الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلافة العباسية في خطبته بالكوفة سنة 132هـ/750 م.
سياسة العباسيين في قمع الأمويين واستئصال شأفتهم:
انتهج العباسيون تجاه الأمويين الذين انهارت دولتهم سياسة تقوم على أمرين:
الأول: القضاء على كل نفوذ لبني أمية بين أنصارهم والمتعصبين لهم، حتى لا يفكروا في إعادة دولتهم مرة أخرى.
الثاني: الثأر والانتقام الشخصي من الأمويين لما قدموه إليهم وإلى بني هاشم عامة من إساءة وظلم أيام حكمهم.
وهذان الأمران يقضيان بتعقب الأمويين وتتبعهم في كل ناحية من نواحي الدولة، للتنكيل بهم واستئصال شأفتهم، لترسيخ نفوذ العباسيين والتمكين لدولتهم الجديدة.
وقد بدأ التنكيل بالأمويين فور قيام الخلافة العباسية، فقتلوا مروان بن محمد آخر خلفائهم، ولم يتوقف العباسيون عن استئصال شأفة البيت الأموي والثأر لموتى بني هاشم على أيديهم؛ وذلك بالفتك بأفراد بني أمية، حتى إن ابن الأثير قد خصص في كتابه الكامل فصلاً ذكر فيه من قُتل من بني أمية (1).
ففي الشام بلد الأمويين، تتبع عبد الله بن علي الأمويين رجالاً ونساء وأطفالاً فقتلهم، ولم يفلت منهم إلا القليل هربوا إلى الأندلس، وإلا بعض الأطفال الرضع، ثم زاد على ذلك فنبش قبور أساطينهم مثل: معاوية ويزيد وعبد الملك بن مروان، وكان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو؛ غير هشام بن عبد الملك؛ فإنه وجد صحيحاً، لم يَبْلَ منه إلا أرنبة الأنف، فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح» (2).
على أن أعنف عمل انتقامي قام به العباسيون ضد بني أمية يتمثل فيما عُرِف بحادثة نهر أبي فطرس (3) قرب الرملة من أرض فلسطين؛ حيث نادى عبد الله بن
(1) الكامل لابن الأثير: 5/ 429 - 432.
(2)
الكامل لابن الأثير: 5/ 430. البداية والنهاية لابن كثير: 13/ 259.
(3)
نهر صغير اسمه اليوناني القديم « patros» فعربه العرب فقالوا: أبو فطرس، وهو قرب الرملة من أرض فلسطين، مخرجه من جبل بالقرب من نابلس. انظر: معجم البلدان: 5/ 315. وتاج العروس مادة (فطرس): 16/ 336 - 337. والعصر العباسي الأول للدكتور عبد المنعم ماجد: ص 46، حاشية (2).
علي العباسي في بني أمية بالأمان، وأمرهم أن يغدوا إليه لأخذ العطاء، فاستجاب له من بني أمية نحو ثمانين رجلاً توجهوا إليه وجلسوا في مجلسه، فأمر عبد الله بقتلهم جميعاً، فضرب الجند رؤوسهم بالعمد حتى أتوا عليهم في غير رحمة، فلما قُتلوا دعا عبد الله بالغداء وأمر ببسط فبسطت عليهم وجلس يأكل فوقهم وهم يضطربون تحته، فلما فرغ من الأكل قال: ما أعلمني أكلت أكلة قط أهنأ ولا أطيب لنفسي منها، ثم أمر بهم فَجرُّوا من أرجلهم ودفنوا جميعاً في بئر حُفِرت لهم.
وأنشد شاعر بني العباس في ذلك قائلاً:
أصبح الملك ثابت الآساس
…
بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها
…
بعد مَيْل من الزمان وياس
لا تُقيلنَّ عبد شمس عثارا
…
واقطعن كل رقلة (1) وغراس
ذلُها أظهر التوددَ منها
…
وبها منكم كحر المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي
…
قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها اللـ
…
ـه بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيداً
…
وقتيلاً بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أضحى
…
ثاوياً بين غربة وتناسي (2)
وهكذا كانت الفترة الأولى من الحكم العباسي حافلة بأعمال الانتقام وإراقة الدماء والقسوة الشديدة التي ينكرها الدين، ويأباها الخلق الكريم، وقد أُثر عن أبي العباس أنه قال:«ما أبالي متى طرقني الموت، فقد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم» (3).
(1) الرقْلة: هي النَخْلة الطَويلة. انظر: لسان العرب لابن منظور: 11/ 293 مادة (رقل). النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 2/ 253.
(2)
الكامل لابن الأثير: 5/ 430. الفخري في الآداب السلطانية: ص 151. البداية والنهاية لابن كثير: 13/ 259 - 260.
(3)
الدولة العباسية للشيخ محمد الخضري: ص 59.
لقد استهان العباسيون وعمالهم بدماء الأمويين، فسفكوها ظالمين بغير وجه حق، فلم يرحموا رجلاً ضعيفاً مهزوماً، ولا امرأة لم ترفع في وجههم سلاحاً، ولا طفلاً لا ذنب له إلا أنه خرج من أصلاب بني أمية، ولقد صدر العباسيون في انتقامهم من بني أمية عن حقد دفين وكراهية سوداء يحار الباحث في تعليل أسبابها، والكشف عن بواعثها، فلم يحدث من جانب الأمويين إساءة إلى بني العباس، بل ربطت بين الأسرتين علاقات طيبة تقوم على الخضوع والطاعة من جانب العباسيين، والاحترام والمودة من جانب الأمويين الذين أقطعوا أبناء عبد الله بن عباس قرية الحميمة من بلاد الشام - كما مرَّ بنا -، ولم يكن بين الأسرتين دم مراق، وحتى عندما اكتشف مروان بن محمد أمر الدعوة العباسية وقبض على إبراهيم بن محمد المُلقب بالإمام لم يقتله ولم يعذبه، بل وضعه في سجن حران مع نفر من الخصوم من البيت الأموي نفسه، ومات إبراهيم في السجن بسبب وباء وقع في حرَّان، وذلك حسب بعض الروايات (1)، وإن كان ثمة روايات أخرى تذكر أن مروان بن محمد قتله في محبسه.
وكذلك فإن الأمويين لم يكونوا يمثلون خطراً على الدولة العباسية الناشئة بعد أن زالت دولتهم وتهاوت أركانها، وثبتت أركان الدولة الجديدة، «لكنه الحقد الأسود من جانب أبي العباس وأهل بيته ضد الأمويين الذين كان من حظهم العاثر أن يظلهم زمن العباسيين، وأن يصطلوا بنار غضبه، مع أنهم لا ذنب لهم في شيء مما اتهمهم به» (2).
ولم يتردد الإمام الأوزاعي (3) - فقيه أهل الشام ومحدثهم- في إعلان هذه الحقيقة في وجه عبد الله بن علي العباسي بطل حادثة نهر أبي فطرس، وأحد أعنف أبناء البيت العباسي وأعظمهم سفكاً للدماء، قال الأوزاعي: لما قدم عبد الله بن علي الشام، وقتل بني أمية، جلس على سريره ثم بعث إليَّ فلما صرت إلى البيت أنزلوني عن دابتي، وأخذ اثنان بعضدي وأدخلوني بين الصفوف حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فقال لي: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت:
(1) تاريخ الطبري: 7/ 436 - 437. البداية والنهاية: 13/ 246 - 248.
(2)
العصر العباسي الأول للدكتور فهمي عبد الجليل محمود: ص 27.
(3)
انظر ترجمته في فهرس التراجم: رقم (32).