الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدايات الدولة الفاطمية:
تقدمت الإشارة إلى أن العلويين تعرضوا للتنكيل والمطاردة على أيدي العباسيين الذين استبدوا بالخلافة وقصروها على أسرتهم، بعد أن كان العباسيون في مرحلة الدعوة يرفعون شعار «الرضا من آل محمد» ، وهو شعار يشمل العلويين والعباسيين جميعاً، وحين ظهرت النوايا الحقيقية للعباسيين في الاستبداد بالخلافة، وقام العلويون ومؤيدوهم من الشيعة بثورات ضد العباسيين، كان جزاؤهم القتل والتشريد والتنكيل.
فلجأ العلويون الطامحون إلى الخلافة إلى استخدام أسلوب التنظيم الثوري السريٍّ الذي يعتمد على طائفة من الدعاة الأكفاء المخلصين لآل البيت، المؤمنين بحقهم في الخلافة، الذين انتشروا في أرجاء العالم الإسلامي بداية من منتصف القرن الثالث الهجري.
وبعد وفاة الإمام جعفر الصادق بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، طرأ على الحركة الشيعية تغيير جوهري، إذ انقسم الشيعة إلى فِرَق كثيرة، أهمُّها وأكبرها فرقتان:
(أ) الإمامية الإثنا عشرية: وهي الفرقة التي جعلت الإمامة في ابنه موسى الكاظم، ثمَّ في الأئمة من بنيه إلى الإمام الثاني عشر الحسن العسكري، ومعظم أتباع هذه الفرقة الآن في العراق وإيران.
(ب) الإمامية الإسماعيلية: وهي الفرقة التي حصرت الإمامة في إسماعيل بن جعفر الصادق، ثمَّ في ابنه محمد بن إسماعيل، ثمَّ في الأئمة من بَنيه (1)، وينتمي إلى هذه الفرقة الخلفاء الفاطميون الذين أقاموا دولتهم في المغرب الأدنى أو إفريقية أولاً سنة 296 هـ، ثمَّ نقلوا دولتهم إلى مصر سنة 358 هـ، وظلوا يحكمونها إلى سنة 567 هـ.
وقد كان الشيعة الإسماعيلية أنشط من غيرهم من طوائف الشيعة، حيث أنفذوا الدعاة إلى أقطار الدولة الإسلامية على اختلافها، وركزوا على الأنحاء
(1) التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية: ص 38. وجواهر العقود للأسيوطي: 2/ 274.
القاصية والأطراف، مثل بلاد المغرب واليمن، ذلك الصقع الذي وصفه أبو العلاء المعري بأنه «كان معدناً للمتكسبين بالتدين والمحتالين على الحق بالتزين» (1).
واتخذوا من اليمن مركزاً أساسيّاً لدعوتهم، نظراً لبعده عن مركز الخلافة ووعورة طرقه بسبب طبيعتها الجبلية، فكان اليمن - كما يقول القاضي النعمان - أصلَ الدعوة (2)، وقد ارتبطت الدعوة الإسماعيلية في اليمن بشخصية شيعية بارزة هي شخصية الداعي شهر بن حوشب، الذي انتهت إليه رئاسة الدعوة بها (3).
وقد رأى شهر بن حوشب أن المغرب إقليم مهيَّأ لنصرة الدعوة الإسماعيلية، وذلك أن التشيع منذ نشأته اتخذ صبغة مضادة للعرب وللعصبية العربية (4)، فكما اعتمد في المشرق على الموالي والفرس اعتمد في المغرب على الموالي من البربر، فقامت فيه بالفعل أسرة شيعية من الفرع الحسني أسست سنة 173هـ/ 788 م
…
«دولة الأدارسة» التي سيطرت - دون مشقة كبيرة - على المغرب الأقصى (5)، كما اشتمل المغرب الأوسط في النصف الثاني للقرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي - باستثناء الأراضي التابعة لإمام تاهرت (6) - على إمارات كثيرة تابعة للعلويين بلغ عددها تسع إمارات علوية كما يذكر الجغرافي اليعقوبي، الذي زار
(1) رسالة الغفران لأبي العلاء المعري: ص 376.
(2)
رسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان: ص 32.
(3)
رسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان: ص 41 وما بعدها. وانظر ترجمة شهر في فهرس الأعلام رقم (68).
(4)
وهذا من غرائب الأمور، فالدعوة الشيعية هي دعوة لتكون الخلافة في أفضل بيوتات العرب؛ أي في بيت آل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مع ذلك دعوة معادية للعرب وتعتمد على غير العرب من الأجناس!!
(5)
راجع عن هذه الدولة: دولة الأدارسة بالمغرب، قيامها وتطورها حتى منتصف القرن الثالث الهجري. رسالة ماجستير للدكتور حسن علي حسن.
(6)
تاهَرْت: بفتح الهاء وسكون الراء وتاء فوقها نقطتان. اسم لبلدتين متقابلتين بأقصى المغرب، بينهما وبين المسيلة ست مراحل وهي بين تلمسان وقلعة بني حماد، كثيرة الأنداء والضباب والأمطار حتى إن الشمس بها قلَّ أن تُرى، ولم تكن في طاعة صاحب إفريقية ولا بلغت عساكر المسودة إليها قط ولا دخلت في سلطان بني الأغلب وإنما كان آخر ما في طاعتهم مدن الزاب.
وكان صاحب تاهرت ميمون بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن رستم بن بهرام. وبهرام هو مولى عثمان بن عفان. وهو بهرام بن بهرام جور بن شابور بن باذكان بن شابور ذي الأكتاف ملك الفرس وكان ميمون هذا رأس الإباضية وإمامهم ورأس الصفرية والواصلية وكان يسلم عليه بالخلافة. مَلَكَ بنو رستم تاهرت مائة وثلاثين سنة. معجم البلدان: 2/ 7 - 8. وتاهرت اليوم تقع في جنوب الجزائر.
المنطقة بين سنتي 263 - 276 هـ، الموافق 876 - 889 م (1).
ولذلك أرسل إلى المغرب داعِييَن ماهرَين؛ هما أبو سفيان والحلواني، فنشرا المقالة الشيعية في منطقة قبيلة كتامة وما حولها، وعرف البربر أمر آل البيت، ودعوة هذين الداعيين للإمام المهدي الذي اقترب أوان ظهوره، فتعلقت قلوب أهل كتامة بالشيعة، وحملوا إليهم الأموال والتحف، فلم يمت هذان الداعيان إلا وقد أثمرت دعوتهما في انتظار صاحب البذر «الإمام» على حد تعبير كتَّاب الشيعة.
وكان الحلواني يقول لشيعته في المغرب: «بُعثت أنا وأبو سفيان فقيل لنا: اذهبا إلى المغرب، فإنما تأتيان أرضاً بوراً فاحرثاها واكرياها وذللاها إلى أن يأتيها صاحب البذر، فيجدها مذللة فيبذر حبه فيها» (2).
وهكذا فإن الحلواني وأبا سفيان قد أَعَّدا النفوس لقبول فكرة الدخول في الحركة الشيعية، وإقامة دولة لرجل يرتضيه الناس من أهل البيت (3).
وقد دخلت الدعوة الإسماعيلية بالمغرب طوراً حاسماً حين أرسل إليها ابنُ حوشب - بعد وفاة أبي سفيان والحلواني- داعية جديداً يتم ما بدأه السابقان، ويحوِّل الفكر الشيعي من الإطار النظري إلى واقع عملي يتجسد في دولة يحكمها الشيعة بالمغرب، وذلكم الداعية هو أبو عبد الله الشيعي (4) الذي غادر بلاد اليمن قاصداً مكة، فوصلها في موسم الحج سنة 278 هـ، وسأل عن حجاج كتامة واجتمع بهم، وسمعهم يتحدثون عن فضائل آل البيت، فاشترك معهم في الحديث، ثمَّ سألوه عن الجهة التي سوف يرحل إليها بعد الحج، فقال إنه يريد مصر، فسرُّوا بصحبته ورحلوا جميعاً من مكة وهو يخفي عنهم أغراضه، وما لبثوا أن تعلقوا به لما شهدوه من ورَعه وزهده.
وقد استطاع أبو عبد الله - بما اجتمع له من ضروب الحيل- أن يقف على جميع أحوال حجاج كتامة، فلما وصلوا مصر أخذ يودعهم، فشقَّ عليهم فراقُه
(1) انظر: كتاب البلدان لليعقوبي: ص 351 - 352. الدولة الفاطمية للدكتور أيمن سيد: ص 112.
(2)
رسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان: ص 57 - 58.
(3)
معالم تاريخ المغرب والأندلس: ص 139.
(4)
انظر ترجمة أبي عبد الله الشيعي في فهرس التراجم رقم (24).
وسألوه عن حاجته بمصر دون غيرها من البلاد، فقال إنه يريد أن يطلب فيها العلم، فقالوا له:«فأما إذا كنت تقصد هذا، فإن بلادنا أنفع لك وأطوع لأمرك ونحن أعرف بحقك» ، وما زالوا به حتى أجابهم إلى المسير بصحبتهم (1).
ووصل أبو عبد الله الشيعي إلى أرض كتامة سنة 280 هـ، وكان قد جمع المعلومات التي يريدها عن قبيلة كتامة، عن ديارهم وموقعها ومهارتهم في ركوب الخيل وحمل السلاح، وعدم وجود صلة لهم بالخليفة العباسي، وعدم خضوعهم لسلطان الأغالبة، ووجود صراعات داخلية بين قبائل البربر، ونحو ذلك من معلومات مهمة كان يحتاجها قبل دخول الدعوة الإسماعيلية مرحلة الكفاح المسلح (2).
وقد أبدى أبو عبد الله الشيعي نشاطاً كبيراً في نشر الدعوة الإسماعيلية في أوساط قبيلة كتامة، وفي المقابل فقد أكرم أهالي كتامة وفادةَ أبي عبد الله الشيعي، وأحلُّوه من أنفسهم محلَّ الإجلال والإكرام، والتفوا حوله وصاروا من شيعته، ولذلك لم يلبث أبو عبد الله أن كشف عن نواياه لرجال كتامة قائلاً:«أنا صاحب البذر الذي أخبر به أبو سفيان والحلواني» فازدادت محبتهم له، وعظم أمره فيهم، وأتته القبائل من كل مكان (3).
ولم يكد أبو عبد الله الشيعي يطمئن إلى قوة جبهته، وتغلغل المبادئ الإسماعيلية في نفوس أتباعه وشيعته، حتى بدأ جهودَه الحربية الرامية إلى إقامة دولة شيعية بالمغرب، وقد بدأ هذه الجهود حوالي سنة 289 هـ، فخضعت له مدن كثيرة، وساعده على هذا النجاح ما كان قد أصاب الدولة الأغلبية - صاحبة الحكم في تونس حينذاك- من ضعف وانحلال.
عند ذلك أرسل أبو عبد الله إلى المهدي - الإمام الإسماعيلي صاحب الدعوة، وكان يقيم في مدينة سلمية بالشام - يستدعيه للحضور إلى بلاد المغرب، فأسرع بتلبية الدعوة وخرج من الشام ومعه أموال وفيرة، ويقال إن الخليفة العباسي علم بخروجه، فأرسل إلى عماله في مصر وإفريقية يوصيهم بالقبض عليه، ولكن
(1) اتعاظ الحنفا للمقريزي: 1/ 55، 56. مصر في عصر الدولة الفاطمية في مصر للدكتور سرور: ص 8.
(2)
دراسات في تاريخ المغرب والأندلس للدكتور حسن علي: ص 34 - 39.
(3)
اتعاظ الحنفا للمقريزي: 1/ 57.
عبيد الله استطاع - بالتستر تارة، وببذل المال تارة أخرى - أن يفر من مراقبة الولاة، وانتهت به الرحلة إلى مدينة سجلماسة في المغرب الأقصى حيث قبض عليه واليها وسجنه بها (1).
وفي سنة 296 هـ تم لأبي عبد اللهِ النصرُ النهائي على الولايات القائمة في شمال أفريقيا: دولة بني مدرار في سجلماسة، ودولة بني رستم في تاهرت، ودولة الأغالبة في إفريقية (تونس)، وأطلق سراح عبيد الله، فقاد الجيش بنفسه، وسار حتى دخل مدينة رقادة في سنة 297 هـ، ونزل بقصر من قصورها، وفي يوم الجمعة خطب باسمه على منابر رقَّادة والقيروان - بعد أن قضى نهائيّاً على ملك الأغالبة- ولقب بأمير المؤمنين عبيد الله المهدي (2).
وهكذا توج الشيعة الإسماعيلية جهودهم الضخمة بالوصول إلى عرش الخلافة لتبدأ صفحة جديدة من تاريخ الدعوة الشيعية يسميها بعض الباحثين المحدثين مرحلة «الدعوة الدولة» (3).
وصار هناك خلافتين، خلافة عباسية ببغداد وخلافة فاطمية في رقَّادة، وتبعها بعد قليل إعلان خلافة ثالثة سنة 316 هـ وهي الخلافة الأموية في الأندلس، فأصبح حكم العالم الإسلامي موزعاً بين خلافات ثلاث - من حيث الظاهر (4) - خلافتان سنِّيتان هما: الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الأموية في قرطبة، وخلافة شيعية هي الخلافة الفاطمية الإسماعيلية في إفريقية.
وكان الضعف قد بدأ يدب في جسد الخلافة العباسية السُّنيَّة، بعد أن تفككت إلى دول صغيرة ولا سيما منذ عصر الخليفة الراضي (322 - 329 هـ)، حيث انفصلت الأقاليم الشرقية عن الخلافة، في حين أخذت بقية الممتلكات العباسية
(1) سيرة الحاجب جعفر لمحمد اليماني: ص 110 - 114. رسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان: ص 149. اتعاظ الحنفا للمقريزي:1/ 60 - 62.
(2)
اتعاظ الحنفا للمقريزي: 1/ 62 - 66.
(3)
الدولة الفاطمية للدكتور أيمن فؤاد سيد: ص 119 وما بعدها.
(4)
ذكرتُ في نهاية مبحث الدولة الأموية في الأندلس أنه على الحقيقة لم يكن هناك ثلاث خلافات شرعية، لأن الخلافة العباسية كانت خلافة صورية، والخلافة الفاطمية في شرعيتها شك كبير وخاصة وهي تعلن المبادئ المخالفة للشريعة، التي ذكرتُ بعضها.
تستقل تدريجيّاً عن سلطان الخلافة العباسية المركزية.
وقد صحب ضعف الخلافة العباسية - كما يذكر الدكتور أيمن فؤاد سيد- مدٌّ شيعي كبير شهده القرن الرابع الهجري أفقد الخلافة العباسية السُّنيَّة الكثير من سيطرتها وسطوتها، حتى نستطيع أن نطلق عليه «عصر انتصار الشيعة» ، فقد نجح الزيديون في إقامة دولة حاكمة في طبرستان 250 هـ/864 م وفي اليمن سنة 284 هـ/897 م، واستولى القرامطة على جنوب العراق والبحرين والإحساء، ولم يمض نحو ثلاثين عاماً على انتصار الفاطميين إلا وقد ظهر جليّاً انهيارُ سلطة الخلافة العباسية، عندما نجح البويهيون الشيعة في فرض سيطرتهم على بغداد مركز الخلافة السُّنيَّة، فكثرت بها الفتن بين الشيعة والسُّنة، وجهر بالأذان بـ
…
«حي على خير العمل» في الكرخ، كما أقيم مأتم عاشوراء لأول مرة في بغداد.
وفي الواقع فقد أصبحت الخلافة العباسية - بعد دخول البويهيين إلى مسرح الأحداث- مؤسسة اسمية تمثل السلطة العليا للإسلام السُّني، وتضفي الشرعية على السلطات المطلقة التي تمتع بها العديد من الولاة، الذين كانت لهم السيادة الحقيقية، سواء في الأقاليم أو في العاصمة العباسية نفسها (1).
لقد كان الفاطميون يمثلون في هذه الحقبة التاريخية القوةَ الفتية التي تطمح إلى مد نفوذها وسيطرتها على كل الأراضي الإسلامية، مستغلة ضعف الخلافة العباسية، فجعل الفاطميون في إفريقية - بعد أن وطدوا نفوذهم بها إلى حد ما - يتحينون الفرص للعودة إلى الشرق لتحقيق حلمهم الكبير في حكم العالم الإسلامي بدل منافسيهم من السُّنة (2).
وبقيت الدولة الفاطمية في المغرب منذ قيامها إلى انتقال إلى مصر نيفاً ونصف قرن (297 - 362 هـ) وتولى الحكم في هذه المدة أربعة من خلفائها هم:
1 -
المهدي أبو محمد عبد الله (3):
من 4 ربيع الآخر 297 هـ/909 م، إلى وفاته في 14 ربيع الأول 322 هـ.
(1) الدولة الفاطمية في مصر للدكتور أيمن سيد: ص 122.
(2)
الخطط للمقريزي: 2/ 357 - 358.
(3)
انظر ترجمة المهدي في فهرس التراجم رقم (113).