الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم، أصلح الله الأمير. قال: ما تقول في دماء بني أمية؟ قلت: لقد كان بينك وبينهم عهود، وكان ينبغي أن تَفُوا بها، قال: ويحك، اجعلني وإياهم لا عهد بيننا، فأجهشت نفسي وكرهت القتل، فتذكرت مقامي بين يدي الله فلفظتها، فقلت: دماؤهم عليكم حرام، فغضب وانتفخت أوداجه واحمرت عيناه، فقال لي: ويحك ولم؟! قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه» (1)، قال: ويحك، أوَ ليس الأمر لنا ديانة؟! قلت: كيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي؟! قلت: لو أوصى إليه ما حكَّم الحكمين، فسكتَ وقد اجتمع غضباً، فجعلت أتوقع أن يسقط رأسي بين يدي، فأومأ بيده أن أخرجوه» (2).
ويُروى كذلك أن الأوزاعي التقى بعد ذلك بأبي جعفر المنصور، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بيده جريدة يستاك بها ويروع عنه المنافقين، فأتاه جبريل فقال: يا محمد ما هذه الجريدة بيدك؟! اقذفها، لا تملأ قلوبهم رعباً، فكيف بمن سفك دماءهم وأنهب أموالهم؟! (3).
الفقهاء والخلافة العباسية:
كان المسلمون من أهل السنة ينظرون إلى الخلافة العباسية على أنها خلافة شرعية، يجب طاعة خلفائها بمقتضى عقد البيعة بين الخليفة والرعية. ولعل نظرتهم - ولا سيما الفقهاء منهم - إلى الخلافة العباسية لا تختلف عن نظرتهم إلى الخلافة الأموية من ناحية استيفاء مقومات الشرعية، ولم يشذ عن هذا الموقف سوى طوائف الشيعة الذين كانوا يرون أن الخلافة يجب أن تكون في أبناء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن العباسيين قد ابتزوهم حقَّهم، واستأثروا بالخلافة دونهم.
ولا ريب أن قوة الدعاية العباسية وبراعة تنظيمها هي التي هيأت الرأي العام الإسلامي لقبول خلافتهم، والاعتقاد بأنها خلافة شرعية ولا سيما أن العباسيين
(1) صحيح البخاري: 6/ 2521 كتاب الديات، باب قول الله تعالى أن النفس بالنفس رقم (6484) عن ابن مسعود. صحيح مسلم: 5/ 106 كتاب القسامة والمحاربين، باب ما يباح به دم المسلم رقم (4468) عن ابن مسعود. وغيرهما.
(2)
سير أعلام النبلاء: 7/ 129.
(3)
حلية الأولياء للأصبهاني: 6/ 137. العقد الفريد لابن عبد ربه: 3/ 120.
ينتمون إلى بني هاشم، وأن دولتهم قد اشتقت اسمها من العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم. وقد آمن العباسيون إيماناً مطلقاً بحقهم في الخلافة، ويبين ذلك بياناً شافياً خطبة أبي العباس السفاح في أهل الكوفة، وهي الخطبة التي أتمها عمه داود بن علي، فكان مما قاله: «
…
ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد
…
واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منَّا حتى نسلمه إلى عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم» (1).
ومع ذلك فقد كان العباسيون يدركون أن عدداً من المسلمين - من العرب أو الموالي الفرس- لا يرضون بخلافتهم، ويرون أن العلويين أحق بها، وأن العباسيين قد خدعوهم حين صدروا دعوتهم بهذا الشعار المضلل «الرضا من آل البيت» (2).
ولذلك لجأ العباسيون في تثبيت حكمهم وتأكيد شرعيتهم إلى العلماء والقضاة والفقهاء، فجعلوا يقربونهم ويسبغون عليهم ألوان التقدير والاحترام، ويعتمدون عليهم في إدارة وظائف الدولة ومرافقها، ولا سيما القضاء.
ونعتقد أن العلماء والفقهاء والقضاة كانوا يؤسسون موقفهم من شرعية الخلافة العباسية على حكم الضرورة أو الواقع، فثمة حِكَمٌ كثيرة تترتب على الاعتراف بهذه الخلافة، ويدلنا هذا على مدى ما يمتاز به الفقه الإسلامي من مرونة تساير الواقع، وهذه الحِكَم المشار إليها هي أن يستمر الاعتراف بوجود الدولة وشرعيتها واتصال حياتها، وأن تُضفَى على الأحكام الصادرة عنها صفة الشرعية ولا سيما الأحكام الدينية، فينتفي بذلك الحرج عن الرعية، ولا تكون حياتهم مخالفة للدين، كما يكون هناك حفظ الوحدة والتعاون في الأمور العامة المشتركة بدل التنابذ والشقاق؛ حتى يقف الكل صفّاً واحداً تجاه الأعداء (3).
ومن جانبه فقد أدرك الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور «136 - 158هـ/754 - 775 م» الدور المهم للعلماء والقضاة في إرساء دعائم الدولة
(1) تاريخ الطبري: 7/ 428. الكامل لابن الأثير: 5/ 415.
(2)
الخلافة والدولة في العصر العباسي للدكتور محمد حلمي: ص 46 وما بعدها.
(3)
النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 283.
العباسية، سواء من حيث إضفاء الشرعية على الخلافة، أو من حيث الاستفادة بقدراتهم العملية والعلمية في تصريف شؤون الدولة، فروي عنه أنه قال: ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، فقيل له: من هم يا أمير المؤمنين؟ قال: هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم، كما أن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم إن نقصت واحدة تداعى، وذكر أول هؤلاء الأربعة فقال: أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم (1).
وقد نجح أبو جعفر المنصور في إقناع طائفة من كبار الفقهاء بقبول منصب القضاء، فكان ذلك اعترافاً ضمنيّاً منهم بشرعية الخلافة العباسية. ومن هؤلاء: ابن أبي ليلى الذي ولي قضاء الكوفة عشرين سنة «132 - 153هـ» (2)، وشريك بن عبد الله الذي ولي قضاء الكوفة منذ سنة 153هـ ثم ضم إليه الخليفة العباسي المهدي قضاء بغداد سنة 158هـ (3)، وسواد بن عبد الله الذي ولي قضاء البصرة من سنة 138هـ إلى سنة 156هـ.
على أن أشهر من ولي القضاء للعباسيين - غيرَ مدافَع- الفقيهُ الحنفي أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة.
تولى القضاء سنة 166هـ في خلافة المهدي، واستمر في منصبه في عهد الهادي والرشيد، حتى توفي بعد خمسة عشر عاماً قضاها في منصب القاضي، ولم يكن أبو يوسف فقط قاضياً يطبق شرع الله بين المتخاصمين، ويحكم بين الناس بما أنزل الله، ولكنه قام بدور النصيحة السياسية والتوجيه للخليفة، كما قام بدور التقنين لنظم الخراج والزكاة، وقدم مقترحات كثيرة في كتابه الذي ألفه بطلب من الرشيد لحماية الرعية من عسف العمال وحفظ حق الدولة، فقد بدأ كتابه المسمى «كتاب الخراج» بنصيحة للرشيد، يبصره فيها بواجبه نحو رعيته ومسؤوليته عنها أمام ربه، ويحذره من عاقبة التضييع لهذه المسؤولية، فقال له: يا أمير المؤمنين إن الله - وله الحمد - قد قلَّدك أمراً عظيماً، ثوابه أعظم الثواب، وعقابه
(1) تاريخ الطبري: 8/ 67.
(2)
الوافي بالوفيات: 3/ 184 - 185.
(3)
تاريخ الطبري: 4/ 547.
أشد العقاب، قلَّدك أمر هذه الأمَّة، فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير استرعاكهم الله، وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم، وولاك أمرهم، وليس يثبت البنيان إذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدّه على من بناه» (1).
على أن هناك من الفقهاء من رفض تقلد منصب القضاء، ليس طعناً في شرعية الحكم العباسي، ولكن إحساساً بخطورة هذا المنصب وإشفاقاً من مسؤولياته وعواقبه في الآخرة؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين» (2)، ولعل أشهر من رفض منصب القضاء في العصر العباسي، الإمام أبو حنيفة النعمان؛ حيث أشخصه أبو جعفر من الكوفة إلى بغداد، وأراد أن يوليه قضاءها فأبى، فحلف عليه ليفعلن، فحلف أبو حنيفة ألا يفعل، فحلف أبو جعفر مرة ثانية عليه ليفعلن فحلف أبو حنيفة ألا يفعل، فقال الربيع: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف! قال: أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني، فأمر أبو جعفر به إلى الحبس، ثم أحضره مرة أخرى وناقشه في رفضه للقضاء، فقال أبو حنيفة له: والله ما أنا بمأمون الرضى فكيف أكون مأمون الغضب، ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو أن تلي الحكم لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك (3).
وإذا كان القضاة في الدولة العباسية قد أدوا واجبهم في ترشيد قرارات الخلفاء والعمل على تطبيق الشريعة، والإسهام في توجيه الخلفاء وتبصيرهم بواجباتهم نحو الرعية، من منطلق ما يمليه عليه منصب القضاء من أعباء ومسؤوليات، فإن الفقهاء والعلماء من خارج دائرة وظائف الدولة قد شاركوهم هذه المسؤولية، وإن كانوا أكثر منهم صراحة وأعظم جرأة في نقد الخلفاء وبيان أخطائهم، وتجاوزاتهم فيما يمس حقوق الرعية ومصالحها، ولم يخش العلماء من إعلان كلمة الحق والجهر بها في وجه الخلفاء العباسيين حتى في بداية الدولة، حين كان السيف هو
(1) العصر العباسي الأول للدكتور فهمي عبد الجليل: ص 255 - 256.
(2)
سنن أبي داود: 3/ 298 كتاب الأقضية، باب: في طلب القضاء، رقم (3100) عن أبي هريرة. سنن ابن ماجه: 2/ 774 كتاب الأحكام، باب: ذكر القضاة (2299) عن أبي هريرة. سنن الترمذي: 3/ 614، كتاب الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي رقم (1247) عن أبي هريرة.
(3)
تاريخ بغداد: 13/ 328 - 329. مرآة الجنان لليافعي: 1/ 311. الوافي بالوفيات: 27/ 90.