الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحرمات التي تبيحها الضرورة:
لا تختص هذه المحرمات بالمطعومات - ولو كانت أربعٌ من الآيات الخمس التي جاءت بإباحة المحرم عند الاضطرار قد خُصَّت بذلك - فالضرورة عامة في إباحة كل المحرَّمات عند الاضطرار من طعام وغيره، ودليل ذلك الآية (119) من الأنعام التي جاءت عامة (1)، ومما يؤيد عمومية هذه الآية لكل المحرمات - لا كما يحيل البعض على المحرمات المذكورة في الآيات الأخرى فقط - أن آية الأنعام مكية ونزلت قبل الآيات الأربع الأخرى فلا يصح الإحالة في بيان المحرمات إلى متأخر في النزول عنها كما قال القرطبي، إلا أن يكون (فَصَّل) بمعنى (يُفصِّل)(2).
وممن قال أن الضرورة تبيح جميع المحرمات:
1 -
ابن قدامة حيث يقول: «المستثنى عن قاعدة القياس منقسم إلى ما عقل معناه وإلى ما لا يعقل؛ فالأول يصح أن يقاس عليه ما وجدت فيه العلة، من ذلك إباحة أكل الميتة ثَمَّ الضرورة صيانة للنفس واستبقاء للمهجة، يقاس عليه بقيَّةُ المحرمات إذا اضطر إليها ويقاس عليه المكره لأنه في معناه» (3). ويقول: «أجمع العلماء على تحريم الميتة حال الاختيار، وعلى إباحة الأكل منها في الاضطرار، وكذلك سائر المحرمات» (4).
2 -
ابن حزم الظاهري، فقد قال بعد أن سرد أنواعاً من الحرام - غير التي ذكرها الله تعالى في الآية - تحلُّ عند الضرورة:«أما تحليل كل ذلك للضرورة فلقول الله عز وجل: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الأنعام/119. فأسقط تعالى تحريم ما فصل تحريمه عند الضرورة فعمَّ ولم يخص، فلا يجوز تخصيص شيء من ذلك» ، وكان هذا مسلكه في باقي كتابه المحلى (5).
(1) تفسير البيضاوي: 2/ 447، يقول: إلا ما اضطررتم إليه مما حرم عليكم فإنه أيضاً حلال حال الضرورة.
(2)
تفسير القرطبي: 7/ 73.
(3)
روضة الناظر لابن قدامة المقدسي: 1/ 329 - 330 فصل: المستثنى من قاعدة القياس.
(4)
المغني لابن قدامة: 6/ 49، 9/ 330. شرح منح الجليل لعليش: 1/ 85. فقه الضرورة لعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان: ص 37. نظرية الضرورة الشرعية لجميل مبارك: ص 175.
(5)
المحلى: 7/ 426. انظر على سبيل المثال: المحلى: 1/ 174 - 175 في إباحة أبوال الإبل وألبانها لضرورة المرض، و: 177 في إباحة الحرير للمضطر. و: 10/ 75 في إباحة حلق الرأس للمرأة. و: 11/ 113 في جواز الاستنصار بأهل الذمة وأهل الحرب على أهل البغي للضرورة.
3 -
الشوكاني حيث يقول: إلا ما اضطررتم إليه أي من جميع ما حرمه عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام (1).
4 -
ابن رشد المالكي عند كلامه عن استعمال المحرمات في حال الاضطرار، قال: وأما جنس الشيء المباح فهو كل شيء محرَّم مثل الميتة وغيرها (2).
5 -
الإمام أبو بكر الرازي المشهور بالجصَّاص حيث يقول: «والضرورة المذكورة في قوله عز وجل: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الأنعام/119. منتظمةٌ لسائرِ المحرَّمات، وذكره لها في الميتة وما عطف عليها غير مانع من اعتبار عموم الآية الأخرى في سائر المحرمات» (3).
6 -
وفي شرح مجلة الأحكام جاء التعريف شاملاً لكل المحرمات: الضرورة هي العذر الذي يجوز بسببه إجراء الشيء الممنوع، أو هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعاً (4).
7 -
ويوسِّع الدكتور وهبة الزحيلي مجال الضرورة عند بيان درجة الضرورة المبيحة للمحظور فيقول: هي الضرورة التي تصل فيها درجة الاحتياج إلى أشد المراتب، فيصبح الإنسان في خطر يحدق بنفسه أو ماله ونحوهما (5).
8 -
وفي رأيي كل من قاس على ما ورد في الآيات من محرمات في جواز تناوله من المطعومات والأشربة - كمن أجاز تناول الخمر للضرورة (6) - فقد وسَّع
(1) فتح القدير للشوكاني: 2/ 156.
(2)
بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 349.
(3)
أحكام القرآن للجصَّاص: 1/ 158. وقارن بالمحصول: 2/القسم الثاني ص 471، فقد عمَّم حكم الضرورة في كل ما حُرِّم بالنص، ثم أتبع ذلك بأن القياس على محال الضرورات ممكن لاتحاد العلة.
(4)
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: المادة 21 - 22. موسوعة الفقه الإسلامي في موقع وزارة الأوقاف المصرية: 28/ 199.
(5)
نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي: ص 54.
(6)
وممن أجاز شرب الخمر لضرورة العطش الحنفية (أحكام القرآن للجصَّاص: 1/ 157 - 158) والشافعية (الأم للشافعي: 2/ 276. أحكام القرآن للشافعي: 2/ 91. المجموع للنووي: 9/ 51 وهو على قولين من أربعة أقوال، وذكر الجصَّاص في أحكام القرآن قولَ الشافعي بعدم الجواز: 1/ 158) والمالكية على قول (الفواكه الدواني للنفراوي: 2/ 340. تفسير القرطبي: 2/ 228) والحنابلة على التحقيق (المغني لابن قدامة: 9/ 137 - 138. مجموع فتاوى ابن تيمية: 14/ 471) والظاهرية {المحلى لابن حزم: 11/ 372 مسألة = = (2292)} ، كما أجازوها جميعاً لغصَّة ونحوها. انظر: الموسوعة الفقهية: 25/ 99 مادة (السكر). وانظر: نظرية الضرورة لجميل مبارك: ص 148 وما بعدها.
مجال الضرورة لتشمل غير المطعومات والأشربة التي نصَّت عليها الآيات. وهذا كله بهدف إنقاذ النفس، ومعلوم أن الحفاظ على النفس يأتي في المرتبة الثانية بعد الحفاظ على الدين. إذاً فاعتماد الضرورة في المجال السياسي إذا تعلق به حفظ الدين وحفظ الأمة جائز من باب أولى، وخاصة أن الأمور العامة تأخذ الأولوية والأهمية القصوى في دين الله.
ما سبق من الاستدلال يفتح الباب واسعاً في إعطاء الشرعية للدول الإسلامية المتعددة في العصر الحالي مراعاةً للضرورة بسبب تعذر توحيدها، ومما يدعم هذا التوجه ما تتعرض له الدول الإسلامية من ضغوط شديدة إذا حاولت بصورة أو أخرى أن تتقارب فيما بينها، حتى يمكن اعتبار بعض هذه الضغوط في درجة الإكراه، والإكراه - كما مر - والعسر أو الحرج، وخاصة إذا كان عاماً، من الأسباب المبيحة لترك الواجب واللجوء إلى أحكام الضرورة؛ لأن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة كما نصت عليه القواعد الفقهية، وهذا متوفر في تحقيق الوحدة الإسلامية هذه الأيام؛ أما العسر والحرج فواضح، وأما الإكراه فمعروف للسياسيين وله صور متعددة، وقد ذكر الكمال بن الهمام من أنواع الإكراه الإكراه الأدبي أو المعنوي؛ وهو الذي يعدم تمام الرضا ولا يعدم الاختيار، كالتهديد بحبس أحد الأصول أو الفروع أو الأخوة أو الأخوات ونحوهم وحكمه كما قرر الكمال بن الهمام من الحنفية: أنه إكراه شرعي استحساناً لا قياساً (1).
ولأنَّ الأمَّة - كما هو ملاحظ - قد تجاوزت قدر الضرورة في جواز تعدد القيادات الإسلامية ولم تتقيد بضوابط الضرورة فيها، لا بد أن أذكر أن مراعاة الضرورة لا تكون أبداً إلا لمصلحة مؤقتة وليست دائمة، وإلا لكانت هي الأصل، فبمجرد التمكن من العودة إلى المصلحة الأصلية يجب الرجوع إلى الأصل، لأن المصلحة المتحققة في حالة الضرورة مصلحة استثنائية، وهذا يعني ضرورة السعي للخروج من حالة الضرورة، لأن الهدف من تشريع أحكام الضرورة هو التخفيف
(1) شرح الدر المختار للحصكفي: 6/ 128 كتاب الإكراه. المبسوط للسرخسي: 24/ 144 كتاب الإكراه، باب الخيار في الإكراه. نظرية الضرورة للدكتور وهبة الزحيلي: ص 83.
من وطأة المشقة والحرج، فما جاز بناءً عليها يجوز الاستمرار فيه بالقدر الممكن لإزالة تلك الضرورة فقط، ولا يجوز استباحته أو فعله بأكثر مما تزول به الضرورة. وهو ما نصَّ عليه الفقهاء:«ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها» ولأن من الخطأ والتعسف في استعمال قواعد الشرع وقوانينه استخدام الضرورة وسيلة للوصول إلى أهداف تتعارض روحاً ومبدأ مع الشريعة الإسلامية، وحينئذ تكون شيئاً آخر غير الضرورة في الشرع الإسلامي، ذات الملامح المحددة والخصائص المعلومة، فإذا انحرفت عن مقاصد الشرع فقدت فعاليتها، وبَطَلَ دورُها وأصبحت عنصراً غريباً فيه (1)، وفي هذا يقول ابن تيمية:«ومع أنه يجوز تولية غير الأهل - المناصبَ من خلافة وغيرها - للضرورة إذا كان أًصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكتمل في الناس ما لابد منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» (2).
لأن استمراء البقاء في ظل الضرورة ينتج عنه استثقال الحكم الأصلي بل ربما نتج عنه نسيان الحكم الأًصلي، حيث يظن صاحب هذه الحالة أن الضرورة هي الأصل وقد روي عن مالك رحمه الله في منع عمر رضي الله عنه للصيارفة غير المسلمين من البقاء في أسواق المسلمين لممارسة الصرافة: أن عمر رأى ذلك منعاً لذريعة اعتقاد صحة التعامل بالربا، لأن هؤلاء يتعاملون بالربا فإذا تركوا دون إنكار فربما ظن بعض المسلمين أن التعامل بالربا جائز في الشرع، ومن أجل أن لا يُنسى الحكم الأصلي كان من حكمة الشارع أن جعل في كثير من التخفيفات ما يُذكِّر دائماً بالأصل حتى لا تغلب حالة الضرورة على ذهن المكلف (3).
وقبل أن أنهي الكلام على الإكراه وأثره على التصرفات، أُطلِق دعوةً للباحثين والعلماء لبحث أثر الإكراه السياسي أو الاقتصادي أو التهديد بالقوة العسكرية من الدول الغربية على الدول الإسلامية، وهل يبيح الفعلَ المكره عليه أو لا؟ وما الذي يبيحه من الأفعال وما الذي لا يبيحه؟.
(1) فقه الضرورة لعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان: ص 97 وما بعدها.
(2)
السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 33 - 34.
(3)
نظرية الضرورة الشرعية لجميل مبارك: ص 245. شرح منح الجليل لعليش: 2/ 456.