في فهرس التراجم رقم (53).
(4)
انظر ترجمة نجدة بن عامر الحنفي في فهرس التراجم رقم (116).
(5)
العَرَّادَةُ: شِبْهُ المَنْجَنِيقِ صغيرة، والجمع العَرَّاداتُ. انظر: لسان العرب: 3/ 288 مادة (عرد).