الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
ومن الوظائف التي تتوظف على من يخالط الناس: استعمال الآداب الشرعية في محالِّها؛ فإنه بذلك يتشبه بالصالحين في مخالطتهم الناس رضي الله عنهم، فعليك أن تتشبه فيها إذا أردت اللحاق بهم، وإلا كنت حاكياً عنهم لا متشبهاً بهم.
وما أحسن ما أنشده القاضي الماوردي في "أدبه" لمحمد بن كناسة: [من الكامل]
مَا مَنْ رَوَىْ أَدَباً وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ
…
ويَكُفَّ عَنْ زيْغِ الْهَوَىْ بِأَدِيْبِ
حَتَّىْ يَكُوْنَ بِما تَعَلَّمَ عامِلاً
…
مِنْ صالح فَيَكُوْنَ غَيْرَ مَعِيْبِ
وَلَقَلَّمَا تُغْنِيْ إِصابَةُ قائِل
…
أَفْعَالُهُ أَفْعَالُ غَيْرِ مُصِيْبِ (1)
(1) انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 24).
والأدب عبارة عن حمل النفس على ما يُطلب ويُستحسن شرعاً، وليس المراد به ما استحسنه الأعاجم والمترفون؛ فإن هذا قد يخالف الشريعة والسنة، كاستعمال الأخونة، ورفع الطعام عن الآكلين، وارتفاع الآكل عن الطعام، وقيام الخدمة على الرؤوس وهم يأكلون، وكإطالة الأذيال، وقيامهم بين يدي كبرائهم، وركوعهم لهم إذا دخلوا عليهم، والقيام لهم عند دخولهم وخروجهم، وعند شربهم وعطاسهم دون التلفظ بالتشميت، وتقبيل الأرض بين أيديهم دون الابتداء بالسَّلام المسنون، إلى غير ذلك من آدابهم؛ فليس ذلك من الأدب في شيء، وقد نهينا عن التشبه بالأعاجم، كما سيأتي الكلام على ذلك في القسم الثاني من الكتاب.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري في "الرسالة": حقيقة الأدب اجتماع خصال الخير، ومقتضاه أنه لو تأدب في حالة، وترك الأدب في حالة لم يكن أديباً حتى يعطي كل حال وكل مقام ما يستحقه من الأدب، كما قيل:[من الطويل]
إِذَا نَطَقَتْ جاءَتْ بِكُلِّ فَصاحَةٍ
…
وإِنْ سَكَتَتْ جاءَتْ بِكُلِّ مَلِيْحِ (1)
قلت: وقد وقعت الإشارة إلى طلب الأدب من العبد في كل حال بقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ
(1) انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 316 - 317).
أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]؛ فإنه إذا كان مطلعاً على ما في النفوس، عليماً بما تخفي الصدور، فاطلاعه على الظواهر أظهر.
على أنه قال: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 7]؛ فأنت في ظاهرك وباطنك بمرأى منه ومسمع، فلا ينبغي لك أن تخل بأدب مطلوب ظهوره على ظاهرك، أو حصوله في باطنك في حال أصلاً، سواء كان الأدب بينك وبينه، أو بينك وبين خلقه، والله الموفق.
وقال أبو الحسين النوري رحمه الله تعالى: من لم يتأدب للوقت، فَوَقْتُهُ مَقْتٌ.
وعقد الجد شيخ الإسلام الجد رضي الله تعالى عنه في "الجوهر الفريد في أدب الصوفي والمريد" بقوله: [من الرجز]
مَنْ لَمْ يَكُنْ ذا أَدَبٍ فِيْ الْوَقْتِ
…
عادَ عَلَيْهِ وَقْتُهُ بِالْمَقْتِ
فيتعين مطالبة النفس بالأدب في كل حين؛ لأنه قد لا يوافق أخلاقها فيحملها عليه، ولا يسامحها في شيء منه وإن قل؛ فإن الحاجة إلى الأدب شديدة الاهتمام.
ومن ثم قال الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه: نحن
إلى قليل من الأدب، أحوج منا إلى كثير من العلم (1).
وبيانه: أن العلم محبوب للنفس كله، وهي متطلبة إلى التلبس به أبداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْهُوْمانِ لا يَشْبَعانِ: طالِبُ عِلْمٍ، وَطالِبُ دنْيا". رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه (2).
بخلاف الأدب؛ فإنه خلف هوى النفس غالباً، ومن ثم سميت عقوبة العبد على الأدب تأديباً وأدباً.
ثم الأدب لا يتيسر من جهة النفس حتى يعاشر أهل الأدب، ويخالطهم، ويذل لهم، ويغتنم صحبتهم قبل فوات أحيانهم، وتغيب أعيانهم.
ومنذ زمان طويل قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: طلبنا الأدب
(1) ذكره القشيري في "رسالته"(ص: 317)، ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(32/ 445).
(2)
كذا عزاه المؤلف إلى أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وإنما رواه الحاكم في "المستدرك"(312)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10279)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(10388) عن ابن مسعود، والبزار في "المسند"(4880)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (5670) عن ابن عباس. قال العراقي في "تخريح أحاديث الإحياء" (2/ 926): رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بسند ضعيف، والبزار، والطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عباس بسند لين.
حين فات المؤدبون. رواه عنه القشيري في "الرسالة"(1).
وحكى عنه فيها تلك المقالة، وذكر فيها - أيضاً - القصة المعروفة عن الجنيد رضي الله تعالى عنه: أن السَّرِيَّ السَّقَطِيَّ رحمه الله تعالى استقضاه في حاجة، فقضاها له سريعاً، قال: فلما رجعت إليه ناولني رقعة، وقال: هذا لمكان قضاء حاجتك لي سريعاً، فقرأت الرقعة فإذا فيها: سمعت حادياً يحدو في البادية: [من الرجز]
أَبْكَيْ وَما تَدْرينَ ما يُبْكِيْنيْ
…
أَبْكِيْ حِذَارَ أَنْ تُفَارِقِيني
وَتَقْطَعِيْ حَبْلِيْ وَتَهْجُرِيْنيْ (2)
وقد أنزل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب بالمنزلة العليا، وخصه منه بالآية الكبرى حتى صار أهلاً لمناجاته، ومشافهته في ليلة الإسراء التي خصه بها دون سائر الأنبياء، ثم حفظ عليه الأدب في تلك الحالة، كما وصفه به في قوله:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، ثم أمره بحفظ الأدب في سائر أحيانه بألطف الإشارة في قوله:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218، 219]؛ عبر بالقيام عن مطلق الحركة؛ أي: حين تتحرك في أي أمر كان، وفي أي وقت كان، فاحفظ الأدب فيه؛ فإني مطلع عليك في سائر حركاتك وفي صلاتك.
(1) رواه القشيري في "الرسالة"(ص: 317)، وكذا رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 169).
(2)
انظر "الرسالة" للقشيري (ص: 362).
فالأدب الذي يكون به العبد متشبهاً بالصَّالحين هو الأدب الذي أدَّب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يؤدب به النَّاس.
روى العسكري في "أمثاله" عن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَدَّبَنِيْ رَبِّيْ فَأَحْسَنَ تأْدِيْبِي"(1).
ورواه ابن السمعاني من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وزاد فيه: "ثُمَّ أَمَرَنِيْ بِمَكارِمِ الأَخْلاقِ، وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] الآية"(2).
روى الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ أَمَرنيْ أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مِمَّا عَلَّمَنِيْ، وَأَنْ أُوَادِبَكُم"، الحديث (3).
وروى البيهقي في "الشعب" عن سمُرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ مُؤْدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَىْ مآدبه، وأدب اللهِ الْقُرآنُ فَلا تَهْجُرُوْهُ"(4).
(1) قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"(18/ 375): المعنى صحيح، لكن لا يعرف له إسناد ثابت.
(2)
رواه ابن السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء"(ص: 1). قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 73): سنده منقطع، فيه من لم أعرفه.
(3)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 385).
(4)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2012)، والإمام أحمد في "الزهد" (ص: 163).
وروى الترمذي عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يُؤْدِبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ"(1).
قلت: الصاع في الحديث مبهم، فيحتمل أن يكون المراد صاعاً من طعام، وهو المتبادر، ويحتمل أن يكون صاعاً من ذهب أو دُرٍّ، والأدب في نفس الأمر أنفس من ذلك، فلا عَدَّ فيه، والله الموفق.
وروينا في "رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري" رحمه الله تعالى عن أبي نصر الطوسي رحمه الله تعالى قال: الناس في الأدب على ثلاث طبقات:
أما أهل الدنيا أكثر آدابهم في الفصاحة، والبلاغة وحفظ العلوم، وأسمار الملوك، وشعر العرب.
وأما أهل الدين فأكثر آدابهم في رياضة النفوس، وتأديب الجوارح، وحفظ العهود، وترك الشهوات.
وأما أهل الخصوص فأكثر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة
(1) رواه الترمذي (1951) وقال: غريب، وناصح هو أبو العلاء كوفي، ليس عند أهل الحديث بالقوي، ولا يُعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه.
قال ابن أبي حاتم في "علل الحديث"(2/ 240): قال أبي: هذا حديث بهذا الإسناد منكر، وناصح ضعيف الحديث.
وقال المزي في "تحفة الأشراف"(2/ 160): أصاب - الترمذي - في قوله: الكوفي، ووهم في قوله: ابن العلاء، إنما ذلك آخر بصري له حديث واحد، وكلاهما ضعيف.