الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لينوب عن آخر في السلطان، وإنَّما لها الحق في تعيينه نائباً عنها في السُّلطان (1).
وفي الموسوعة الفقهية جاء: «الإمام وكيلٌ عن الأمة في خلافة النُّبوة في حراسة الديِّن وسياسة الدنيا» . فجعلت الإمامَ وكيلاً عن الأمة ولكنه مقيَّد بخلافة النبَّوة وقوانين الشرع (2).
مناقشة هذا الرأي:
هذا الرأي يتسم بالسطحيَّة وعدم معرفة دقائق الشريعة الإسلاميَّة، والتأثِّر بالبيئة المعاصرة، إذ لا يمكن اعتبار الأمَّة هي مصدر شرعيَّة الخليفة، فالله هو مصدر شرعيَّته، قال تعالى:" قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " آل عمران/26، ولكنَّه جل جلاله جعَلَ إرادتَه هذا الخليفةَ أو ذاك، تتجلى في اتفاق الأمة على اختياره، وهذا صريحُ قولِ الجرجاني عندما قال:«البيعة عندنا ليست مثبتة للإمامة بل هي علامة مظهرة لها كالأقيسة والإجماعات» (3). فمهمَّة الأمَّة اختيار الخليفة، ولكنَّه بعد اختيارها له، يستمدُّ شرعيتَّه من الله لا من الأمَّة، والفرق بينهما أنَّه إذا استمدَّ شرعيتَّه من الأمَّة، وكان وكيلاً لها، كان لها عزله إذا شاءت، واستبداله بغيره بسبب أو بغير سبب، في حين أنها لا تملك ذلك الحق الذي يملكه الموكِّل في عزل وكيله، إلا إذا خالف الخليفة شرع الله مخالفة قوية كالكفر، فلها عندئذ أن تعزله، ولكن لا لأنَّ هذا من حقها فقط، بل لأنَّه واجب عليها أيضاً، فقد أمرها الشرع بذلك عبر النُّصوص المختلفة التي نظَّمت هذا الأمر (4)، وأيضاً لو كان الإمام وكيلاً عن الأمة فله عزل نفسه بمفرده وليس للإمام ذلك.
ولا شك أنَّ القول بهذا يوفر استقراراً سياسياً أكبر، ينعكس استقراراً على كافة مجالات الحياة الأخرى.
(1) معالم الخلافة للدكتور الخالدي: ص 36 - 37.
(2)
الموسوعة الفقهية: 21/ 38 عند مصطلح (دولة).
(3)
شرح المواقف للجرجاني: 8/ 351. وقد سبقت الإشارة لقوله هذا في حاشية (4) من صحيفة (14).
(4)
انظر: الإمامة للآمدي: ص 13 مقدمة المحقق. حيث ذكر أن الأمة لا تملك عند الأشعرية حق فسخ عقد الإمامة إذا لم يصدر ما يوجب خلع الإمام.
وأمَّا أنَّ الخلافة هي مؤسسة اتفقت الجماعة على إقامتها فهو منافٍ للواقع ومخالفٌ للحقيقة؛ فالخلافة منصبٌ دينيٌّ تمتدُّ جذوره إلى عمق الشريعة، وهي مؤسَّسة شرعيَّة دعا إليها الشَّرع، ولم تتفق الأمَّة على إقامتها إلا بعد أن طلبها الشَّرع - كما سيأتي - والشَّرع مليءٌ بالأدلَّة على أنَّه نظَّم أمر الأمَّة في كل شيء، وجعل لها في كل مجال إماماً أو أميراً، بدءاً من أبسط حالات الاجتماع بين المسلمين، وانتهاءً بأعقدها. فقد أمر بتنصيب أميرٍ على الجماعة في السفر حتى ولو كانوا ثلاثة قال صلى الله عليه وسلم:«إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدَهم» (1)، وأمَرَ بالإمامة في الصلاة حتى ولو كانا اثنين فقط عندما قال صلى الله عليه وسلم لرجلين يريدان السفر:«إذا أنتما خرجتما فأذِّنا ثم أقيما ثم ليؤمُّكما أكبركما» (2) وهكذا في كل الأمور. وأمَّا القول بأنَّ الخليفة ينوب عن الأمة في تسيير شؤونها، فهو قولٌ صحيحٌ على ألا نقول إنَّه يستمد سلطاته منها وإنها مصدر شرعيتَّه كما هو الحال في الأنظمة الوضعيَّة (3)، لأنَّنا حينئذ نكون قد عكسنا الحقيقة، فمهمَّة الخليفة تطبيق حكم الله في الأمَّة، لا تطبيق حكم الأمَّة في نفسها قال عز وجل:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} الأنعام/57، يوسف/40. فليس للأمَّة بمفردها أن تحكم كما تشاء، ولكن وِفْقَ إرادةِ الله المتمثِّلةِ بشرعه، ثمَّ إنك لن تجد للأمَّة رأياً موحَّداً، فللنَّاس أهواء وميول مختلفة ومتضاربة، فالخليفة في هذا مثل القاضي الذي يُعَيِّنه، فإنَّه يحكم وفق الشَّرع لا
(1) سنن أبي داود: 2/ 36 كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون .. رقم (2608) عن أبي سعيد. وصحيح ابن خزيمة: 4/ 141 رقم (2541) عن عمر. والمستدرك: 1/ 611 رقم (1623) عن عمر وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ومسند أبي عوانة: 4/ 514 رقم (7538) عن أبي سعيد. وسنن البيهقي الكبرى: 5/ 257 كتاب الحج، باب القوم يؤمرون أحدهم، بدون رقم عن أبي هريرة. وغيرهم.
(2)
روي عن مالك بن الحويرث في: صحيح البخاري: 1/ 226 كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر رقم (604). وصحيح مسلم: 1/ 466 كتاب المساجد، باب من أحق الإمامة رقم (674). وسنن الترمذي: 1/ 399 كتاب الصلاة باب ما جاء في الأذان في السفر رقم (205). وسنن النسائي: 2/ 8 كتاب الأذان، باب أذان المنفردين في السفر رقم (634). والسنن الكبرى للنسائي: 1/ 280 كتاب الإمامة والجماعة، تقديم ذي السن رقم (856).
(3)
إن قيام المجتهدين في الدولة الإسلامية بمحاولة معرفة حكمٍ من أحكام الأمور المستجدة في وقائع الحياة المتجددة، ليس تشريعاً بالمعنى المطلق للكلمة، وليس عملُ المجتهدين في النظام الإسلامي مقابلاً للمجالس التشريعية في الأنظمة الوضعية، لأن مهمة المجتهدين هي معرفة حكم الله في واقعة معينة استناداً لأدلة شرعية كثيرة معروفة في كتب أصول الفقه وغيرها، فعملهم هو إظهار حكم الله.
وفق إرادة الخليفة (1).
وأمَّا الخوف من إعطاء الخلافة صلاحيات ومهمات فوق ما تحتمل، فهو توهُّمٌ لأنَّ منصب الخلافة لا يملك صلاحيَّات خارقة، أو غير محددة بضوابط شرعيَّة، وإن كان الخليفة في الحقيقة يملك صلاحيات كبيرة، ولكنَّها من مسؤوليَّاته قبل أن تكون من امتيازاته، ولأجلِها كانت ساعةُ عدلٍ من إمام عادل خيراً من عبادة ستِّين سنة قال صلى الله عليه وسلم:«يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستِّين سنة» (2) ولأجلِها كانت مسؤوليتُه عظيمةً أمام الله إذا لم يحكم بالعدل حيث تَعُودُ عليه الخلافةُ حينها بالنَّدامة، قال صلى الله عليه وسلم:«ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى اللهَ عز وجل مغلولاً يوم القيامة، يده إلى عنقه، فكَّه برُّه أو أوبقه إثْمُه، أوَّلُها ملامة وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة» (3).
بقي أن أشير إلى مبدأ الرقابة على السُّلطة - والذي يرتبط بمبدأ السِّيادة- في مدى تطبيقها لأمر الله بالشَّكل الحسن، فعلى قولِ مَنْ قال إن السِّيادة للأمَّة؛ تكون عندها هي الرقيب على الدولة، وهذا من الناحية العملية لا يحدث لخوف أفراد الأمَّة من سطوة الدولة، لاختلال موازين القوى بينهما. وأمَّا القول: إنَّ السِّيادة هي للشَّريعة، أي لله عز وجل، فعندها تكون الرقابة أقوى وأكثر فاعليَّة إِنْ
(1) وانظر: خصائص التشريع الإسلامي للدكتور فتحي الدريني: ص 184.
(2)
قال في مجمع الزوائد في 5/ 197: «رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه سعد أبو غيلان الشيباني ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات» ، وقال في: 6/ 263 باب إقامة الحدود: «رواه الطبراني في الأوسط ولا يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد وفيه زريق بن السخت لم أعرفه» . وانظر المعجم الكبير للطبراني: 11/ 337 رقم (11932) عن ابن عباس. والمعجم الأوسط للطبراني: 5/ 92 رقم (4765) عن ابن عباس. وسنن البيهقي الكبرى: 8/ 162 كتاب قتال أهل البغي، باب فضل الإمام العادل، بدون رقم، عن ابن عباس. وشعب الإيمان للبيهقي: 6/ 19 رقم (7379 مكرر) عن ابن عباس.
(3)
رواه أحمد في مسنده: 36/ 635 رقم (22300) عن أبي أمامة قال محقق الكتاب: صحيح لغيره لاضطراب إسماعيل بن عياش فيه و: 15/ 351 - 352 رقم (9573) عن أبي هريرة قال محقق الكتاب: إسناده قوي. المعجم الكبير للطبراني: 8/ 173 رقم (7724) عن أبي أمامة. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 205 كتاب الخلافة باب فيمن ولي شيئاً: «رواه أحمد والطبراني وفيه يزيد بن أبي مالك وثقه ابن حبان وغيره وبقية رجاله ثقات» . وروي بلفظ ليس فيه الجملة الأخيرة عند الطبراني في الأوسط: 6/ 216 رقم (6225). وانظر خصائص التشريع الإسلامي للدكتور الدريني: ص 81 حيث جعل قيام الأمة باختيار الخليفة مُؤْذناً بسيادتها في التولية، ولم يقل إن هذا دليل على سيادتها المطلقة وأنها صاحبة السلطات التي ينالها الخليفة بعد توليه.