الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لفتح مصر (1).
5 -
التمهيد الفكري والديني الذي قام به الفاطميون قبل فتح مصر، وتجنيد الدعاة لنشر المذهب الشيعي في ربوع مصر قبل إرسال الحملة العسكرية إليها.
السياسة المذهبية للفاطميين ومحاولة تحويل مصر إلى المذهب الإسماعيلي:
الواقع أن استيلاء الفاطميين على مصر لم يكن مجرد حدث من أحداث السياسة، انتهى بسقوط دولة وقيام دولة أخرى على أنقاضها، بل كان أشبه بانقلاب ديني ثقافي اجتماعي واسع، صحبه تحول سياسي كبير، حيث أصبحت مصر تابعة للخلافة الفاطمية الشيعية، وانقطعت صلتها الرسمية بالخلافة العباسية السُّنية، وقد حرص الفاطميون منذ اللحظة الأولى لدخولهم مصر على أن يكون لهم بها نفوذ ديني راسخ، فجعلوا المذهب الإسماعيلي مذهباً رسميّاً لها، وحاولوا نشر هذا المذهب بكل سبيل ممكنة بين المصريين السُّنة، بل إن الفاطميين جعلوا من مصر قاعدة أساسية ومركز انطلاق وتوجيه للنشاط الإسماعيلي خارج مصر، بعد أن كانت مصر مركزاً سنيّاً يقاوم الإسماعيلية في بلاد المغرب (2).
وبدا واضحاً أن الأمان الذي بذله الفاطميون لأهالي مصر، وتضمن إطلاق الحرية الدينية للمصريين وعدم إكراههم على ترك المذهب السُّني واعتناق المذهب الشيعي، كان مجرد إجراءٍ سياسي أو خدعة سياسية، لعدم إثارة الشعور الديني للمصريين وضمان خضوعهم للحكم الجديد، لأن الفاطميين لم يحترموا عهدهم، وركزوا اهتمامهم على تحويل المصريين إلى المذهب الشيعي، وكانت السنوات الأربع التي حكم فيها جوهر من أهم فترات التاريخ الفاطمي في مصر «358 - 362 هـ» حيث تمت فيها التغييرات المذهبية والإدارية اللازمة التي عبرت عن مظاهر انتقال السيادة إلى الفاطميين (3).
وفيما يلي إطلالة سريعة على أبرز الوسائل التي اصطنعها الفاطميون لتحويل مصر إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي، وبيان موجز لمظاهر القمع والتضييق
(1) الدولة الفاطمية للدكتور عبد الله جمال الدين: ص 135 - 136.
(2)
مصر بين المذهب السُّني والمذهب الإسماعيلي في العصر الفاطمي للدكتور أحمد كامل: ص 188.
(3)
الدولة الفاطمية للدكتور أيمن سيد: ص 141 - 142.
والتعصب الذي تعَّرض له المصريون على أيدي الفاطميين:
1 -
أسند الفاطميون المناصب العليا والوظائف المهمة في الدولة - وخاصة القضاء - إلى الشيعة دون أهل السُّنة، الأمر الذي دفع فريقاً من أهل السُّنة إلى التظاهر باعتناق المذهب الشيعي من أجل الاحتفاظ بمناصبهم، أو الوصول إلى مناصب أعلى، وكذلك اعتنق بعض الذميين الإسلام ودانوا بالمذهب الشيعي، من أجل الغرض نفسه (1)، فعندما دخل جوهر مصر أقرَّ القاضي السُّني، ولكنه ألزمه بإصدار أحكامه وفق عقائد المذهب الشيعي ثمَّ أشرك معه قاضياً مغربياً هو عبد العزيز بن النعمان، اختص بنظر القضايا التي تخص المغاربة، وشيئاً فشيئاً عزل القاضي السُّني وآل القضاء بأكمله إلى قضاة شيعيين (2).
2 -
اتخذ الفاطميون المساجد الكبرى في مصر مراكز للدعاية الفاطمية، وأهمها: مسجد عمرو بن العاص، ومسجد أحمد بن طولون، والجامع الأزهر، واهتموا بتعيين أحد كبار المتفقهين في مذهب الشيعة للقيام بنشر دعوتهم، وكان يعرف بداعي الدعاة، وكانت منزلته تلي قاضي القضاة ويتزيا بزيه، ويعاونه اثنا عشر نقيباً، وله نواب في سائر البلاد، واشترطوا فيه أن يكون عالماً بجميع مذاهب أهل البيت، وكثيراً ما تقلد رجل واحد منصبيَ قاضي القضاة والدعوة (3).
وبالإضافة إلى الجامع الأزهر، فقد شيَّد الفاطميون سلسلة من الجوامع الأخرى التي كانت بمثابة مراكز لتلقين الدعوة الشيعية (4).
3 -
أمعن الفاطميون في إظهار شعائرهم الدينية المخالفة لشعائر أهل السنة، ولعل أول تغيير آثار سخط المصريين يتعلق بصوم رمضان، حيث يقضي المذهب الإسماعيلي بأن صوم رمضان وفطره يتم بالرؤية والحساب جميعاً، فإذا أشكل
(1) مصر في عصر الدولة الفاطمية للدكتور جمال الدين سرور: ص 47. حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي للدكتورة نجوى كيرة: ص 382 - 383.
(2)
الولاة والقضاة للكندي: ص 584. الخطط للمقريزي: 2/ 340. حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي للدكتورة نجوى كيرة: ص 394.
(3)
مصر في عصر الدولة الفاطمية للدكتور جمال الدين سرور: ص 47.
(4)
الخطط للمقريزي: 2/ 273، 277، 282، 283، 290. حياة العامة في مصر في العصر الفاطمي للدكتورة نجوى كيرة: ص 387.
الأمر في أحدهما التمس في الآخر، فقد أفطر القائد جوهر وأصحابه في سنة 358 هـ/ 969 م بغير رؤية وصلوا صلاة عيد الفطر بمصلى القاهرة، ولم يعجب ذلك أهل مصر وصلوا غداة هذا اليوم بالفسطاط، لأن القاضي أبا الطاهر الذهلي التمس رؤية الهلال - كما جرت العادة - على سطح جامع عمرو فلم يره، فلما بلغ ذلك القائد جوهر أنكره وتهدد من أعاد فعله، فانقطع طلب الهلال بمصر طوال حكم الفاطميين (1).
ومن الشعائر الإسماعيلية التي أظهرها الفاطميون - خلافاً لأهل السُّنة - الزيادة في الأذان بـ «حيَّ على خير العمل» ، وزيادة القنوت في الركعة الثانية من صلاة الجمعة، والمنع من قراءة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ .. } وإزالة التكبير بعد صلاة الجمعة، والأمر بأن يقال في الخطبة:«اللهم صلِّ على محمد النبي المصطفى وعلى عليّ المرتضى وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذين أذهبتَ عنهم الرجس وطهرتهم تطهيراً، اللهم صلِّ على الأئمة الراشدين آباء أمير المؤمنين الهادي المهديين» (2).
4 -
عُني الفاطميون - في سياق إبرازهم لشعائر المذهب الشيعي - بإحياء ذكرى المناسبات الشيعية والاحتفال بها، مثل الاحتفال بيوم عاشوراء - العاشر من شهر المحرم - وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بكربلاء، وعيد الغدير المعروف بغدير خُمّ، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وسبب الاحتفال به ما يرويه الشيعة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، نزل بغدير خُمّ في طريقه إلى المدينة، وأخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال:
…
«ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟» قالوا: بلى، فقال:«من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه» (3) ويعلق الشيعة أهمية
(1) اتعاظ الحنفا للمقريزي: 1/ 116. المقفى الكبير للمقريزي: 3/ 101. الولاة والقضاة للكندي: ص 584.
(2)
اتعاظ الحنفا: 1/ 117 - 121. المقفى الكبير للمقريزي: 3/ 101، 107. تاريخ ابن خلدون:4/ 48. الوافي بالوفيات: 11/ 225.
(3)
أخرجه ابن حبان في صحيحه: 15/ 376 - 377 رقم (6931) عن زيد بن أرقم. والنسائي في السنن الكبرى: 5/ 45 كتاب المناقب، باب: فضائل علي رضي الله عنه حديث (8148) عن زيد بن أرقم. وابن ماجه في سننه: 1/ 43 باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رقم (116) عن البراء بن عازب. وأحمد في مسنده: 30/ 430 عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال محقق الكتاب: صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف من أجل علي بن زيد- وهو ابن جدعان - وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم. والحاكم في المستدرك: 3/ 118 رقم (4576) عن زيد بن أرقم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وانظر: مصر في عصر الدولة الفاطمية للدكتور سرور: ص 48.
كبرى على هذا الحديث، إذ يعتبرونه بمثابة مبايعة علنية من الرسول لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
واحتفل الفاطميون كذلك بما عرف بالموالد الستة، وهي: مولد الحسين، ومولد السيدة فاطمة، ومولد الإمام علي، ومولد الحسن، ومولد الإمام الحاضر، والمولد النبوي (1).
5 -
تجاوز عمل الفاطميين في نشر مذهبهم الإسماعيلي طور الدعوة وإظهار الشعائر إلى طور التشكيك في المذهب السُّني والهجوم المباشر على أتباعه، حتى يتحولوا عنه إلى المذهب الإسماعيلي، فهاجموا الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة، وهاجموا الخلافة الأموية والخلافة العباسية اللتين عدَّهما أهل السُّنة خلافتين صحيحتين من الناحية الشرعية، وإن لم تكتمل فيهما شروط الإمامة الدينية الكاملة.
وكان دعاة المذهب الإسماعيلي منتشرين بين الناس يثيرون بعض الأمور الغامضة في الشرع والطبيعيات، ويجد بعض الناس أنفسهم في حيرة أمام تلك الأمور، فيقول لهم الدعاة: إن الدين مكتوم والأكثر له منكرون وبه جاهلون، وأن معرفة الحقيقة واليقين عند الأئمة الذين خصهم الله بالعلم ومعرفة الأسرار ولو سلَّمت الأمةُ قيادها لهم لَنَجَت من الاختلاف والافتراق، فقد تضمن هذا الكلام تشكيكاً كبيراً في المذهب السُّني، وأنه ليس شافياً وعلى الناس أن يبحثوا عن العلم والحقائق عند أصحاب المذهب الإسماعيلي كما يزعمون (2).
6 -
وحين وجد الفاطميون أن أغلب أهل السُّنة يصرُّون على مذهبهم ويرفضون التحول إلى المذهب الإسماعيلي، لجؤوا إلى سياسة الضغط والإكراه، وخاصة في الأوقات التي كانوا يشعرون فيها بقوتهم السياسية، فمن ذلك: أن
(1) الدولة الفاطمية للدكتور أيمن سيد: ص 560. اتعاظ الحنفا للمقريزي: 1/ 145 - 146، 2/ 20 - 21.
(2)
الخطط للمقريزي: 1/ 391 وما بعدها. مصر بين المذهب السُّني والمذهب الإسماعيلي للدكتور أحمد كامل: ص 171.